خطبة بعنوان ( ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى ) للشيخ ياسر عبدالبديع
26 أكتوبر، 2025
خطب منبرية

خطبة بعنوان ( ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى )
للشيخ : ياسر عبدالبديع
9 من جمادى الأولى 1447 ه
31 من أكتوبر 2025 م
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمَلْءَ مَابَيْنَهُمَا وَمُلْءَ مَاشِئْتَ يَارِبُ مِنْ شَئٍّ بَعْدَ أَهْلِ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ أَحَقُّ مَاقَالَ الْعَبْدُ وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ اللَّهُمَّ لَامُعْطَى لِمَا مَنَعْتَ وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ
سَبْحَانُكَ اللَّهُمَّ خَيْرَ مُعَلِّمٍ عَلَّمْتَ بِالْقَلَمِ الْقُرُونَ الْأُولَى أَخْرَجْتَ هَذَا الْعَقْلَ مِنْ ظُلُمَاتِهِ وَهَدَيَتَهُ النُّورَ الْمُبِينَ سَبِيلًا وَأَرْسَلْتَ بِالتَّوْرَاةِ مُوسَى مُرْشِدًا وَابْنَ الْبَتُولِ فَعَلَّمَ الْإِنْجِيلَا وَفَجَرَتْ يَنْبُوعَ الْبَيَانِ مُحَمَّدًا فَسَقَى الْحَدِيثَ وَنَاوَلَ التَّنْزِيلَا
وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا وَمُصْطَفَانَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا وَرَسُولًا أُوصِيكُمْ وَنَفْسَى بِتَقْوَى اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُو اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحُ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرُ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا أُحَدِّثُكُمْ الْيَوْمَ عَنْ مَوْضُوعٍ تَحْتَ عُنْوَانِ
ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى
العُنْصُرُ الأَوَّلُ: فَضْلُ القُرْآنِ وَأَهْلِهِ
فَإِنَّ قِرَاءَةَ القُرْآنِ وَتِلَاوَتَهُ عِبَادَةٌ مِنَ العِبَادَاتِ، مِثْلُهَا مِثْلُ سَائِرِ العِبَادَاتِ، وَهِيَ مِنَ الذِّكْرِ يُؤْجَرُ القَارِئُ عَلَى قِرَاءَتِهِ لَهُ، وَلِذَلِكَ حَثَّنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى تِلَاوَتِهِ، وَدَلَّنَا عَلَى عَظِيمِ أَجْرِهِ.
وَكَثْرَةُ القِرَاءَةِ لِلقُرْآنِ تُوَلِّدُ عِنْدَ المُسْلِمِ الَّذِي يَسْتَمْتِعُ بِقِرَاءَتِهِ لَذَّةً بِتِلَاوَتِهِ، وَرَاحَةً نَفْسِيَّةً وَاطْمِئْنَانًا فِي القَلْبِ، قَالَ تَعَالَى:
﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ ۗ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ القُلُوبُ ﴾ [الرَّعْدِ: ٢٨].
وَبِتِكْرَارِ القِرَاءَةِ بِتَلَذُّذٍ، فَإِنَّ القَارِئَ سَوْفَ يُحَاوِلُ أَنْ يَفْهَمَ مَا يَقْرَأُ مِنَ القُرْآنِ بِوَعْيٍ وَبَصِيرَةٍ، فَإِذَا فَهِمَ مَا يَقْرَؤُهُ بِوَعْيٍ وَبَصِيرَةٍ، فَإِنَّهُ لَا شَكَّ سَوْفَ يَدْخُلُ إِلَى مِحْرَابِ التَّفَكُّرِ وَالتَّدَبُّرِ، وَيَبْدَأُ بِالتَّدَبُّرِ لِآيَاتِ اللَّهِ فِي القُرْآنِ، وَعِنْدَهَا يَكُونُ عَمِلَ بِمُقْتَضَاهَا عَنْ عِلْمٍ وَوَعْيٍ وَبَصِيرَةٍ.
أَمَّا الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ وَلَا يَتَلَذَّذُ بِتِلَاوَتِهِ، وَلَا يُحَاوِلُ أَنْ يَفْهَمَ مَرَادَ اللَّهِ مِنَ الآيَاتِ الَّتِي يَقْرَؤُهَا، فَهُوَ مِثْلُ الَّذِي يَقْرَأُ فِي جَرِيدَةٍ أَوْ قِصَّةٍ، وَلِذَلِكَ قَدْ لَا يَصِلُ إِلَى مَرْحَلَةِ التَّدَبُّرِ وَالتَّفَكُّرِ، وَلِذَلِكَ كَانَ لَابُدَّ لِلمُسْلِمِ مِنْ مَعْرِفَةِ مَا أَعَدَّهُ اللَّهُ لِقَارِئِ القُرْآنِ مِنَ الجَوَائِزِ العَظِيمَةِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ.
وَقَدْ قِيلَ:
(إِنَّ فَهْمَ القُرْآنِ وَتَدَبُّرَهُ مَوَاهِبُ مِنَ الكَرِيمِ الوَهَّابِ، يُعْطِيهَا لِمَنْ صَدَقَ فِي طَلَبِهَا، وَسَلَكَ الأَسْبَابَ المُوصِلَةَ إِلَيْهَا بِجِدٍّ وَاجْتِهَادٍ، أَمَّا المُتَّكِئُ عَلَى أَرِيكَتِهِ، المُشْتَغِلُ بِشَهَوَاتِ الدُّنْيَا، وَيُرِيدُ فَهْمَ القُرْآنِ، فَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ، وَلَوْ تَمَنَّى عَلَى اللَّهِ الأَمَانِيَّ).
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى عَنِ القُرْآنِ الكَرِيمِ فِي سُورَةِ البَقَرَةِ:
﴿ الم * ذٰلِكَ الكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ ﴾ [البَقَرَةِ: ١-٢].
وَقَالَ فِي سُورَةِ الإِسْرَاءِ:
﴿ إِنَّ هٰذَا القُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴾ [الإِسْرَاءِ: ٩].
وَبَيَّنَ لَنَا اللَّهُ أَنَّ القُرْآنَ هُوَ أَحْسَنُ الحَدِيثِ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:
﴿ اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ۚ ذٰلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ [الزُّمَرِ: ٢٣].
وَبِمَا أَنَّ القُرْآنَ هُوَ مُعْجِزَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الخَالِدَةُ وَالبَاقِيَةُ وَالخَاتِمَةُ، فَهُوَ مَحْفُوظٌ بِوَعْدٍ مِنَ اللَّهِ بِحِفْظِهِ، قَالَ تَعَالَى:
﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحِجْرِ: ٩].
وَلَمْ يَنْقُصْ مِنْهُ حَرْفٌ، وَلَا زَادَ فِيهِ حَرْفٌ مُنْذُ أُنزِلَ عَلَى الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى يَوْمِنَا هٰذَا، وَمَنْ قَالَ إِنَّ القُرْآنَ نَاقِصٌ أَوْ مُحَرَّفٌ فَقَدْ كَذَّبَ بِهٰذِهِ الآيَةِ، وَمِنْهُمُ الشِّيَعَةُ الرَّوَافِضُ الِاثْنَا عَشَرِيَّةُ.
وَقَدْ شَدَّدَ عُلَمَاءُ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى إِبْقَاءِ رَسْمِ كَلِمَاتِ المُصْحَفِ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ فِي مُصْحَفِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَلَوْ خَالَفَ رَسْمُهَا الرَّسْمَ الإِمْلَائِيَّ المُحْدَثَ.
وَفِي فَضْلِ القُرْآنِ عَلَى سَائِرِ الكَلَامِ:
وَرَدَتْ أَحَادِيثُ كَثِيرَةٌ تُبَيِّنُ فَضْلَ القُرْآنِ عَلَى سَائِرِ كَلَامِ البَشَرِ، وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ تَعَالَى، فَمِنْهَا:
عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«فَضْلُ كَلَامِ اللَّهِ عَلَى كَلَامِ خَلْقِهِ كَفَضْلِ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ».
وَقَالَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الفَضْلِ بْنِ مُوسَى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ مَنْصُورٍ المَكِّيُّ الجَوَازُ، قَالَ: رَأَيْتُ سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ، فَسَأَلَهُ رَجُلٌ: يَا أَبَا مُحَمَّدٍ، مَا تَقُولُ فِي القُرْآنِ؟
فَقَالَ: «كَلَامُ اللَّهِ، مِنْهُ خَرَجَ، وَإِلَيْهِ يَعُودُ».
وَرَوَى البُخَارِيُّ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:
«خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ القُرْآنَ وَعَلَّمَهُ».
وَرَوَى البُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ:
«مَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ وَهُوَ حَافِظٌ لَهُ، مَعَ السَّفَرَةِ الكِرَامِ البَرَرَةِ، وَمَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ وَهُوَ يَتَعَاهَدُهُ وَهُوَ عَلَيْهِ شَدِيدٌ، فَلَهُ أَجْرَانِ».
وَعَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«الْمَاهِرُ بِالقُرْآنِ مَعَ السَّفَرَةِ الكِرَامِ البَرَرَةِ، وَالَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ وَيَتَتَعْتَعُ فِيهِ وَهُوَ عَلَيْهِ شَاقٌّ لَهُ أَجْرَانِ».
وَرَوَى النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَةَ وَالحَاكِمُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«إِنَّ لِلَّهِ أَهْلِينَ مِنَ النَّاسِ»،
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ هُمْ؟
قَالَ: «هُمْ أَهْلُ القُرْآنِ، أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ».
وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سُئِلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«مَنْ أَحْسَنُ النَّاسِ صَوْتًا بِالقُرْآنِ؟»
قَالَ: «مَنْ إِذَا سَمِعْتَ قِرَاءَتَهُ رَأَيْتَ أَنَّهُ يَخْشَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ».
