سوء الأخلاق في مجتمعات العشوائيات، قراءة موسَّعة في الجذور النفسية والاجتماعية والفلسفية والدينية لظاهرة عالمية

بقلم : محمد نجيب نبهان ( كاتب وناقد و باحث تاريخي )

 

ظاهرة العشوائيات ليست ظاهرة محصورة في بلد بعينه، ولا هي وليدة ثقافة محلية دون غيرها، بل هي معضلة عالمية تعكس وجها آخر من أوجه الحداثة المشوهة والتوزيع الجائر للثروة والسلطة. من ضواحي القاهرة إلى تلال كيب تاون، ومن أحياء ريو دي جانيرو العلوية إلى السفوح المنسية في مانيلا، ومن مدن الصفيح في الهند إلى مناطق السكن غير المنظم في تركيا وسوريا ولبنان والمغرب واليمن، تتكرر الظاهرة بتفاصيل مختلفة لكن بجوهر واحد: بشر يسكنون الهامش، لا فقط الجغرافي، بل الهامش الاجتماعي والاقتصادي والنفسي والأخلاقي، وغالبًا ما يكون هذا التهميش نتيجة مباشرة لاختلالات بنيوية لا يتحملها الفرد وحده، بل هي مسؤولية الدولة والنظام العالمي بأسره.

فالعشوائيات ليست مجرد “أماكن رديئة”، بل هي “بيئات مشوهة”، تتفاعل فيها مجموعة من العناصر: الفقر، والإقصاء، وسوء التخطيط، وغياب العدالة، والخلل في توزيع الفرص، وغياب الحماية الاجتماعية. وهي لا تعني بالضرورة مساكن الصفيح، فقد تتخذ أشكالًا مختلفة: أحياء فقيرة داخل المدن، مناطق نائية مهمشة، أو حتى مجمعات سكنية حديثة تفتقر لأي مضمون حضاري. ولذلك، فإن مناقشة سوء الأخلاق في هذه البيئات لا يصح أن تكون إدانة أخلاقية، بل دراسة تحليلية شاملة، تستند إلى خلفيات علم النفس والاجتماع والفلسفة والدين، وتبحث في الأسباب والجذور، وتطرح إمكانيات العلاج لا وصم الضحية.

محددات سيكولوجية:

سكان العشوائيات يخضعون يوميًا لضغوط نفسية عميقة، ليس فقط بسبب ضيق المساكن أو سوء الخدمات، بل نتيجة الشعور الدائم بأنهم غير مرئيين. هذا الشعور بالاختفاء من الوعي العام – من الدولة، من الإعلام، من المناهج، من الخطاب الثقافي – يفضي إلى نوع من الانكماش النفسي والتقوقع الذاتي، ويولد ما يسميه علماء النفس بـ”الاحتراق الداخلي”، أي انهيار الإحساس بالقيمة الذاتية، مع تعويض مرضي من خلال السلوك التعويضي: العنف، المبالغة في إثبات الرجولة، الاستعلاء العدواني، رفض القانون، ازدراء الآخرين.

عندما يُجبر الإنسان على العيش في بيئة غير إنسانية، وتُحاصره القذارة، والضجيج، والخطر، وتنعدم الخصوصية والكرامة، فإنه يبدأ في بناء جهاز نفسي دفاعي يستند إلى نكران المشاعر، والتحصن ضد التعاطف. لذلك نجد عند بعض سكان العشوائيات ما يشبه التبلد الوجداني، أو حتى العدوان التلقائي تجاه كل مظاهر النظام أو “الآخر”، لأن هذا الآخر يُذكّرهم بما حُرموا منه. هكذا تنشأ ديناميكيات سلوكية سامة يصعب علاجها بمواعظ أو قوانين، لأن الجرح الأعمق هو الجرح النفسي الوجودي: “أنا لا أُرى، إذن أنا أُسيء”.

