التسرع بالتكفير جهل وضلال
19 نوفمبر، 2024
الخوارج وخطرهم على الأمة
بقلم الشيخ / مصطفى القاضى
بِسمِ الله الرَّحمَنِ الرَّحِيم..
اعلَم رَحِمَكَ الله تَعَالَى أَنَّ التَّكفِيرَ لَيسَ بِالأَمرِ الهَيِّن، وَأَنَّ تَكفِيرَ مُسلِمٍ بِغَيرِ حَقٍّ مُهلِك، فَقَد حَذَّرَنَا سَيِّدُنَا رَسُولُ الله تَعَالَى مُحَمَّد عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام مِنَ التَّسَرُّعِ فِي التَّكفِيرِ فَقَال:” إِذَا قَالَ الرَّجُلُ لِأَخِيهِ يَا كَافِر، فَقَد بَاءَ بِهِ أَحَدُهُمَا “، وَأَكَّدَ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام هَذَا التَّحذِيرَ فَقَال:” لَا يَرمِي رَجُلٌ رَجُلًا بِالفُسُوق، وَلَا يَرمِيهِ بِالكُفر، إِلَّا ارتَدَّت عَلَيهِ إِنْ لَم يَكُن صَاحِبُهُ كَذَلِك”..، وَهَذَا مِنْ حِرصِهِ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام عَلَى الأُمَّةِ مِنْ فِتنَةِ التَّكفِير..
فَفِي الحَدِيثَينِ شِدَّةُ الحَظرِ عَلَى مَنْ رَمَى أَخَاه المُسلِمَ بِالكُفر، وَأَنَّ كَلِمَةَ التَّكفِيرِ تَرتَدُّ إِلَى صَاحِبِهَا إِنْ لَم يَكُن أَخُوهُ كَافِرًا..
وَبَيَّنَ السَّادَةُ العُلَمَاءُ أَنَّ الأَصلَ فِيمَا يَصدُرُ عَنِ المُسلِمِ مِنْ أَقوَالٍ وَأَفعَالٍ أَنْ يُحمَلَ عَلَى أَحسَنِ المَحَامِل، بِحَيثُ لَا تَتَعَارَضُ مَعَ أَصلِ تَوحِيدِه، وَلَا يَجُوزُ أَنْ نُبَادِرَ إِلَى تَكفِيرِه، فَإِنَّ إِسلَامَهُ قَرِينَةٌ قَوِيَّةٌ تُوجِبُ حَملَ مَا يَصدُرُ عَنهُ عَلَى مَا يَقتَضِي الإِيمَان، وَقَد عَبَّرَ أَئِمَّتُنَا رَضِيَ الله تَعَالَى عَنهُم عَنْ هَذِهِ القَاعِدَةِ بِقَولِهِم:” مَنْ صَدَرَ عَنهُ مَا يَحتَمِلُ الكُفرَ مِنْ وُجُوهٍ كَثِيرَة، وَيَحتَمِلُ الإِيمَانَ مِنْ وَجه، نَحمِلُ أَمرَهُ عَلَى الإِيمَان”..، قَالَ سَيِّدِي العَلَّامَةُ ابنُ عَابدِينَ رَضِيَ الله تَعَالَى عَنهُ فِي حَاشِيَتِه:” لَا يُفتَى بِكُفرِ مُسلِمٍ أَمكَنَ حَملُ كَلَامِهِ عَلَى مَحمَلٍ حَسَنٍ أَو كَانَ فِي كُفرِهِ خِلَاف، وَلَو كَانَ ذَلِكَ رِوَايَةً ضَعِيفَة”..
فَمَن فَعَلَ أَو قَالَ مَا يَحتَمِلُ الكُفرَ وَالإِيمَان، لَا يُكَفَّرَ إِلَّا إِذَا صَرَّحَ بِإِرَادَةِ مُوجِبِ الكُفرِ فِي فِعلِهِ أَو قَولِهِ فَحُينَئِذٍ لَا يَنفَعُهُ التَّأوِيل..
مِثَالٌ تَوضِيحِيّ: المُسلِمُ يَعتَقِدُ أَنَّ سَيِّدَنَا عِيسَى المَسِيحَ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام يُحيِي المَوتَى بِإِذنِ الله تَعَالَى، وَهُوَ غَيرُ قَادِرٍ بِنَفسِه، إِنَّمَا بِقُوَّةِ الله تَعَالَى، فَلَا يَعتَقِدُ بِأُلُوهِيَّتِه، وَالنَّصرَانِيُّ يَعتَقِدُ أَنَّهُ يُحيِي المَوتَى، وَلِكِنَّهُ يَعتَقِدُ أَنَّ ذَلِكَ بِقُوَّةٍ ذَاتِيَّةٍ وَأَنَّهُ إِلَه..
فَلَو قَالَ نَصرَانِيّ:” اعتِقَادِي أَنَّ المَسِيحَ يُحيِي المَوتَى”، فَقَالُ مُسلِمٌ كَقَولِه، فَإِنَّهُ لَا يُكَفَّرُ وَلَا يُتَّهَمُ بِالشِّرك، إِنَّمَا نَحمِلُهَا عَلَى مَا لَا يَتَعَارَضُ مَعَ أَصلِ تَوحِيدِه، إلَّا إِذَا صَرَّحَ بِإِرَادَةِ مُوجِبِ الكُفرِ هُنَا وَهُوَ اعتِقَادُ أُلُوهِيَّةِ سَيِّدِنَا المَسِيحِ عَلَيهِ السَّلَام..
فَالمُسَارَعَةُ فِي التَّكفِيرِ مِنْ صَنِيعِ كُلِّ جَاهِلٍ وَمُتَنَطِّع، وَالتَّجَرُّؤ عَلَى إِصدَارِ أَحكَامِ الكُفرِ عَلَى النَّاسِ مُحَرَّمٌ فِي شَرعِنَا الحَنِيف، لِمَا فِيهِ مِنِ استِهَانَةٍ بِالشَّرع، قَالَ سَيِّدِي حُجَّةُ الإِسلَامِ الغَزَالِيُّ رَضِيَ الله تَعَالَى عَنه:” إِنَّ التَّكفِيرَ صَنِيعُ الجُهَّال، وَلَا يُسَارِعُ إِلَى التَّكفِيرِ إلَّا الجَهَلَة”..
فَاحذَر أَيُّهَا المُسلِمُ أَنْ تُبَادِرَ إِلَى تَكفِيرِ أَخِيكَ المُسلِمِ بِمَا يَحتَمِلُ التَّأوِيل، وَفُرَّ مِنَ التَّكفِيرِ فِرَارَكَ مِنَ الأَسَد، وَإِلَّا فَإِنَّكَ عَلَى خَطَرٍ عَظِيم، حَفِظَنِي الله تَعَالَى وَإِيَّاكُم مِنَ التَّسَرُّعِ بِالتَّكفِيرِ وَأَهلِه..
وَالله تَعَالَى أَعلَم..