فَضْلُ القُرْآنِ وَنُزُولُ المَلَائِكَةِ عِندَ تِلَاوَتِهِ
وَعَنْ نُزُولِ المَلَائِكَةِ عِندَ الِاجْتِمَاعِ لِتِلَاوَةِ القُرْآنِ:
رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ، وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ المَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِندَهُ».
وَرَوَى البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«لَا حَسَدَ إِلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ القُرْآنَ، فَهُوَ يَتْلُوهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ، وَرَجُلٌ آتَاهُ اللَّهُ مَالًا، فَهُوَ يُنْفِقُهُ آنَاءَ اللَّيْلِ وَآنَاءَ النَّهَارِ».
وَقَدْ حَثَّنَا الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الِالْتِزَامِ بِقِرَاءَةِ القُرْآنِ وَحِفْظِهِ، فَرَوَى البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«إِنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ القُرْآنِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الإِبِلِ المُعَقَّلَةِ، إِنْ عَاهَدَ عَلَيْهَا أَمْسَكَهَا، وَإِنْ أَطْلَقَهَا ذَهَبَتْ».
أَيْ: المَشْدُودَةِ بِالعِقَالِ، وَقَوْلُهُ: (عَاهَدَ عَلَيْهَا) أَيْ تَرَدَّدَ عَلَيْهَا وَرَاقَبَهَا.
عَظِيمُ أَجْرِ القُرْآنِ بَعْدَ المَوْتِ وَفِي الآخِرَةِ
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«يُقَالُ لِصَاحِبِ القُرْآنِ: اقْرَأْ وَارْقَ وَرَتِّلْ كَمَا كُنْتَ تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا، فَإِنَّ مَنْزِلَتَكَ عِنْدَ آخِرِ آيَةٍ تَقْرَؤُهَا».
رَوَاهُ أَحْمَدُ.
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ فِي “المُعْجَمِ الكَبِيرِ” عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«القُرْآنُ شَافِعٌ مُشَفَّعٌ، وَمَاحِلٌ مُصَدَّقٌ، مَنْ جَعَلَهُ أَمَامَهُ قَادَهُ إِلَى الجَنَّةِ، وَمَنْ جَعَلَهُ خَلْفَهُ سَاقَهُ إِلَى النَّارِ».
والمَاحِلُ: المُجَادِلُ لِصَاحِبِهِ، لِمَا يَتَّبِعُ مَا فِيهِ.
تَاجُ الوَقَارِ لِحَافِظِ القُرْآنِ فِي الجَنَّةِ
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ المُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ: عِلْمًا عَلَّمَهُ وَنَشَرَهُ، وَوَلَدًا صَالِحًا تَرَكَهُ، وَمُصْحَفًا وَرَّثَهُ، أَوْ مَسْجِدًا بَنَاهُ، أَوْ بَيْتًا لِابْنِ السَّبِيلِ بَنَاهُ، أَوْ نَهْرًا أَجْرَاهُ، أَوْ صَدَقَةً أَخْرَجَهَا مِنْ مَالِهِ فِي صِحَّتِهِ وَحَيَاتِهِ، يَلْحَقُهُ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِ».
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَيْضًا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
«إِذَا مَاتَ الإِنسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ».
وَمِنْ دَلَائِلِ صَلَاحِ الوَلَدِ وَبَرِّهِ: طَاعَتُهُ لِلَّهِ، وَقِرَاءَتُهُ لِلقُرْآنِ الكَرِيمِ، وَعَمَلُهُ بِمَا فِيهِ مِنَ الخَيْرِ وَالإِحْسَانِ.
وروى أحمدُ في مُسنده عنِ النَّبِيِّ ﷺ قال:
«تَعَلَّمُوا سُورَةَ البَقَرَةِ، فَإِنَّ أَخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، وَلَا يَسْتَطِيعُهَا البَطَلَةُ» (البَطَلَةُ: هُمُ السَّحَرَةُ).
قَالَ (الرَّاوِي): ثُمَّ مَكَثَ سَاعَةً، ثُمَّ قَالَ:
«تَعَلَّمُوا سُورَةَ البَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ، فَإِنَّهُمَا الزَّهْرَاوَانِ، يُظِلَّانِ صَاحِبَهُمَا يَوْمَ القِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أَوْ فِرْقَانِ مِنْ طَيْرٍ صَوَافَّ، وَإِنَّ القُرْآنَ يَلْقَى صَاحِبَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ حِينَ يَنْشَقُّ عَنْهُ قَبْرُهُ كَالرَّجُلِ الشَّاحِبِ، فَيَقُولُ لَهُ: هَلْ تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: مَا أَعْرِفُكَ.
فَيَقُولُ: أَنَا صَاحِبُكَ القُرْآنُ الَّذِي أَظْمَأْتُكَ فِي الهَوَاجِرِ، وَأَسْهَرْتُ لَيْلَكَ، وَإِنَّ كُلَّ تَاجِرٍ مِنْ وَرَاءِ تِجَارَتِهِ، وَإِنَّكَ اليَوْمَ مِنْ وَرَاءِ كُلِّ تِجَارَةٍ، فَيُعْطَى المُلْكَ بِيَمِينِهِ، وَالخُلْدَ بِشِمَالِهِ، وَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ تَاجُ الوَقَارِ، وَيُكْسَى وَالِدَاهُ حُلَّتَيْنِ لَا يُقَوَّمُ لَهُمَا أَهْلُ الدُّنْيَا، فَيَقُولَانِ: بِمَ كُسِينَا هَذِهِ؟ فَيُقَالُ: بِأَخْذِ وَلَدِكُمَا القُرْآنَ.
ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: اقْرَأْ وَاصْعَدْ فِي دَرَجَةِ الجَنَّةِ وَغُرَفِهَا، فَهُوَ فِي صُعُودٍ مَا دَامَ يَقْرَأُ هَذًّا كَانَ أَوْ تَرْتِيلًا».
ومعنى هَذًّا: أَي مُسْرِعًا فِي قِرَاءَتِهِ القُرْآنَ، وَيُسَمَّى أَيْضًا حَدْرًا عِندَ القُرَّاءِ.
أَصْنَافُ النَّاسِ حَسَبَ تَعَامُلِهِمْ مَعَ القُرْآنِ:
روى البُخَارِيُّ عَنْ أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ:
«مَثَلُ المُؤْمِنِ الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ كَالأُتْرُجَّةِ، طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ، وَالَّذِي لَا يَقْرَأُ القُرْآنَ كَالتَّمْرَةِ، طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلَا رِيحَ لَهَا، وَمَثَلُ الفَاجِرِ الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ كَمَثَلِ الرَّيْحَانَةِ، رِيحُهَا طَيِّبٌ وَطَعْمُهَا مُرٌّ، وَمَثَلُ الفَاجِرِ الَّذِي لَا يَقْرَأُ القُرْآنَ كَمَثَلِ الحَنْظَلَةِ، طَعْمُهَا مُرٌّ وَلَا رِيحَ لَهَا».
وفي روايةِ الطبرانيِّ في مُعْجَمِهِ:
«مَثَلُ الَّذِي يَقْرَأُ القُرْآنَ وَلَا يَعْمَلُ بِهِ كَمَثَلِ رَيْحَانَةٍ رِيحُهَا طَيِّبٌ وَلَا طَعْمَ لَهَا، وَمَثَلُ الَّذِي يَعْمَلُ بِالقُرْآنِ وَلَا يَقْرَؤُهُ كَمَثَلِ التَّمْرَةِ، طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَلَا رِيحَ لَهَا، وَمَثَلُ الَّذِي يَتَعَلَّمُ القُرْآنَ وَيُعَلِّمُهُ كَمَثَلِ الأُتْرُجَّةِ، طَعْمُهَا طَيِّبٌ وَرِيحُهَا طَيِّبٌ، وَمَثَلُ الَّذِي لَا يَقْرَأُ القُرْآنَ وَلَا يَعْمَلُ بِهِ كَمَثَلِ الحَنْظَلَةِ، طَعْمُهَا خَبِيثٌ وَرِيحُهَا خَبِيث
وَإِنَّ الهَدَفَ مِنَ المُدَاوَمَةِ عَلَى قِرَاءَةِ القُرْآنِ هُوَ الوُصُولُ إِلَى فَهْمِهِ وَتَدَبُّرِ آيَاتِهِ، وَالعَمَلِ بِمَا فِيهِ مِنْ أَوَامِرَ، وَاجْتِنَابِ مَا فِيهِ مِنْ نَوَاهٍ فِي وَاقِعِ الحَيَاةِ، حَتَّى نَكُونَ مِنَ المُهْتَدِينَ إِلَى طَرِيقِ الحَقِّ.
وَقَدْ دَلَّنَا اللهُ عَلَى صِفَاتِ مَنْ هَدَاهُمُ إِلَيْهِ، فَقَالَ تَعَالَى:
﴿ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ ﴾ [الزُّمَر: 18].
وَإِذَا كَانَ المَقْصُودُ مِنْ قِرَاءَةِ القُرْآنِ هُوَ التَّقَرُّبَ إِلَى اللهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِتِلَاوَةِ آيَاتِ كَلَامِهِ الكَرِيمِ، فَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إِلَّا بِفَهْمِ مَا يُقْرَأُ وَتَدَبُّرِ مَا يُتْلَى، لِيَتَذَكَّرَ القَارِئُ مَعَانِيَ الآيَاتِ، وَيَفْقَهَ مَا فِيهَا مِنْ حِكَمٍ وَمَوَاعِظَ، وَيَعْرِفَ مَا تَنْطَوِي عَلَيْهِ مِنْ عَقَائِدَ وَعِبَادَاتٍ وَأَحْكَامٍ وَآدَابٍ وَفَضَائِلَ وَحَلَالٍ وَحَرَامٍ وَقَصَصٍ وَأَخْبَارٍ وَتَذْكِيرٍ وَاعْتِبَارٍ.
فَإِذَا لَمْ يَتَحَقَّقِ المَقْصُودُ مِنَ القِرَاءَةِ وَهُوَ التَّدَبُّرُ وَالفَهْمُ، فَإِنَّهُ لَا خَيْرَ فِي تِلْكَ القِرَاءَةِ.
