لا شك أن آفة شوارعنا في الأخلاق, وما نراه ونشهده على الساحة من زيادة لجرائم العنف, والبلطجة والاعتداء على حرمة الغير, إنما مرده إلى افتقاد جزء كبير من أخلاقنا وسلوكياتنا, ولعل المتأمل في حديث الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وهو يقول إنما بُعِثْتُ لأُتَمِّمَ مكارمَ و في روايةٍ ( صالحَ ) الأخلاقِ, يعرف أن الأصل في الرسالات السماوية الارتقاء بالأخلاق وتهذيب النفس, ومن بين تلك الأخلاق التي حضت عليها الشريعة الإسلامية, وأكدت عليها رسالات السماء جميعا ( خلق التسامح) والتسامح اسم جامع لكل معان العفو والصفح, والحلم والجود, وكف الأذى وكظم الغيظ, مصداقا لقول الله تعالى ﴿ الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [ آل عمران: 134]
والمتأمل في حياة النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم يجد أن هذا الخلق متأصل فيه صلى الله عليه وسلم, فهو القائل عن نفسه ” بُعِثْتُ بالحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ ” فكان صلى الله عليه وسلم هينا لينا, لما فتح مكة, قال قولته المشهورة لأهلها, ما تظنون إني فاعل بكم, قالوا أخ كريم, وابن أخ كريم, قال فاذهبوا فأنتم الطلقاء, ولما رفع بعض الصحابة صوته قائلا: اليوم يوم الملحمة رد عليه الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم قائلا اليوم يوم المرحمة, إنما بعثت رحمة للعالمين.
وهذا زيد بن سعنه وكان لا يزال على يهوديته يأخذ بمجمع رداء النبي صلى الله عليه وسلم حتى أثر ذلك في عنقه الشريف صلى الله عليه وسلم ويقول له إنكم قوم مطل … ومع هذا لم يزد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا حلما وصبرا وعفوا وسماحة, بل وأمر عمر رضي الله عنه أن يذهب مع زيد وأن يكيل له, وأن يزيد له في العطاء بسبب أن عمرا رضي الله عنه, أراد أن يفتك بزيد لما رآه يفعل ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم
هذه الأخلاق السامية والقيم العالية ما أحوجنا إليها, ما أحوجنا إلى التسامح والعفو والصفح, بيننا وبين بعضنا البعض, وأن نعلم هذا الخلق لأولادنا وبناتنا, وأن نفعل تلك الأخلاق في مدارسنا ومعاهدنا وشوارعنا.
ولله در شوقي وهو يقول: وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت — فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا
ويقول: صلاح أمرك للأخلاق مرجعه فقوّم النفس بالأخلاق تستقم
وقال أيضا: وإذا أصيب القوم في أخلاقهم فأقم عليهم مأتما وعويلا
التسامح ليس تنازل عن الحقوق بالذل والمهانة، بل هو نابع من صفاء القلوب، وما غلب عليها من الحب والعطف والرحمة والتعاطف والحنان.
التسامح ليس تنازل من ضعف أو خوف وقلة حيلة؛ بل هو صادر عن قوة إرادة وعزيمة صادقة في الانتصار على النفس والذات بكل إيجابية، بعيدًا عن السلبيات وما يصاحبها من الغضب والقسوة والعدوانية للغير.
التسامح هو التماس العذر للمخطئ، والبحث عن أسباب هذا الخطأ وإعانته على تصحيح المسار والنهوض من كبوته لما فيه خير له ولمجتمعه وأمته.
وفي الحديث الشريف حَرُم على النارِ كلُّ هيِّنٍ لينٍ سهلٍ قريبٍ من الناسِ