محددات اجتماعية:

العشوائيات ليست بيئات فارغة من النظام، بل بيئات تخلق نظامها الخاص البديل، لكنها نظم هشة، غير مؤسسية، ومرتبطة بالمصلحة لا بالقيمة. فحين تغيب الدولة، وتغيب العدالة، يبرز البلطجي محل الشرطي، وشيخ الحارة محل القاضي، و”الزعيم المحلي” بدل مؤسسات المجتمع المدني. هذا الواقع يولّد ما يمكن تسميته بـ”المنظومات القيمية المشوهة”: يُحترم الأقوى، ويُستضعف المتسامح، وتُختزل الرجولة في العنف، والشرف في الانتقام، والذكاء في التحايل.

في ظل هذا الانهيار المؤسسي، تُختطف مفاهيم الخير والشر من أصلها الأخلاقي، وتُعاد صياغتها وفق الحاجة اللحظية. فالكذب ليس مذمومًا، بل “أسلوب حياة”، والغش في الامتحانات ليس خيانة، بل “تكيّف مع واقع لا يعترف بالمجهود”، والسرقة من الدولة ليست حرامًا، بل “استرداد للحق”. هذه الميوعة القيمية لا تظهر فجأة، بل تتراكم عبر سنوات من الغبن والخذلان والعجز عن الحصول على الحقوق بطرق مشروعة، فتتكرس عند الفرد قناعة أنه يعيش في “عالم غير عادل”، وبالتالي فمن حقه أن يُعامل الآخرين بنفس الظلم الذي عومِل به.

محددات فلسفية:

من زاوية فلسفية، تنشأ في العشوائيات ما يمكن تسميته بـ”أخلاق الندرة”، وهي منظومة قيمية لا تؤمن بالفضيلة كخيار أخلاقي مطلق، بل كترف لا يستطيع الإنسان الوصول إليه إلا إذا شبع وأُكرم. هنا تنقلب معايير الحكمة القديمة التي كانت تعتبر أن الفضيلة تظهر في الفقر، إلى قناعة وجودية مفادها: “لا يمكن أن أكون أخلاقيًا بينما أُهان كل يوم”.

الفكر الفلسفي في العشوائيات هو فلسفة الصدمة لا التأمل. وهو أشبه بموقف الإنسان السارتري في العبث الوجودي، حيث يصبح العالم بلا معنى، والحرية عبئًا، والمجتمع خصمًا، ويغدو الانحراف نوعًا من التمرد الفلسفي على عالم يرفض أن يُنصف الفرد. إنه تحوُّل من الأخلاق إلى الأدلجة، ومن القانون إلى الفوضى، ومن الأمل إلى الإزدراء.

محددات دينية:

في العشوائيات، يُلاحظ أن الدين – وهو في الأصل إطار إصلاحي وإنساني – يتحول إلى تدين اختزالي. فبدل أن يُسهم في ترميم الروح المنكسرة، يُمارس غالبًا كمجرد شعائر شكلية معزولة عن الحياة اليومية. والسبب لا يعود إلى خلل في الدين نفسه، بل إلى غياب البيئة التي تسمح بتمثل قيم الدين الأخلاقية: الصدق، العفة، الأمانة، الإحسان، الإيثار.

وقد حذر الإسلام من الربط السطحي بين العبادة والسلوك، وبيّن أن الدين لا يُقاس بعدد الركعات بل بأثره في المعاملة: “رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر”. بل إن النبي ﷺ ربط الدين بالأخلاق حين قال: “أقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا”. فحين يغيب هذا البُعد الأخلاقي، يتحول الدين إلى قناع يُستخدم لتبرير الانحراف أحيانًا، أو للاحتجاج على واقع الظلم دون تغييره.