وَاللهُ سُبْحَانَهُ مَا أَنْزَلَ كِتَابَهُ إِلَّا لِيَتَدَبَّرَهُ قَارِئُوهُ، وَيَفْقَهَهُ تَالُوهُ، قَالَ تَعَالَى:
﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ ﴾ [ص: 29].
وَالقِرَاءَةُ مَعَ التَّفَهُّمِ وَالتَّدَبُّرِ تُحْدِثُ تَأَثُّرًا فِي نَفْسِ القَارِئِ، وَخُشُوعًا فِي القَلْبِ، وَخَوْفًا مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَطَمَعًا فِي رَحْمَتِهِ، وَشَوْقًا إِلَى لِقَائِهِ، وَهَذِهِ نَتِيجَةُ التَّفَهُّمِ وَالتَّدَبُّرِ حِينَ القِرَاءَةِ وَالتِّلَاوَةِ.
فَلَقَدْ أَنْزَلَ اللهُ سُبْحَانَهُ القُرْآنَ الكَرِيمَ لِيُقَدِّمَ لِلبَشَرِيَّةِ جَمِيعًا أَحْكَمَ الأَحْكَامِ التَّشْرِيعِيَّةِ، وَأَرْوَعَ الحَقَائِقِ العِلْمِيَّةِ، وَأَوْضَحَ الآيَاتِ الكَوْنِيَّةِ، لِيُحَقِّقُوا فِي ضَوْئِهَا دِرَاسَاتٍ لَا مَثِيلَ لَهَا، وَلِيَبْنُوا مِنْهَا ثَرْوَةً ضَخْمَةً مِنَ العِلْمِ لَا تَزَالُ، وَسَتَبْقَى المَادَّةَ الأُولَى وَالوَحِيدَةَ لِقِيَامِ حَضَارَةٍ عَالَمِيَّةٍ لَا مَثِيلَ لَهَا، تَنْعَمُ فِي ظِلِّهَا وَظِلَالِهَا البَشَرِيَّةُ بِكُلِّ مُسْتَوَيَاتِهَا، وَكَافَّةِ أَشْكَالِهَا، وَعَامَّةِ أَجْنَاسِهَا، بِحَيَاةٍ أَفْضَلَ، وَعَيْشٍ أَرْغَدَ، وَلِذَلِكَ كَانَ فَهْمُهُ وَتَطْبِيقُهُ مِنَ الضَّرُورِيَّاتِ اللَّازِمَةِ.
وَقَدْ أَمَرَ اللهُ رَسُولَهُ ﷺ بِتِلَاوَةِ القُرْآنِ فِي أَوَّلِ نُزُولِ القُرْآنِ، فَقَالَ تَعَالَى:
﴿ وَرَتِّلِ القُرْآنَ تَرْتِيلًا ﴾ [المُزَّمِّل: ٤]،
وَكُلُّ أَمْرٍ لِلرَّسُولِ ﷺ هُوَ أَمْرٌ لِجَمِيعِ المُؤْمِنِينَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ، مَا لَمْ يَكُنْ أَمْرًا خَاصًّا بِالرَّسُولِ.
فَتِلَاوَةُ القُرْآنِ وَقِرَاءَتُهُ عِبَادَةٌ يُؤْجَرُ المُسْلِمُ عَلَيْهَا كَسَائِرِ العِبَادَاتِ، بَلْ إِنَّ أَجْرَهُ يَتَضَاعَفُ أَكْثَرَ بِتِلَاوَتِهِ مَعَ التَّدَبُّرِ، وَلِذَلِكَ حَثَّنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ عَلَى تِلَاوَتِهِ، وَدَلَّنَا عَلَى عَظِيمِ أَجْرِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ:
«مَنْ قَرَأَ حَرْفًا مِنْ كِتَابِ اللهِ فَلَهُ بِهِ حَسَنَةٌ، وَالحَسَنَةُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا، لَا أَقُولُ: (الم) حَرْفٌ، وَلَكِنْ أَلِفٌ حَرْفٌ، وَلَامٌ حَرْفٌ، وَمِيمٌ حَرْفٌ».
وَقَدْ جَاءَ فِي السُّنَّةِ اسْتِحْبَابُ خَتْمِ القُرْآنِ فِي كُلِّ شَهْرٍ، إِلَّا أَنْ يَجِدَ المُسْلِمُ مِنْ نَفْسِهِ نَشَاطًا، فَلْيَخْتِمْ كُلَّ أُسْبُوعٍ، وَالأَفْضَلُ أَلَّا يُنْقِصَ عَنْ هَذِهِ المُدَّةِ، كَيْ تَكُونَ قِرَاءَتُهُ عَنْ تَدَبُّرٍ وَتَفَكُّرٍ، وَلِئَلَّا يُحَمِّلَ النَّفْسَ مِنَ المَشَقَّةِ مَا لَا تَحْتَمِلُ.
فَفِي الحَدِيثِ الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ ﷺ:
«اقْرَأِ القُرْآنَ فِي شَهْرٍ»،
قَالَ: قُلْتُ: أَجِدُ قُوَّةً،
حَتَّى قَالَ:
«فَاقْرَأْهُ فِي سَبْعٍ، وَلَا تَزِدْ عَلَى ذَلِكَ».
ثُمَّ قَالَ عَمْرٌو بَعْدَ أَنْ أَدْرَكَهُ الكِبَرُ:
«فَلَيْتَنِي قَبِلْتُ رُخْصَةَ رَسُولِ اللهِ ﷺ».
وَقَدْ صَحَّ عَنْهُ ﷺ أَنَّهُ قَالَ:
«يَا أَيُّهَا النَّاسُ، عَلَيْكُمْ مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَإِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللهِ مَا دُوِيمَ عَلَيْهِ وَإِنْ قَلَّ، وَكَانَ آلُ مُحَمَّدٍ ﷺ إِذَا عَمِلُوا عَمَلًا أَثْبَتُوهُ».
رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَمَعْنَى «أَثْبَتُوهُ» كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ رَحِمَهُ اللهُ: أَيْ لَازَمُوهُ، وَدَاوَمُوا عَلَيْهِ.
فَتَنَبَّهْ لِذَلِكَ – أَخِي الكَرِيمَ –، وَلَا تَكُنْ مِنَ الَّذِينَ يَهْجُرُونَ كِتَابَ اللهِ، وَلَا يَذْكُرُونَهُ إِلَّا فِي مَوَاسِمَ مُعَيَّنَةٍ.
وَلْتَحْرِصْ كُلَّ الحِرْصِ وَأَنْتَ تَتْلُو كِتَابَ اللهِ أَنْ تَسْتَحْضِرَ نِيَّةَ الإِخْلَاصِ لِلهِ سُبْحَانَهُ، وَأَنْ تَكُونَ عَلَى حَالَةٍ مِنَ الخُشُوعِ وَالوَقَارِ، لِأَنَّكَ تَتْلُو كِتَابَ رَبِّ العَالَمِينَ.
وَقَدْ كَانَ مِنْ وَصِيَّةِ بَعْضِ أَهْلِ العِلْمِ لِوَلَدِهِ، قَوْلُهُ لَهُ:
«اقْرَأِ القُرْآنَ وَكَأَنَّهُ عَلَيْكَ أُنْزِلَ».
وَأَخِيرًا، يَا أَيُّهَا الآبَاءُ، وَيَا أَيَّتُهَا الأُمَّهَاتُ، وَيَا أَيُّهَا المُرَبُّونَ، اسْتَوْصُوا بِالأَجْيَالِ خَيْرًا، نَشِّئُوهُمْ عَلَى حُبِّ كِتَابِ رَبِّهِمْ، وَعَلِّمُوهُمُ العَيْشَ فِي رِحَابِهِ، وَالاِغْتِرَافَ مِنْ مَعِينِهِ الَّذِي لَا يَنْضُبُ، فَالخَيْرُ كُلُّ الخَيْرِ فِيهِ، وَتَعَاهَدُوا مَا أَوْدَعَ اللهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَمَانَاتِ بِتَرْبِيَتِهِمْ تَرْبِيَةً قُرْآنِيَّةً، كَيْ تَسْعَدُوا فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الآخِرَةِ.
فَمَا هَانَتْ أُمَّةُ الإِسْلَامِ إِلَّا بِهَجْرِهَا لِكِتَابِ رَبِّهَا وَبُعْدِهَا عَنْهُ.
اللَّهُمَّ اجْعَلِ القُرْآنَ رَبِيعَ قُلُوبِنَا، وَنُورَ صُدُورِنَا، وَحَبِّبْ إِلَى أَبْنَائِنَا تِلَاوَتَهُ وَحِفْظَهُ وَالتَّمَسُّكَ بِهِ، وَاجْعَلْهُ نُورًا عَلَى دَرْبِ حَيَاتِهِمْ.
العُنْصُرُ الثَّانِي: حَالُ الصَّحَابَةِ مَعَ القُرْآنِ
فَقَدْ كَانَ العَرَبُ فِي جَاهِلِيَّةٍ جَهْلَاءَ، وَضَلَالَةٍ عَمْيَاءَ، فَانْقَشَعَتْ بِبَعْثَةِ النَّبِيِّ ﷺ وَمَا أَتَى بِهِ مِنَ الهُدَى وَالحَقِّ؛ فَدَخَلَ الصَّحَابَةُ فِي دِينِ اللهِ، وَتَأَثَّرُوا بِكَلَامِ اللهِ؛ فَزَالَتْ عَنْهُمْ أَوْصَافُ الجَاهِلِيَّةِ مِنَ الصَّلَفِ وَالغِلْظَةِ وَقَسْوَةِ القُلُوبِ.
فَعَالَجَ القُرْآنُ نُفُوسَهُمْ، وَعَدَّلَ اعْوِجَاجَ سُلُوكِهِمْ، وَلَهُمْ مَعَ القُرْآنِ أَحْوَالٌ، لَنَا فِيهَا الأُسْوَةُ الحَسَنَةُ.
