واشنطن والنظام العالمي الجديد: الهيمنة عبر خراب الأوطان العربية والعالم

بقلم فضيلة الشيخ : حسين السمنودي
إمام وخطيب ومدرس على درجة مدير عام بمديرية أوقاف القاهرة

في خضم التحولات المتسارعة التي يشهدها العالم، تتكشف يوماً بعد يوم خيوط المؤامرة الأمريكية المحكمة، والتي تستهدف إعادة تشكيل النظام العالمي بما يتماشى مع مصالح واشنطن وحلفائها، وعلى رأسهم الكيان الصهيوني. فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية وحتى يومنا هذا، لم تتوقف الولايات المتحدة عن رسم الخطط الخفية وتغليفها بالشعارات البراقة، في حين أن الهدف الجوهري كان ولا يزال: الهيمنة المطلقة على العالم، وتفكيك مراكز القوى التي قد تُهدد هذا المشروع الإمبراطوري.

تتمثل أولى أولويات واشنطن في الشرق الأوسط في حماية الكيان الصهيوني وتنصيبه قوة مهيمنة على المنطقة، بل وقائد فعلي لها، سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا. فإسرائيل بالنسبة للإدارة الأمريكية ليست مجرد حليف استراتيجي، بل هي مشروع استثماري عسكري استخباراتي يحقق للولايات المتحدة أهدافها من دون الحاجة لتورط مباشر دائم. ومن أجل ترسيخ هذا الوضع، لا تتوانى واشنطن عن دعم الكيان بكل ما يملك من أدوات القوة، سواء عبر الدعم العسكري المفتوح أو عبر التغطية الدبلوماسية في المحافل الدولية، وشيطنة كل من يعارض هذا المشروع ووصمه بالإرهاب والتطرف.

ولأن تمكين كيان كهذا لا يمكن أن يتم إلا بهدم ما حوله، فقد أضحت مهمة واشنطن الأساسية هي تحطيم قوى الشرق الأوسط، الواحدة تلو الأخرى. فالعراق كان في مقدمة الضحايا، تلاه السودان، ثم ليبيا وسوريا واليمن ولبنان، فيما يجري محاصرة مصر وإيران وتركيا من بوابات متعددة. لا تريد أمريكا لأي دولة في الشرق الأوسط أن تمتلك قراراتها أو جيشًا قويًا أو اقتصادًا مستقلاً. الفوضى هي السياسة الأمريكية المفضلة، والإرهاب هو الأداة المثلى لتحقيقها. تحت مسميات محاربة الإرهاب، تقوم واشنطن بصناعة الميليشيات وتمويلها، وتسليح الجماعات، بل وإسقاط الأنظمة متى ما استدعى الأمر.

أما الممرات الملاحية الاستراتيجية، من قناة السويس إلى مضيق هرمز وباب المندب، فهي في عين الاستهداف الأمريكي بشكل دائم. لأن السيطرة على طرق التجارة البحرية تعني السيطرة على مفاصل العالم الاقتصادية، وبالتالي ضمان استمرار تفوق واشنطن في مواجهة أي قوى صاعدة. ومن هنا، نرى كيف تم تحويل البحر الأحمر والخليج العربي إلى بؤر توتر دائمة، وكيف يجري الضغط على الدول المشاطئة لتقبل بتواجد قواعد أمريكية دائمة على أراضيها.

وفي سبيل ضمان استمرار النفوذ الأمريكي، تقوم واشنطن بتصدير الفزع إلى شعوب الشرق الأوسط، فتارة يكون الخطر “إيرانياً”، وتارة “إرهابياً”، وأخرى “صينياً”، وكل ذلك بهدف زرع عدم الاستقرار وخلق الحاجة الدائمة للحماية الأمريكية. إنها سياسة “الحماية مقابل الطاعة”، إذ لن تنعم أي دولة بالاستقرار ما لم تقبل بالهيمنة الأمريكية، أو على الأقل، لا تعارض مصالحها.

ومن الطبيعي، في ظل هذه الفوضى المصنوعة، أن يتم السطو على ثروات المنطقة، من نفط وغاز ومعادن وأراضٍ، وحتى المياه وحقوق الصيد. تسعى الولايات المتحدة لأن تتحول شعوب الشرق الأوسط إلى مجرد مستهلكين، فيما يتم نهب خيرات بلادهم تحت ذرائع الاستثمار والتنمية والمساعدات. حتى الحروب التي تفتعلها واشنطن تُموّل غالبًا من أموال المنطقة نفسها.

