بقلم الشيخ : سيد الشاعر الشافعى الأزهرى
لو تأملتَ هذه الوصية النَّبويَّة حقَّ التَّأمل ، لعلمتَ بل تيقنتَ أنه أخطر شيءٍ عليك ، وأنَّك لن تجد في مملكتك ـ وهي جسدك ـ من يُورِدُكَ المهالك غيره ، وأظنُّك لن تنازعني في هذا وأنتَ الذي قرأتَ في الكتاب ” مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ” ، أحدهما يَرْقُبُ أقوالَك وأفعالك والآخر يَعُدُّها عليك عَدَّاً في كتاب لابد أنك ستقرأه يوماً ما وإن كنت لا تقرأ .
ثم دعني أُبَيِّنُ لك خطورته حتى في الأمور التي ظنَنْتَها خيراً ، كم مرَّةٍ بُشِّرتَ فيها بخير يَقْدُم إليك ، أو هممتَ بعملٍ تُحْمَدُ عُقباه سواء كان في دينك أو في دنياك ، فدعوتَ النَّاس وقُمتَ فيهم خطيباً تذكر لهم ما بُشِّرتَ به أو لتخبرهم بما عزمتَ على فعله ؛ فما انفضُّوا من حولك إلا وقد خَارت قوتك وعُدتَ من حيث أتيت تجُرُّ أذيال الخيبة وراءك !!
لا تعجب يا صديقي فقد قيل لك : ” لا تقصص … فيكيدوا لك ” ، لكنك تعجَّلتَ وظننتَ أنه قد استوى عودك ـ ولا يزال رخواً طرياً ـ فقلتَ : ” إني حفيظٌ عليمٌ “!! ، ولستُ متعجباً من أحوالك هذه ، فأظنُّك قرأت في الكتاب نفسه ” وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا ” ، إنه اللسان يا صديقي الذي كان يخاطبه ـ صِدَّيق الأمَّة ـ كل صباح ، يُشِير إليه ويقول : ” لساني هذا أوردني المهالك ” !!
أنتَ الآن على يقين من خطره وشرِّه ، لأني ضربتُ لك مثالاً حياً تُعاني منه كُلَّما تكلمتَ ، لكني سأزيدك من الشعر بيتاً وأقول لك أن كفَّ هذا اللسان دليل قاطع على يقين راسخ في قلبك رسوخ الجبال ؛ أنك في يوم من الأيام واقفٌ لا محالة بين يَدَيْ مالك الملك وملك الملوك جلَّ وتعالى ، يسألك فتجيب ، أما سمعتَ قول سيدنا ﷺ : ” من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقُل خيراً أو ليصمت ” ، ففي الصمت نجاة! .
إنها الكلمة يا صديقي وما أدراك ما الكلمة! تَسِيلُ على لسانك مرَّة فتكون بَلْسَماً تداوى بها الجروح ، وتُقذَفُ مرَّة كبارودة حمقاء فرَّتْ لتسْكن قلباً ساكناً لِتُمَزِّق فيه الرُّوح !
أتَذْكُر تلك النَّظرة التي نظرتَها خِلْسَة وكأنَّ أحداً لم يَرَكْ ، وأنت تعلم أنها نظرة مُحرَّمة ، هي هي تلك المرأة تُصبح حليلةً لك ! أتدري كيف يكون ذلك ؟! بكلمة !! ، وكم من صُحبة رأيتَها وقد تَفَانوْا في صيانة صحبتهم هذه حتى أعجبتك ، فصرت تتمنى أن لو كنت واحداً منهم ، ترَاصُّوا فصاروا كبنيان واحد متين يُنَاطِح كل إعصار ولا يميلُ مع الرِّيح حيثُ تميل ؛ انسابت لُحْمَتُه وتصَدَّعت أركانه بسبب كلمة!!
وكم من بلدٍ كانت ءامنة مطمئنة يأتيها رزقها كل حين ، يتباهى الناس بِدُورِها وقصورها ، يرتجلون الشِّعرَ بين حدائقها ، فينساب صافياً عذباً رَقْرَاقاً تماماً كانسياب الماء في جداولها ؛ صارت أكواماً كالجبال مُكْتَظَّة ببقايا بشر!
كنتَ تسمع أصوات أطفالها يضحكون ويلعبون ، فتغير الحال فلا تسمع إلا صُراخاً وعويلاً ، وحيناً ، لا تسمع لهم حِسَّا ، وبعد هذا الماء الذي ألهم الشُّعراء بصفائه وعذوبته ورِقَّته ؛ لا يجدون ما يشربون إلا كَدِرَاً وطيناً ، وكل هذا بسبب كلمة! ، آهٍ منها هذه الكلمة! ، فما أحوجنا لوصية سيدنا ﷺ : ” أمسك عليك لسان ” ، فلا يقول إلا حقاً أو ذكراً أو … ليصمت !!