فَحَالُهُمْ عِنْدَ سَمَاعِ القُرْآنِ هِيَ المَذْكُورَةُ فِي القُرْآنِ، وَهِيَ وَجَلُ القُلُوبِ، وَدُمُوعُ العُيُونِ، وَاقْشِعْرَارُ الجُلُودِ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى:
﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الأنفال: ٢].
وَقَالَ اللهُ تَعَالَى:
﴿ اللهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَىٰ ذِكْرِ اللهِ ذَٰلِكَ هُدَى اللهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ [الزمر: ٢٣].
هَذَا حَالُ الصَّحَابَةِ عِنْدَ سَمَاعِهِمُ القُرْآنَ: خَوْفُ القُلُوبِ، وَاقْشِعْرَارُ الجُلُودِ، وَذَرْفُ العُيُونِ.
وَلْنُقَارِنْ أَنْفُسَنَا بِهِمْ حِينَ تِلَاوَةِ كِتَابِ اللهِ وَسَمَاعِهِ!!
إِخْوَانِي:
يَمُرُّ بِنَا أَنَّ بَعْضَ العُبَّادِ مِنْهُمْ مَنْ مَاتَ أَوْ غُشِيَ عَلَيْهِ حِينَ سَمَاعِ القُرْآنِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُصْعَقُ عِنْدَ سَمَاعِهِ، وَلَمْ يَكُنْ فِي الصَّحَابَةِ مَنْ هَذَا حَالُهُ، وَهَذَا لَيْسَ صِفَةَ كَمَالٍ، وَلَوْ كَانَ كَمَالًا لَمَا ادَّخَرَهُ اللهُ عَنْ رَسُولِهِ ﷺ وَصَحَابَتِهِ، وَهُمْ خَيْرُ الخَلْقِ وَأَفْضَلُهُمْ.
لَكِنْ حَالُ هَؤُلَاءِ تَضْعُفُ حِينَ تَتَأَثَّرُ بِالقُرْآنِ عَنْ حَمْلِ مَا يَرِدُ عَلَى القَلْبِ، فَهُمْ مَعْذُورُونَ لِضَعْفِهِمْ عَنْ تَحَمُّلِ مَا يَرِدُ عَلَيْهِمْ، لَكِنَّهُمْ لَا يُمْدَحُونَ عَلَيْهِ.
قَالَ شَيْخُ الإِسْلَامِ فِي مَجْمُوعِ الفَتَاوَى:
«الَّذِي عَلَيْهِ جُمْهُورُ العُلَمَاءِ: أَنَّ الوَاحِدَ مِنْ هَؤُلَاءِ إِذَا كَانَ مَغْلُوبًا عَلَيْهِ لَمْ يُنْكَرْ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ حَالُ الثَّابِتِ أَكْمَلَ مِنْهُ. وَلِهَذَا لَمَّا سُئِلَ الإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ هَذَا فَقَالَ: قُرِئَ القُرْآنُ عَلَى يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ القَطَّانِ فَغُشِيَ عَلَيْهِ، وَلَوْ قَدَرَ أَحَدٌ أَنْ يَدْفَعَ هَذَا عَنْ نَفْسِهِ لَدَفَعَهُ يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ، فَمَا رَأَيْتُ أَعْقَلَ مِنْهُ».
أَمَّا حَالُهُمْ مَعَ القُرْآنِ فِي صَلَاتِهِمْ: فَقِرَاءَةُ تَدَبُّرٍ وَخُشُوعٍ، تُورِثُ الخَشْيَةَ، وَرُبَّمَا غَلَبَهُمُ البُكَاءُ فَمَنَعَهُمْ مِنَ القِرَاءَةِ.
وَلَمَّا اشْتَدَّ بِرَسُولِ اللهِ ﷺ وَجَعُهُ، قِيلَ لَهُ فِي الصَّلَاةِ، فَقَالَ:
«مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ».
فَقَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ رَقِيقٌ، إِذَا قَرَأَ غَلَبَهُ البُكَاءُ!
فَقَالَ ﷺ: «مُرُوهُ فَلْيُصَلِّ».
رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ شَدَّادِ بْنِ الهَادِ – رَحِمَهُ اللهُ – يَقُولُ:
«سَمِعْتُ نَشِيجَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَإِنِّي لَفِي آخِرِ الصُّفُوفِ، يَقُولُ: إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللهِ».
رَوَاهُ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ.
إِخْوَتِي:
هَلْ تَدَبَّرْنَا مَا نَسْمَعُ وَمَا نَقْرَأُ فِي صَلَاتِنَا؛ لِنَنْتَفِعَ بِالقُرْآنِ، وَلْيُؤَثِّرْ فِي سُلُوكِنَا: فِعْلًا لِلطَّاعَاتِ، وَتَرْكًا لِلْمُنْكَرَاتِ؟
مِصْدَاقُ ذَلِكَ قَوْلُ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ:
﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنكَرِ ﴾ [العنكبوت: ٤٥].
أَمَّا حَالُهُمْ مَعَ القُرْآنِ عِنْدَ آيَاتِ الوَعِيدِ: فَالوَاحِدُ مِنْهُمْ مَا أَنْ يَسْمَعَ الآيَةَ إِلَّا وَيَخْشَى أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِهَا!!
فَهَذَا ثَابِتُ بْنُ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ – خَطِيبُ الأَنْصَارِ – كَانَ مِنْ عَادَتِهِ أَنْ يَرْفَعَ صَوْتَهُ أَثْنَاءَ الكَلَامِ، فَلَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ ﴾ [الحجرات: ٢]،
جَلَسَ ثَابِتٌ فِي بَيْتِهِ وَقَالَ: «أَنَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ».
وَاحْتَبَسَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، فَسَأَلَ النَّبِيُّ ﷺ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ فَقَالَ:
«يَا أَبَا عَمْرٍو، مَا شَأْنُ ثَابِتٍ؟ أَشْتَكَى؟»
فَقَالَ سَعْدٌ: إِنَّهُ لَجَارِي، وَمَا عَلِمْتُ لَهُ بِشَكْوَى.
فَأَتَاهُ سَعْدٌ، فَذَكَرَ لَهُ قَوْلَ رَسُولِ اللهِ ﷺ،
فَقَالَ ثَابِتٌ: «أُنْزِلَتْ هَذِهِ الآيَةُ، وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي مِنْ أَرْفَعِكُمْ صَوْتًا عَلَى رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَأَنَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ».
فَذَكَرَ ذَلِكَ سَعْدٌ لِلنَّبِيِّ ﷺ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ:
«بَلْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ».
رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ
فَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ: خَافَ اللَّهَ فِي الدُّنْيَا خَوْفًا أَقْعَدَهُ عَنْ الْخُرُوجِ مِنْ بَيْتِهِ، فَجَازَاهُ اللَّهُ بِالْأَمْنِ مِنْ هَذَا الْخَوْفِ فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ، فَهُوَ مِمَّنْ يُقْطَعُ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ.
فَلَيْسَ الْأَمْرُ مُتَعَلِّقًا فَقَطْ بِكَثْرَةِ عِبَادَةِ الْبَدَنِ؛ مِنْ صِيَامٍ وَصَلَاةٍ وَغَيْرِهِ؛ بَلْ عِبَادَةُ الْقَلْبِ.
وَالْإِشْفَاقُ مِنْ عَلَّامِ الْغُيُوبِ مِنْ أَعْظَمِ الْقُرُبَاتِ، فَلَا يَجْمَعُ اللَّهُ عَلَى عَبْدِهِ خَوْفَيْنِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
أَمَّا حَالُهُمْ مَعَ الْقُرْآنِ؛ مَعَ الْآيَاتِ الَّتِي تَأْمُرُ بِتَرْكِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَإِنْ كَانَتِ النَّفْسُ مُتَعَلِّقَةً بِهَا: فَهُوَ سُرْعَةُ الِامْتِثَالِ وَالِاسْتِجَابَةِ لِلنَّهْيِ؛ فَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ:
«اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانَ شِفَاءٍ».
فَنَزَلَتِ الَّتِي فِي الْبَقَرَةِ:
﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ… ﴾ [البقرة: ٢١٩]،
فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ:
«اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانَ شِفَاءٍ».
فَنَزَلَتِ الَّتِي فِي النِّسَاءِ:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى… ﴾ [النساء: ٤٣]،
فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ:
«اللَّهُمَّ بَيِّنْ لَنَا فِي الْخَمْرِ بَيَانَ شِفَاءٍ».
فَنَزَلَتِ الَّتِي فِي الْمَائِدَةِ:
﴿ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ ﴾ [المائدة: ٩١]،
فَدُعِيَ عُمَرُ فَقُرِئَتْ عَلَيْهِ، فَقَالَ:
«انْتَهَيْنَا، انْتَهَيْنَا».
رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ.
وَنَجِدُ أَنَّ الْقُرْآنَ لَهُ أَثَرٌ أَيْضًا عَلَى الصَّحَابَةِ فِي الْبَذْلِ وَالْعَطَاءِ؛
فَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – يَقُولُ:
«كَانَ أَبُو طَلْحَةَ أَكْثَرَ الْأَنْصَارِ بِالْمَدِينَةِ مَالًا مِنْ نَخْلٍ،
وَكَانَ أَحَبَّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ بَيْرُحَاءَ، وَكَانَتْ مُسْتَقْبِلَةَ الْمَسْجِدِ،
وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَدْخُلُهَا وَيَشْرَبُ مِنْ مَاءٍ فِيهَا طَيِّبٍ».
قَالَ أَنَسٌ:
«فَلَمَّا أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ:
﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: ٩٢]،
قَامَ أَبُو طَلْحَةَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقَالَ:
يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَقُولُ:
﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾،
وَإِنَّ أَحَبَّ أَمْوَالِي إِلَيَّ بَيْرُحَاءَ، وَإِنَّهَا صَدَقَةٌ لِلَّهِ،
أَرْجُو بِرَّهَا وَذُخْرَهَا عِنْدَ اللَّهِ؛ فَضَعْهَا يَا رَسُولَ اللَّهِ حَيْثُ أَرَاكَ اللَّهُ».