ولا يتوقف الأمر عند حدود الشرق الأوسط، بل يمتد ليشمل النظام العالمي بأسره، والذي تعمل أمريكا جديًا على هدمه. فمؤسسات مثل الأمم المتحدة، ومجلس الأمن، ومنظمة التجارة العالمية، لم تعد كافية لضمان التفوق الأمريكي، بل باتت في أحيان كثيرة تُقيد قراراتها. ولهذا، تسعى واشنطن لإعادة تشكيل النظام العالمي على أساس متعدد الأقطاب ظاهريًا، لكنه خاضع تمامًا لهيمنة التكنولوجيا الأمريكية والاستخبارات المالية والسيبرانية.

ولعل أخطر ما في هذا المشروع الأمريكي هو ما يدور في الخفاء من محاولات لإعادة بناء الاقتصاد العالمي بشكل يجعل من الولايات المتحدة القائد الوحيد لاقتصاد رقمي مشفر لا يخضع لأي رقابة دولية. تسعى واشنطن حاليًا لتدشين نظام عملات رقمية مشفرة تكون تحت سيطرتها التقنية والرقابية، وبما يُقصي العملات الوطنية للدول الأخرى، ويُضعف من سلطة البنوك المركزية، ويُخرج التجارة الدولية من تحت سيطرة الشعوب إلى قبضة شركات أمريكية عابرة للحدود.

وفي ضوء هذا المشهد المظلم، لا يسعنا إلا أن نرفع الصوت عاليًا ونُحذر من خطورة التمادي الأمريكي في رسم ملامح عالم لا يخدم سوى مصالحها ومصالح الكيان الصهيوني. فالمؤشرات كلها تؤكد أننا أمام مرحلة فارقة من التاريخ، تُعاد فيها صياغة الهوية الاقتصادية والجيواستراتيجية للعالم، تحت لافتة “النظام العالمي الجديد”، الذي تسعى واشنطن لفرضه بالقوة الناعمة حينًا، وبالدمار الخفي حينًا آخر. استخدام العملات الرقمية المشفرة، مثلما يبدو، ليس تطويرًا للنظام المالي فحسب، بل خطوة لإلغاء سيطرة الشعوب على اقتصاداتها وتحويل النقود إلى أداة سياسية تخضع للرقابة الأمريكية. والهيمنة على الممرات المائية ليست مسألة أمن ملاحي، بل تمهيد لابتزاز الدول وقطع شرايين التجارة العالمية عند الحاجة.

أما الدعم المطلق للكيان الصهيوني، فليس مجرد تحالف أمني، بل مشروع لإعادة ترسيم خريطة الشرق الأوسط وتكريس إسرائيل كأداة تنفيذية للإرادة الأمريكية. والتدمير الممنهج لدول الشرق الأوسط، من خلال الحروب أو العقوبات أو الحصار أو نشر الفتن الداخلية، إنما يُقصد منه إنهاء أي احتمال لنشوء قوى إقليمية قادرة على قول “لا”. الفزع والفوضى، باختصار، هما السلاحان الأمثل لواشنطن في فرض الخضوع، فكل دولة تُحيك لها مؤامرة، وكل شعب يُساق إلى الانقسام، وكل قرار داخلي يُربط بأجندة أمريكية.

إن الخطر القادم لا يهدد السيادة الوطنية فقط، بل يهدد الوعي العام والهوية الحضارية لشعوب المنطقة. وإن لم تنتبه الأنظمة والشعوب على حد سواء، فإن السنوات القادمة قد تشهد انهيارات أوسع مما رأينا في العراق وسوريا وليبيا، وربما تمتد إلى عواصم كبرى لم تكن تتوقع أن تقع في مصيدة الفوضى.

فلتكن هذه الكلمات صرخة يقظة لا صدى يضيع، ولتكن تحذيرًا حقيقيًا من مشروع لا رحمة فيه، عنوانه “إدارة العالم عبر الخراب”، وأداته الأولى هي واشنطن التي لا تكلّ ولا تملّ من العبث بمصير الشعوب. وعلى الأمة العربية والإسلامية أن تعي أن حماية النفس لا تكون إلا بتكاتف إرادتها، وتعزيز استقلالها، والتحرر من التبعية، وفضح أدوات الهدم التي تُصدّرها أمريكا كل يوم تحت شعارات براقة، وهي في الحقيقة، سمّ زعاف.