أسباب تفشي العشوائيات عالميًا:

العشوائيات لا تنشأ من لا شيء، بل هي نتيجة لعوامل اقتصادية وسياسية وثقافية بنيوية. من أبرزها:

الهجرة الريفية غير المنظمة: حيث يفرّ سكان الريف من الجوع أو الحروب أو الجفاف، ليواجهوا في المدينة واقعًا لا يستوعبهم.

سوء التخطيط الحضري: إذ تغيب السياسات السكنية العادلة، وتُترك المدن تنمو بشكل غير متوازن.

الخصخصة العشوائية ورفع الدعم عن الخدمات: مما يجعل السكن والخدمات خارج متناول الفقراء.

غياب العدالة الاجتماعية وتضخم الفوارق الطبقية: إذ تتركز الثروة في يد فئة قليلة، وتُحرم الأغلبية من أبسط حقوقها.

الفساد الحكومي: حيث تتغاضى البلديات عن مخالفات البناء أو تحتكر الأراضي، تاركة الفقراء لحلول غير رسمية.

مسؤولية الدول والمجتمعات:

الدولة ليست مجرد سلطة تنفيذية، بل هي كيان أخلاقي يفترض أن يرعى جميع مواطنيه. لذلك فإن مسؤولية الدولة تجاه العشوائيات ليست إنسانية فقط، بل أخلاقية وتاريخية وسياسية. عليها أن تدمج سكان العشوائيات في النسيج الوطني لا أن تعزلهم، وأن توفر لهم البنية التحتية والفرص لا أن تحاصرهم، وأن تصغي إليهم لا أن تُسكتهم.

أما المجتمعات، فمسؤوليتها مضاعفة، إذ تقع في الغالب في فخ “الوصم الاجتماعي”، فتسخر من سكان العشوائيات، وتعتبرهم خطرًا أو وصمة عار. وهذا خطأ جسيم، لأن أي مواطن مهدد بأن يكون “عشوائيًا” إذا فُقدت العدالة، وتدهور الاقتصاد، وسُحقت الطبقة الوسطى. إن التضامن مع المهمشين لا يعني الشفقة عليهم، بل الاعتراف بحقوقهم والعمل على إنصافهم.

كيف نحدّ من الظاهرة؟

وضع خطط إسكان وطنية عادلة ومستدامة تعتمد على الإيجار التمليكي والدعم التشاركي.

دمج العشوائيات حضريًا بدل هدمها أو عزلها، عبر تحسين الخدمات والبنية التحتية.

تمكين سكان العشوائيات اقتصاديًا ببرامج التدريب والتمويل والتشغيل.

إصلاح التعليم وربطه بالحياة والواقع لا بالشهادات المجردة.

دعم الصحة النفسية والاجتماعية من خلال مراكز مجتمعية تقدم الدعم والاحتواء.

نشر ثقافة المواطنة والانتماء لتعزيز الروح الوطنية لدى الأجيال الجديدة.

سوء الأخلاق في بيئة العشوائيات ليس حكمًا قدريًا، ولا صفة وراثية، بل نتيجة لتفاعل قاسٍ بين الحرمان والإقصاء وغياب الأمل. وحين نفهم هذه الأخلاق لا كأفعال فردية بل كنتاج بيئي، سنكفّ عن جلد الضحية، وسنسأل أنفسنا: ماذا فعلنا كدول، كمجتمعات، كأنظمة فكرية ودينية، لنجعل الأخلاق ممكنة؟

إن بناء الإنسان لا يتم في الفراغ، ولا تنمو الأخلاق في الخراب. ولا عدل في أن نلوم من لم يُعط فرصة، أو نحاسب من لم يُعلَّم، أو نحتقر من عاش في الظل. فكل عشوائية في أطراف المدينة، هي عشوائية داخل ضمير الأمة، وكل انحراف أخلاقي هناك، هو مرآة لنقص العدالة هنا. وما لم نُضئ الظلمة، فسنبقى نُدين الجريمة دون أن نرى من قتل روح الفضيلة قبل أن يُزهق القانون.