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:
«بَخٍ! ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ، ذَلِكَ مَالٌ رَابِحٌ،
وَقَدْ سَمِعْتُ مَا قُلْتَ، وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقَارِبِ».
فَقَالَ أَبُو طَلْحَةَ: «أَفْعَلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ».
فَقَسَمَهَا أَبُو طَلْحَةَ فِي أَقَارِبِهِ وَبَنِي عَمِّهِ»؛ رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
فَعِنْدَمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَسَمِعَهَا أَبُو طَلْحَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – بَادَرَ إِلَى الْعَمَلِ بِهَا،
وَخَرَجَ مِنْ أَحَبِّ أَمْوَالِهِ إِلَيْهِ.
إِخْوَانِي:
كَمْ مَرَّةً سَمِعْنَا هَذِهِ الْآيَةَ تُتْلَى عَلَيْنَا؟
فَهَلْ حَرَّكَتْ فِينَا مَا حَرَّكَتْهُ فِي أَبِي طَلْحَةَ؟
أَجِيلُوا الْفِكْرَ، وَتَذَكَّرُوا مَنَاسِبَاتِنَا؛ مَتَى نُعْطِي الْمُحْتَاجِينَ الْأَطْعِمَةَ؟
أَلَيْسَ بَعْدَ أَنْ نَزْهَدَ فِي الْأَطْعِمَةِ الْبَاقِيَةِ الَّتِي لَوْ أُعْطِينَا إِيَّاهَا مَا قَبِلْنَاهَا؟!
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ
وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ
وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ ﴾ [الْبَقَرَةِ: ٢٦٧].
أَفَنُعْطِي الْفُقَرَاءَ رَدِيءَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ وَالثِّيَابِ؟!
أَخِي:
عِنْدَمَا تَدْخُلُ بَيْتَكَ مُحَمَّلًا بِأَنْوَاعِ مَا طَابَ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ،
هَلْ تَذَكَّرْتَ قَوْلَهُ تَعَالَى:
﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا ﴾ [الْإِنْسَانِ: ٨]؟
يَمُرُّ بِجِوَارِكَ مِسْكِينٌ يُنَظِّفُ أَمَامَ بَيْتِكَ،
يَرْقُبُكَ فِي دُخُولِكَ وَخُرُوجِكَ، وَأَنْتَ تَنْقُلُ هَذِهِ الْأَطْعِمَةَ،
فَهَلْ فَكَّرْتَ فِي إِعْطَائِهِ مِنْ طَيِّبِهَا وَلَوْ مَرَّةً وَاحِدَةً،
لِتَكُونَ قَدِ انْتَفَعْتَ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى:
﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾؟
إِخْوَانِي:
لَعَلَّنَا أَدْرَكْنَا سِرَّ الْفَرْقِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الصَّحَابَةِ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ –!
هُمْ يَمْتَثِلُونَ الْقُرْآنَ: يَقْرَؤُونَهُ بِأَلْسِنَتِهِمْ، وَيَتَدَبَّرُونَهُ بِقُلُوبِهِمْ،
لَدَيْهِمُ الِاسْتِعْدَادُ لِالْتِزَامِ الْأَوَامِرِ، وَنَحْنُ دُونَهُمْ فِي ذَلِكَ!
﴿ أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ
وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ
فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ [الْحَدِيدِ: ١٦].
فَاللَّهُ يَدْعُونَا إِلَى خُشُوعِ الْقَلْبِ لِذِكْرِهِ وَمَا نَزَلَ مِنْ كِتَابِهِ،
وَيَنْهَانَا أَنْ نَكُونَ ﴿ كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ ﴾،
فَرَبُّنَا يَدْعُونَا أَنْ نَكُونَ مِنَ الَّذِينَ ﴿ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ
وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا ﴾،
وَنَهَانَا عَنْ مُشَابَهَةِ أَهْلِ الْكِتَابِ فِي قَسْوَةِ قُلُوبِهِمْ،
وَقَسْوَةُ الْقُلُوبِ مِنْ ثَمَرَاتِ الْمَعَاصِي،
وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْيَهُودَ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ بِقَسْوَةِ الْقَلْبِ:
﴿ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً ﴾ [الْمَائِدَةِ: ١٣].
وَقَدْ كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَسْتَعِيذُ بِاللَّهِ مِنْ عَدَمِ خُشُوعِ الْقَلْبِ؛ فَعَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ، كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ:
«اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ لَهَا»
رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فَخُشُوعُ الْقَلْبِ: قِيَامُهُ بَيْنَ يَدَيِ الرَّبِّ بِالْخُضُوعِ وَالذُّلِّ، وَلَيْسَ الْخُشُوعُ فِي الصَّلَاةِ فَقَطْ، بَلْ هُوَ وَصْفٌ يُلَازِمُ الْخَاشِعَ.
فَالْخُشُوعُ يَتَضَمَّنُ مَعْنَيَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: التَّوَاضُعُ وَالذُّلُّ،
وَالثَّانِي: السُّكُونُ وَالطُّمَأْنِينَةُ.
وَذَلِكَ مُسْتَلْزِمٌ لِلِينِ الْقَلْبِ، الْمُنَافِي لِلْقَسْوَةِ؛
فَخُشُوعُ الْقَلْبِ يَتَضَمَّنُ عُبُودِيَّتَهُ لِلَّهِ وَطُمَأْنِينَتَهُ، وَخُشُوعُ الْجَسَدِ تَبَعٌ لِخُشُوعِ الْقَلْبِ.
وَلَيْسَ مِنَ الْخُشُوعِ التَّمَاوُتُ فِي الْمَشْيِ وَالْإِطْرَاقُ إِلَى الْأَرْضِ؛
فَقَدْ رَأَى بَعْضُ السَّلَفِ شَبَابًا يَمْشُونَ وَيَتَمَاوَتُونَ فِي مِشْيَتِهِمْ، فَقَالَ لِأَصْحَابِهِ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟
فَقَالُوا: نُسَّاكٌ.
فَقَالَ: «كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِذَا مَشَى أَسْرَعَ، وَإِذَا قَالَ أَسْمَعَ، وَإِذَا ضَرَبَ أَوْجَعَ، وَكَانَ هُوَ النَّاسِكَ حَقًّا».
يَا أَخِي الْكَرِيمَ:
كَأَنِّي بِكَ تَسْأَلُ: كَيْفَ أُصْلِحُ مَا فَسَدَ؟ كَيْفَ أَنْتَفِعُ بِالْقُرْآنِ، وَيَكُونُ لَهُ أَثَرٌ عَلَيَّ فِي حَيَاتِي؟
وَأَتْرُكُ الْإِجَابَةَ عَلَى هَذَا السُّؤَالِ لِعَالِمٍ رَبَّانِيٍّ، وَهُوَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ، إِذْ يَقُولُ فِي «الْفَوَائِدِ»:
«إِذَا أَرَدْتَ الِانْتِفَاعَ بِالْقُرْآنِ؛ فَاجْمَعْ قَلْبَكَ عِنْدَ تِلَاوَتِهِ وَسَمَاعِهِ، وَأَلْقِ سَمْعَكَ، وَاحْضُرْ حُضُورَ مَنْ يُخَاطِبُهُ بِهِ مَنْ تَكَلَّمَ بِهِ سُبْحَانَهُ مِنْهُ إِلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ خِطَابٌ مِنْهُ لَكَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ ﷺ؛
قَالَ تَعَالَى:
﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ [ق: ٣٧].
وَذَلِكَ أَنَّ تَمَامَ التَّأْثِيرِ لَمَّا كَانَ مَوْقُوفًا عَلَى مُؤَثِّرٍ مُقْتَضٍ، وَمَحَلٍّ قَابِلٍ، وَشَرْطٍ لِحُصُولِ الْأَثَرِ، وَانْتِفَاءِ الْمَانِعِ الَّذِي يَمْنَعُ مِنْهُ – تَضَمَّنَتِ الْآيَةُ بَيَانَ ذَلِكَ كُلِّهِ بِأَوْجَزِ لَفْظٍ وَأَبْيَنِهِ عَلَى الْمُرَادِ.
فَقَوْلُهُ: ﴿ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى ﴾ هُوَ الْمُؤَثِّرُ،
وَقَوْلُهُ: ﴿ لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ ﴾ هُوَ الْمَحَلُّ الْقَابِلُ، وَالْمُرَادُ بِهِ: الْقَلْبُ الْحَيُّ الَّذِي يَعْقِلُ عَنِ اللَّهِ؛
كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ * لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا ﴾ [يـس: ٦٩-٧٠]، أَيْ: حَيُّ الْقَلْبِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ ﴾ أَيْ: وَجَّهَ سَمْعَهُ، وَأَصْغَى حَاسَّةَ سَمْعِهِ إِلَى مَا يُقَالُ لَهُ، وَهَذَا شَرْطُ التَّأَثُّرِ بِالْكَلَامِ.
وَقَوْلُهُ: ﴿ وَهُوَ شَهِيدٌ ﴾ أَيْ: شَاهِدُ الْقَلْبِ، حَاضِرٌ غَيْرُ غَائِبٍ، فَاسْتَمَعَ كِتَابَ اللَّهِ وَهُوَ شَاهِدُ الْقَلْبِ وَالْفَهْمِ، لَيْسَ بِغَافِلٍ وَلَا سَاهٍ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْمَانِعِ مِنْ حُصُولِ التَّأْثِيرِ، وَهُوَ سَهْوُ الْقَلْبِ وَغَيْبَتُهُ عَنْ تَعَقُّلِ مَا يُقَالُ لَهُ، وَالنَّظَرِ فِيهِ وَتَأَمُّلِهِ.
