في ظلال الهجرة قراءة في العبر والمقاصد
26 يونيو، 2025
قبس من أنوار النبوة

بقلم أ.د / غادةالغنيمي
أستاذ العقيدة والفلسفة المساعد بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بجامعة الأزهر الشريف
تُعد الهجرة النبوية حدثًا مفصليًا في تاريخ الأمة الإسلامية، تحمل في طياتها دروسًا عظيمة، وتجليات تربوية وفكرية خالدة، يستقي منها المسلمون على مر العصور ما يثبّت الإيمان، ويرسّخ معاني التوكل، والتخطيط، والتضحية، والوعي الحضاري فحين نتأمل في هجرة النبي ﷺ من مكة إلى المدينة، نجد أنها لم تكن مجرد انتقال مكاني، بل كانت مشروعًا متكاملًا لبناء حضارة، ونقطة تحوّل أسست لقيام الدولة الإسلامية الأولى.
أولًا: التخطيط الاستراتيجي بعيد المدى :
لم تكن الهجرة ارتجالًا أو فرارًا عشوائيًا، بل كانت خطة محكمة شملت أدق التفاصيل فقد بدأ النبي ﷺ بتأمين وسيلة النقل بنفسه، فاشترى ناقتين له ولصاحبه أبي بكر رضي الله عنه، إعدادًا مبكرًا للرحلة المصيرية هذا السلوك النبوي يدل على ضرورة الأخذ بالأسباب، وعدم الاتكال على المعجزات رغم يقينه بالله وتأييده سبحانه له على الدوام ، كما يغرس فينا فقه التخطيط والتدبير.
ثانيًا: توظيف الكفاءات دون تمييز ديني أو عرقي:
اختار النبي ﷺ عبد الله بن أريقط – رغم كونه مشركًا آنذاك – لقيادة دفة الرحلة عبر الصحراء، لما عُرف به من الأمانة والمهارة بهذا التصرف، يرسخ النبي ﷺ مبدأ اختيار الأكفأ في المهام، دون تحيّز، ما دامت المصلحة محفوظة، والعهد مضمون وفي ذلك درس كبير في تحكيم الكفاءة على الانتماء.
ثالثًا: حفظ الأمانات ولو لأعداء العقيدة:
ترك النبي ﷺ علي بن أبي طالب رضي الله عنه في مكة، ليبيت في فراشه ليلة الهجرة، وليعيد الأمانات التي كانت مودعة عنده من قريش، رغم إيذائهم وعداوتهم بذلك، يضرب لنا ﷺ أروع الأمثلة في حفظ الحقوق، وعدم خيانة العهد، حتى مع من لم يُراعِ حرمته أو دعوته.
رابعًا: الذكاء التكتيكي في إدارة الصراع:
عندما اختبأ النبي ﷺ وصاحبه في غار ثور، مكثا فيه ثلاثة أيام حتى تهدأ حركة الطلب، وكان الغار نقطة حاسمة في فشل خطة قريش استعان النبي ﷺ بعدد من الشخصيات لأدوار متنوعة: عبد الله بن أبي بكر لنقل الأخبار، أسماء بنت أبي بكر لإيصال الطعام، وعامر بن فهيرة لطمس الآثار هذا التوزيع المتقن للمهام يُظهر عبقرية النبي ﷺ في استثمار الطاقات، وإدارة الأزمات.
خامسًا: بناء الدولة على أساس متين :
بمجرد وصوله المدينة، بدأ النبي ﷺ تأسيس نواة الدولة الإسلامية، جامعًا بين كونه نبيًا مرسَلًا، وقائدًا حكيمًا فبدأ ببناء المسجد، مركزًا دينيًا وتعليميًا وسياسيًا، ثم آخى بين المهاجرين والأنصار، وجمع بين الأوس والخزرج، وأبرم وثيقة المدينة، التي تُعد أول دستور مدني قائم على التعايش والحقوق المتبادلة، شاملةً المسلمين واليهود وسائر سكان المدينة .
وأخيرًا:
الهجرة لم تكن هروبًا، بل انطلاقًا نحو الأمل والبناء وهي لا تنحصر في الانتقال من مكان إلى آخر، بل تمتد إلى الهجرة المعنوية، هجرة من الذنوب إلى الطاعة، من الغفلة إلى الوعي، ومن الظلم إلى العدل فهي دعوة دائمة إلى تحرير النفس من قيود الهوى، وإلى السعي للخلاص من واقعٍ لا يُرضي الله عزوجل .
ففي ذكراها العطرة، تذكّرنا الهجرة أن التغيير الحقيقي يبدأ من الداخل، وأن مع الصبر واليقين، لا بد أن يأتي النصر فطوبى لمن اقتدى بخير الخلق، وهجر ما يغضب الله عزوجل إلى ما يرضيه وأخذ بالأسباب توكلًا لا تواكلًا، وجعل من الهجرة منهجًا يسير عليه في حياته بذلك تتحقق له السعادة في الدنيا والأخرة .