فَإِذَا حَصَلَ الْمُؤَثِّرُ وَهُوَ الْقُرْآنُ وَالْمَحَلُّ الْقَابِلُ وَهُوَ الْقَلْبُ الْحَيُّ ، وَوُجِدَ الشَّرْطُ – وَهُوَ الْإِصْغَاءُ وَانْتَفَى الْمَانِعُ وَهُوَ اشْتِغَالُ الْقَلْبِ وَذُهُولُهُ حَصَلَ الْأَثَرُ؛ وَهُوَ الِانْتِفَاعُ وَالتَّذَكُّرُ».
وَمِنْ مَوَاقِفِ سَلَفِنَا الصَّالِحِ فِي تَدَبُّرِ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَكَيْفَ كَانُوا يَتَفَاعَلُونَ مَعَ آيَاتِهِ، هُوَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ.
فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ:
قَالَ لِيَ النَّبِيُّ ﷺ: «اقْرَأْ عَلَيَّ»،
قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَأَقْرَأُ عَلَيْكَ، وَعَلَيْكَ أُنْزِلَ؟
قَالَ: «نَعَمْ».
فَقَرَأْتُ سُورَةَ النِّسَاءِ حَتَّى أَتَيْتُ إِلَى هَذِهِ الْآيَةِ:
﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ، وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ﴾ [النِّسَاءِ: ٤١].
قَالَ: «حَسْبُكَ الْآنَ».
فَالْتَفَتُّ إِلَيْهِ، فَإِذَا عَيْنَاهُ تَذْرِفَانِ.
📘 [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ].
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ تَلَا قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي إِبْرَاهِيمَ:
﴿ رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ، فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي ﴾ [إِبْرَاهِيمَ: ٣٦]،
وَقَوْلَهُ فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ:
﴿ إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ، وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ﴾ [الْمَائِدَةِ: ١١٨].
فَرَفَعَ يَدَيْهِ ﷺ، وَقَالَ: «اللَّهُمَّ أُمَّتِي أُمَّتِي»، وَبَكَى.
فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: «يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ فَسَلْهُ مَا يُبْكِيكَ».
فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، فَسَأَلَهُ، فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ بِمَا قَالَ، وَهُوَ أَعْلَمُ.
فَقَالَ اللَّهُ: «يَا جِبْرِيلُ، اذْهَبْ إِلَى مُحَمَّدٍ، فَقُلْ: إِنَّا سَنُرْضِيكَ فِي أُمَّتِكَ، وَلَا نَسُوءُكَ».
📘 [رَوَاهُ مُسْلِمٌ].
وَعَنْ مُطَرِّفٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:
«رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي، وَفِي صَدْرِهِ أَزِيزٌ كَأَزِيزِ الرَّحَى مِنَ الْبُكَاءِ» ﷺ.
📘 [رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ].
وَعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – قَالَ:
قَالَ أَبُو بَكْرٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ شِبْتَ.
قَالَ ﷺ: «شَيَّبَتْنِي هُودٌ، وَالْوَاقِعَةُ، وَالْمُرْسَلَاتُ، وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ، وَإِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ».
📘 [رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْأَلْبَانِيُّ].
وَعَنْ عَائِشَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا – أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ –
«ابْتَنَى مَسْجِدًا بِفِنَاءِ دَارِهِ، وَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ، وَيَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَتَقِفُ عَلَيْهِ نِسَاءُ الْمُشْرِكِينَ وَأَبْنَاؤُهُمْ، وَهُمْ يَتَعَجَّبُونَ مِنْهُ، وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَجُلًا بَكَّاءً لَا يَمْلِكُ دَمْعَهُ حِينَ يَقْرَأُ الْقُرْآنَ».
📘 [رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ].
وَعَنِ الْحَسَنِ – رَحِمَهُ اللَّهُ – قَالَ:
«كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – يَمُرُّ بِالْآيَةِ فِي وِرْدِهِ، فَتَخْنُقُهُ، فَيَبْكِي حَتَّى يَسْقُطَ، وَيَلْزَمَ بَيْتَهُ الْيَوْمَ وَالْيَوْمَيْنِ، حَتَّى يُعَادَ، يَحْسَبُونَهُ مَرِيضًا».
عَنْ اِبْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ:
«قَدِمَ عُيَيْنَةُ بْنُ حِصْنِ بْنِ حُذَيْفَةَ، فَنَزَلَ عَلَى اِبْنِ أَخِيهِ الْحُرِّ بْنِ قَيْسٍ، وَكَانَ مِنَ النَّفَرِ الَّذِينَ يُدْنِيهِمْ عُمَرُ، وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَصْحَابَ مَجَالِسِ عُمَرَ وَمُشَاوَرَتِهِ، كُهُولًا كَانُوا أَوْ شُبَّانًا».
فَقَالَ عُيَيْنَةُ لِابْنِ أَخِيهِ: يَا ابْنَ أَخِي، هَلْ لَكَ وَجْهٌ عِنْدَ هَذَا الْأَمِيرِ، فَاسْتَأْذِنْ لِي عَلَيْهِ؟ قَالَ: سَأَسْتَأْذِنُ لَكَ عَلَيْهِ.
قَالَ اِبْنُ عَبَّاسٍ: «فَاسْتَأْذَنَ الْحُرُّ لِعُيَيْنَةَ فَأَذِنَ لَهُ عُمَرُ»، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهِ، قَالَ: هِـيْـهْ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ، فَوَاللَّهِ مَا تُعْطِينَا الْجَزْلَ، وَلَا تَحْكُمُ بَيْنَنَا بِالْعَدْلِ.
فَغَضِبَ عُمَرُ حَتَّى هَمَّ أَنْ يُوقِعَ بِهِ، فَقَالَ لَهُ الْحُرُّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِنَبِيِّهِ ﷺ:
﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأعراف: ١٩٩]،
وَإِنَّ هَذَا مِنَ الْجَاهِلِينَ.
«فَوَاللَّهِ مَا جَاوَزَهَا عُمَرُ حِينَ تَلَاهَا عَلَيْهِ، وَكَانَ وَقَّافًا عِنْدَ كِتَابِ اللَّهِ»؛ [البُخَارِيّ].
وَعَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ:
«أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ لِفُلَانٍ نَخْلَةً، وَأَنَا أُقِيمُ حَائِطِي بِهَا، فَأْمُرْهُ أَنْ يُعْطِيَنِيهَا حَتَّى أُقِيمَ بِهَا حَائِطِي.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((أَعْطِهَا إِيَّاهُ بِنَخْلَةٍ فِي الْجَنَّةِ))،
فَأَبَى.
فَأَتَى أَبُو الدَّحْدَاحِ الرَّجُلَ، فَقَالَ: بِعْنِي نَخْلَتَكَ بِحَائِطِي، فَفَعَلَ.
فَأَتَى أَبُو الدَّحْدَاحِ النَّبِيَّ ﷺ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي قَدِ ابْتَعْتُ النَّخْلَةَ بِحَائِطِي، فَاجْعَلْهَا لَهُ، وَقَدْ أَعْطَيْتُكَهَا.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ((كَمْ مِنْ عِذْقٍ رَدَاحٍ لِأَبِي الدَّحْدَاحِ فِي الْجَنَّةِ!)) مِرَارًا.
فَأَتَى أَبُو الدَّحْدَاحِ امْرَأَتَهُ، فَقَالَ: يَا أُمَّ الدَّحْدَاحِ، اخْرُجِي مِنَ الْحَائِطِ، فَقَدْ بِعْتُهُ بِنَخْلَةٍ فِي الْجَنَّةِ،
فَقَالَتْ: رَبِحَ الْبَيْعُ!؛ [الطَّبَرَانِيّ فِي الْمُعْجَمِ الْكَبِيرِ].
فَهَذِهِ الْمَوَاقِفُ غَيْضٌ مِنْ فَيْضٍ، تَدُلُّ عَلَى الْمُسْتَوَى الْعَالِي مِنَ التَّدَبُّرِ الَّذِي وَصَلَ إِلَيْهِ أَسْلَافُنَا الصَّالِحُونَ،
وَتَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ الْكَرِيمَ كَانَ يَسْرِي فِي عُرُوقِهِمْ، وَيَجْرِي فِي دِمَائِهِمْ، وَيَمْتَزِجُ بِكِيَانِهِمْ كُلِّهِ،
حَتَّى عَاشُوا بِهِ، وَتَجَلَّى أَثَرُهُ فِي جَمِيعِ شُؤُونِ حَيَاتِهِمْ.
وَلَمْ يَبْقَ لَنَا إِلَّا أَنْ نَحْذُوَ حَذْوَهُمْ، وَنَنْتَهِجَ نَهْجَهُمْ،
حَتَّى نَصِلَ إِلَى مَا وَصَلُوا إِلَيْهِ مِنْ حُسْنِ الْفَهْمِ، وَكَمَالِ التَّدَبُّرِ، وَعُمْقِ التَّفَكُّرِ،
وَبِهَذَا نَحْصُلُ سَعَادَةَ الدُّنْيَا، وَكَرَامَةَ الْآخِرَةِ.
العُنْصُرُ الثَّالِثُ: جَزَاءُ العَمَلِ بِالْقُرْآنِ
إِنَّ أَعْظَمَ جَزَاءٍ يَنْتَظِرُ العَامِلَ بِالْقُرْآنِ العَظِيمِ هُوَ الجَنَّةُ،
وَالجَنَّةُ دَرَجَاتٌ، كَمَا قَالَ تَعَالَى:
﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا ﴾ [الأنعام: ١٣٢].
«أَيْ: وَلِكُلِّ عَامِلٍ فِي طَاعَةِ اللَّهِ أَوْ مَعْصِيَتِهِ مَنَازِلُ وَمَرَاتِبُ مِنْ عَمَلِهِ، يُبَلِّغُهُ اللَّهُ إِيَّاهَا، وَيُثِيبُهُ بِهَا، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنْ شَرًّا فَشَرٌّ».
وَقَدْ جَاءَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أَنَّهُ قَالَ:
«إِنَّ فِي الجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ، أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ،
مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ،
فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الفِرْدَوْسَ،
فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الجَنَّةِ وَأَعْلَاهَا،
ـ أُرَاهُ قَالَ ـ وَفَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الجَنَّةِ».
وَقَدْ وَعَدَ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ عَمِلَ بِالْقُرْآنِ العَظِيمِ أَنْ يُحْيِيَهُ حَيَاةً طَيِّبَةً،
فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:
﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: ٩٧].
«فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عَنْ فَلَاحِ مَنْ تَمَسَّكَ بِعَهْدِهِ عِلْمًا وَعَمَلًا فِي العَاجِلَةِ بِالحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ، وَفِي الآخِرَةِ بِأَحْسَنِ الجَزَاءِ، وَهَذَا بِعَكْسِ مَنْ لَهُ المَعِيشَةُ الضَّنْكُ فِي الدُّنْيَا وَالبَرْزَخِ، وَنِسْيَانُهُ فِي العَذَابِ بِالآخِرَةِ».
وَلَا بُدَّ لِكُلِّ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا أَنْ يُحْيِيَهُ اللَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً بِحَسَبِ إِيمَانِهِ وَعَمَلِهِ،
وَلَكِنْ يَغْلَطُ أَكْثَرُ النَّاسِ فِي مَسْمَّى الحَيَاةِ،
حَيْثُ يَظُنُّونَهَا التَّنَعُّمَ فِي أَنْوَاعِ المَآكِلِ وَالمَشَارِبِ وَالمَلَابِسِ وَالمَنَاكِحِ،
أَوْ لَذَّةَ الرِّيَاسَةِ وَالمَالِ وَالتَّفَنُّنِ بِأَنْوَاعِ الشَّهَوَاتِ.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ هَذِهِ لَذَّةٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الإِنسَانِ وَالبَهَائِمِ،
بَلْ قَدْ يَكُونُ حَظُّ كَثِيرٍ مِنَ البَهَائِمِ مِنْهَا أَكْثَرَ مِنْ حَظِّ الإِنسَانِ،
فَأَيْنَ هَذِهِ اللَّذَّةُ مِنَ اللَّذَّةِ بِأَمْرٍ إِذَا خَالَطَ بَشَاشَتُهُ القُلُوبَ،
سَلَا عَنِ الأَبْنَاءِ وَالنِّسَاءِ وَالأَوْطَانِ وَالأَمْوَالِ وَالإِخْوَانِ وَالمَسَاكِنِ،
وَرَضِيَ بِتَرْكِهَا كُلِّهَا، وَالخُرُوجِ مِنْهَا رَأْسًا،
وَعَرَّضَ نَفْسَهُ لِأَنْوَاعِ المَكَارِهِ وَالمَشَاقِّ، وَهُوَ مُنْشَرِحُ الصَّدْرِ.
حَتَّى إِنَّ أَحَدَهُمْ لَيَتَلَقَّى الرُّمْحَ بِصَدْرِهِ، وَيَقُولُ: فُزْتُ وَرَبِّ الكَعْبَةِ،
وَيَسْتَطِيلُ الآخَرُ حَيَاتَهُ حَتَّى يُلْقِيَ قُوتَهُ مِنْ يَدِهِ،
وَيَقُولُ: إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلَةٌ إِنْ صَبَرْتُ حَتَّى آكُلَهَا،
ثُمَّ يَتَقَدَّمُ إِلَى المَوْتِ فَرِحًا مَسْرُورًا،
وَيَقُولُ الآخَرُ مَعَ فَقْرِهِ: لَوْ عَلِمَ المُلُوكُ وَأَبْنَاءُ المُلُوكِ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ لَجَالَدُونَا عَلَيْهِ بِالسُّيُوفِ.
وَيَقُولُ الآخَرُ: إِنَّهُ لَيَمُرُّ بِالقَلْبِ أَوْقَاتٌ لَيَرْقُصُ فِيهَا طَرَبًا،
وَرُبَّمَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ لَتَمُرُّ أَوْقَاتٌ أَقُولُ فِيهَا:
إِنْ كَانَ أَهْلُ الجَنَّةِ فِي مِثْلِ هَذَا، إِنَّهُمْ لَفِي عِيشٍ طَيِّبٍ.
وَفَضَائِلُ العَمَلِ بِالْقُرْآنِ العَظِيمِ كَثِيرَةٌ وَمُتَنَوِّعَةٌ،
بَعْضُهَا فِي الدُّنْيَا، وَبَعْضُهَا فِي الآخِرَةِ، وَمِنْهَا مَا يَأْتِي:
١- الهِدَايَةُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ:
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
﴿ فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: ١٧-١٨].
فَهَذَا أَمْرُ تَكْرِيمٍ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِنَبِيِّهِ الكَرِيمِ ﷺ
أَنْ يُبَشِّرَ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القُرْآنَ،
ثُمَّ يَقُودُهُم هَذَا الاسْتِمَاعُ إِلَى العَمَلِ بِهِ وَتَطْبِيقِهِ.
وَفِي مَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ﴾ قَوْلَانِ:
الأَوَّلُ: يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ عَلَى العُمُومِ، فَيَتَّبِعُونَ القُرْآنَ؛ لأَنَّهُ أَحْسَنُ الكَلَامِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ ﴿ القَوْلَ ﴾ هُوَ القُرْآنُ؛ أَيْ يَسْتَمِعُونَ القُرْآنَ فَيَتَّبِعُونَ بِأَعْمَالِهِمْ أَحْسَنَهُ،
مِنَ العَفْوِ وَالصَّفْحِ وَاحْتِمَالِ الأَذَى، الَّذِي هُوَ أَحْسَنُ مِنَ الانْتِصَارِ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ﴾ [النحل: ١٢٦].
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ﴾؛
أَيْ المُتَّصِفُونَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ الجَلِيلَةِ ـ وَهِيَ العَمَلُ بِكِتَابِ اللَّهِ ـ
هُمُ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى لِلدِّينِ الحَقِّ وَمَحَاسِنِ الأُمُورِ،
فَهَدَاهُم لِأَحْسَنِ الأَخْلَاقِ وَالأَعْمَالِ، وَضَمِنَ لَهُمْ أَلَّا يَضِلُّوا فِي الدُّنْيَا، وَلَا يَشْقَوْا فِي الآخِرَةِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا:
«ضَمِنَ اللَّهُ تَعَالَى لِمَنْ قَرَأَ القُرْآنَ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ أَلَّا يَضِلَّ فِي الدُّنْيَا، وَلَا يَشْقَى فِي الآخِرَةِ».
ثُمَّ تَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى:
﴿ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى ﴾ [طه: ١٢٣].
وَقَالَ أَيْضًا:
«مَنْ قَرَأَ القُرْآنَ وَاتَّبَعَ مَا فِيهِ، هَدَاهُ اللَّهُ مِنَ الضَّلَالَةِ، وَوَقَاهُ يَوْمَ القِيَامَةِ سُوءَ الحِسَابِ».
وَمَعْنَى قَوْلِهِ: ﴿ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الأَلْبَابِ ﴾:
«أَيْ هُم أَصْحَابُ العُقُولِ السَّلِيمَةِ عَنْ مُعَارَضَةِ الوَهْمِ، وَمُنَازَعَةِ الهَوَى،
المُسْتَحِقُّونَ لِلهِدَايَةِ دُونَ غَيْرِهِمْ».
فَالَّذِي لَا يُمَيِّزُ بَيْنَ الأَقْوَالِ حَسَنِهَا وَقَبِيحِهَا لَيْسَ مِنْ أَهْلِ العُقُولِ السَّلِيمَةِ،
وَالَّذِي يُمَيِّزُ وَلَكِنْ تَغْلِبُهُ شَهْوَتُهُ، فَيَبْقَى عَقْلُهُ تَابِعًا لِشَهْوَتِهِ، كَانَ نَاقِصَ العَقْلِ.
فَهَؤُلَاءِ أَهْلُ العُقُولِ الزَّاكِيَةِ وَالفِطَرِ المُسْتَقِيمَةِ،
مِنْ لُبِّهِمْ وَحَزْمِهِمْ عَرَفُوا الحَسَنَ وَغَيْرَهُ، فَآثَرُوهُ وَتَرَكُوا مَا سِوَاهُ،
فَهَذِهِ عَلَامَةُ العَقْلِ الصَّحِيحِ.
نَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْهُمْ.
٢- الرَّحْمَةُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ:
قَالَ تَعَالَى:
﴿ وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الأنعام: ١٥٥].
هَذِهِ الآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً عَلَى أَنَّ أَقْصَرَ سَبِيلٍ وَأَوْضَحَهُ لِنَيْلِ رَحْمَةِ اللهِ تَعَالَى هُوَ اتِّبَاعُ هَذَا الْكِتَابِ الْعَظِيمِ عِلْمًا وَعَمَلًا.
وَمَعْنَى الْآيَةِ: إِنَّ ﴿ هَذَا ﴾ الَّذِي تُلِيَتْ عَلَيْكُمْ أَوَامِرُهُ وَنَوَاهِيهِ ﴿ كِتَابٌ ﴾ عَظِيمُ الشَّأْنِ، لَا يُقَادَرُ قَدْرُهُ، ﴿ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ ﴾ لِكَثْرَةِ مَنَافِعِهِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ.
وَالْفَاءُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ فَاتَّبِعُوهُ ﴾ لِتَرْتِيبِ مَا بَعْدَهَا عَلَى مَا قَبْلَهَا، فَإِنَّ عَظَمَةَ هَذَا الْكِتَابِ، وَكَوْنَهُ مُنَزَّلًا مِنَ اللهِ جَلَّ جَلَالُهُ، وَفِيهِ مَا فِيهِ مِنَ الْمَنَافِعِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، هَذَا كُلُّهُ مُوجِبٌ لِاتِّبَاعِهِ وَالْعَمَلِ بِهِ.
«وَافْتِتَاحُ الْجُمْلَةِ بِاسْمِ الْإِشَارَةِ، وَبِنَاءُ الْفِعْلِ عَلَيْهِ، وَجَعْلُ الْكِتَابِ الَّذِي حَقُّهُ أَنْ يَكُونَ مَفْعُولَ ﴿ أَنْزَلْنَاهُ ﴾ مُبْتَدَأً، كُلُّ ذَلِكَ لِلاهْتِمَامِ بِالْكِتَابِ وَالتَّنْوِيهِ بِهِ. وَتَفْرِيعُ الْأَمْرِ بِاتِّبَاعِهِ عَلَى كَوْنِهِ مُنَزَّلًا مِنَ اللهِ، وَكَوْنِهِ مُبَارَكًا، ظَاهِرٌ: لِأَنَّ مَا كَانَ كَذَلِكَ لَا يَتَرَدَّدُ أَحَدٌ فِي اتِّبَاعِهِ. وَمَعْنَى ﴿ اتَّقُوا ﴾ كُونُوا مُتَّصِفِينَ بِالتَّقْوَى، وَهِيَ الْأَخْذُ بِدِينِ الْحَقِّ وَالْعَمَلُ بِهِ».
وَفِي قَوْلِهِ: ﴿ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ وَعْدٌ عَلَى اتِّبَاعِهِ، وَتَعْرِيضٌ بِالْوَعِيدِ بِعَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إِنْ لَمْ يَتَّبِعُوهُ.
فَهَذَا أَمْرٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى لِعِبَادِهِ أَنْ يَتَّبِعُوا هَذَا الْكِتَابَ الْمُبَارَكَ، وَيَعْمَلُوا بِهِ؛ رَجَاءَ أَنْ تَنَالَهُم رَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
٣- الْفَلَاحُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ:
قَالَ اللهُ تَعَالَى:
﴿ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الأعراف: ١٥٧].
فَقَدْ شَبَّهَ اللهُ تَعَالَى الْقُرْآنَ بِالنُّورِ الَّذِي يَكْشِفُ ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ، وَيَظْهَرُ فِي ضَوْئِهِ الْحَقُّ، وَيَتَمَيَّزُ عَنِ الْبَاطِلِ، وَيُمَيَّزُ بِهِ بَيْنَ الْهُدَى وَالضَّلَالِ، وَالْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ.
وَشَبَّهَ حَالَ الْمُقْتَدِي بِهَدْيِ الْقُرْآنِ بِحَالِ السَّارِي فِي اللَّيْلِ إِذَا رَأَى نُورًا يَلُوحُ لَهُ اتَّبَعَهُ، لِعِلْمِهِ الْيَقِينِيِّ أَنَّهُ يَجِدُ عِنْدَهُ مَنْجَاةً مِنَ الْمَخَاوِفِ وَأَضْرَارِ السَّيْرِ.
فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَسْتَضِيءَ بِنُورِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، فَيَعْتَقِدَ عَقَائِدَهُ، وَيُحِلَّ حَلَالَهُ، وَيُحَرِّمَ حَرَامَهُ، وَيَمْتَثِلَ أَوَامِرَهُ، وَيَجْتَنِبَ مَا نَهَى عَنْهُ، وَيَعْتَبِرَ بِقَصَصِهِ وَأَمْثَالِهِ.
وَلَا يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ أَنْ تَعْمَى بَصِيرَتُهُ عَنْ هَذَا النُّورِ الْعَظِيمِ، فَمَنْ اسْتَجَابَ لِهَذَا النُّورِ وَاتَّبَعَهُ وَعَمِلَ بِمَا فِيهِ، فَهُوَ الْمُفْلِحُ الْفَائِزُ بِالْمَطْلُوبِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، الظَّافِرُ بِخَيْرِهِمَا، وَالنَّاجِي مِنْ شَرِّهِمَا.
نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَجْعَلَنَا مِنَ الْمُفْلِحِينَ.
٤- تَكْفِيرُ السَّيِّئَاتِ وَإِصْلَاحُ الْبَالِ:
قَالَ اللهُ تَعَالَى:
﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ﴾ [مُحَمَّدٌ: ٢].
﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ﴾؛ أَيْ: آمَنَتْ قُلُوبُهُمْ وَسَرَائِرُهُمْ، وَانْقَادَتْ لِشَرْعِ اللهِ جَوَارِحُهُمْ وَبَوَاطِنُهُمْ وَظَوَاهِرُهُمْ.
﴿ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ ﴾ هَذَا مِنْ عَطْفِ الْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، قَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ: «يَعْنِي لَمْ يُخَالِفُوهُ فِي شَيْءٍ».
﴿ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ ﴾؛ أَيْ: أَنَّ إِيمَانَهُمْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ، وَقِيلَ: أَيْ أَنَّ الْقُرْآنَ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ نَسَخَ بِهِ مَا قَبْلَهُ.
وَثَمَرَةُ هَذَا الْإِيمَانِ الصَّحِيحِ، وَهَذَا الِاتِّبَاعِ الْكَامِلِ لِلْقُرْآنِ وَالْعَمَلِ بِهِ، أَمْرَانِ عَظِيمَانِ:
أَوَّلُهُمَا: تَكْفِيرُ السَّيِّئَاتِ.
﴿ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ ﴾؛ أَيْ: صِغَارَهَا وَكِبَارَهَا، وَإِذَا كُفِّرَتْ عَنْهُمْ سَيِّئَاتُهُمْ نَجَوْا مِنْ عَذَابِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَقِيلَ: «سَتَرَ بِإِيمَانِهِمْ وَعَمَلِهِمُ الصَّالِحِ مَا كَانَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْمَعَاصِي لِرُجُوعِهِمْ عَنْهَا وَتَوْبَتِهِمْ».
وَثَانِيهِمَا: إِصْلَاحُ الْبَالِ.
﴿ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ ﴾؛ أَيْ: أَصْلَحَ شَأْنَهُمْ وَحَالَهُمْ فِي الدُّنْيَا عِنْدَ أَوْلِيَائِهِ، وَفِي الْآخِرَةِ أَنْ أَوْرَثَهُم نَعِيمَ الْأَبَدِ وَالْخُلُودَ الدَّائِمَ فِي جَنَّاتِهِ.
وَقِيلَ: أَصْلَحَ دِينَهُمْ، وَدُنْيَاهُمْ، وَقُلُوبَهُمْ، وَأَعْمَالَهُمْ، وَأَصْلَحَ ثَوَابَهُمْ بِتَنْمِيَتِهِ وَتَزْكِيَتِهِ، وَأَصْلَحَ جَمِيعَ أَحْوَالِهِمْ.
وَلَا رَيْبَ أَنَّ إِصْلَاحَ الْبَالِ نِعْمَةٌ كُبْرَى، وَمِنَّةٌ عُظْمَى، تَلِي نِعْمَةَ الْإِيمَانِ فِي الْقَدْرِ وَالْقِيمَةِ وَالْأَثَرِ.
وَفِي ذَلِكَ اطْمِئْنَانٌ لَهُمْ، وَرَاحَةٌ كَبِيرَةٌ، وَثِقَةٌ بِاللهِ تَعَالَى فِي ثَوَابِهِمُ الْعَاجِلِ وَالْآجِلِ.
وَمَتَى صَلَحَ الْبَالُ اسْتَقَامَ السُّلُوكُ وَالْعَمَلُ، وَاطْمَأَنَّ الْقَلْبُ، وَتَنَزَّلَتْ عَلَيْهِ السَّكِينَةُ، وَرَضِيَتِ النَّفْسُ وَاسْتَمْتَعَتْ بِالْأَمْنِ وَالْإِيمَانِ، وَمَاذَا بَعْدَ مِنْ نِعْمَةٍ أَوْ مَتَاعٍ؟
وَالسَّبَبُ الْمُبَاشِرُ لِهَذَا الْجَزَاءِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُمْ:
﴿ اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ ﴾ [مُحَمَّدٌ: ٣]؛ أَيْ: أَنَّهُمْ عَمِلُوا بِهَذَا الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ الصَّادِرِ ﴿ مِنْ رَبِّهِمْ ﴾ الَّذِي رَبَّاهُمْ بِنِعْمَتِهِ، وَدَبَّرَهُمْ بِلُطْفِهِ، فَرَبَّاهُم تَعَالَى بِالْحَقِّ فَاتَّبَعُوهُ، فَعِنْدَ ذَلِكَ صَلُحَتْ أُمُورُهُمْ.
فَلَمَّا كَانَتِ الْغَايَةُ الْمَقْصُودَةُ لَهُمْ مُتَعَلِّقَةً بِالْحَقِّ الْمَنْسُوبِ إِلَى اللهِ الْبَاقِي الْحَقِّ الْمُبِينِ، كَانَتِ الْوَسِيلَةُ صَالِحَةً بَاقِيًا ثَوَابُهَا.
فَهَذِهِ بَعْضُ فَضَائِلِ الْعَمَلِ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَحُسْنِ الْجَزَاءِ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَرْزُقَنَا حُسْنَ الْعَمَلِ بِكِتَابِهِ، وَحُسْنَ الْجَزَاءِ عَلَى ذَلِكَ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُّجِيبٌ.
الدُّعَاءِ
اللَّهُمَّ أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَحَبِّبْنَا فَى بَعْضِنَا وَانْزِعْ الشَّحْنَاءَ وَالْبَغْضَاءَ مِنْ قُلُوبِنَا وَانْشُرْ الْأَمْنَ وَالْأَمَانَ فَى بِلَادِنَا وَسَائِرِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ وَارْفَعْ الْبَلَاءَ وَالْغَلَاءَ عَنَّا اللَّهُمَّ انْصُرْ إِخْوَانَنَا الْمُسْتَضْعَفِينَ فَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِوَالِدَيْنَا كَمَا رَبَّيَانَا صِغَارًا اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُمَا وَارْحَمْهُمَا يَارِبَ الْعَالَمِينَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ وَارْحَمْ مَشَايِخَنَا وَعُلَمَائِنَا وَإِلَى كُلِّ مَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ عَلَيْنَا يَارِبَ الْعَالَمِينَ
وَأَقُمْ الصَّلَاةُ