بقلم : محمد نجيب نبهان ( كاتب وناقد و باحث تاريخي)
عن الفنان العربي الذي وقف أمام الكاميرا وابتعد عن الله
ليس الحديث هنا عن فردٍ قرر أن يُنكر وجود الله في لحظة يأس أو تمرّد عابر، بل عن ظاهرة باتت تتكرر بشكل لافت بين أوساط الفنانين العرب، وبخاصة أولئك المنغمسين في عالم التمثيل. ظاهرة تبدو سطحية من بعيد، لكنها حين تُفكك علميًا وفلسفيًا، تفضي إلى دهاليز من التأمل في علاقة الفن بالمقدّس، وفي تحوّل الإنسان من مخلوق يبحث عن الحقيقة إلى ذات ترى نفسها مركز الوجود.
فما الذي يدفع فئة من الفنانين العرب إلى الإلحاد؟
وما سر هذا النزوع المتكرر نحو اللادينية أو الشك أو حتى العداء الصريح للدين؟
هل هي رغبة معرفية خالصة؟
أم صدمة نفسية؟
أم تمرّد وجودي؟
أم نتاج تفاعل مركّب بين الذاتي والاجتماعي، بين الفجوة الأخلاقية والفكرية في المجتمع وبين حاجة الفنان لتجاوز القوالب؟
الفنّان والقلق الوجودي: قراءة عبر المدرسة الوجودية والتحليل النفسي
من وجهة نظر المدرسة الوجودية (كما عند سارتر وكامو ونيتشه)، فإن الإنسان في جوهره كائن حر، والحرية هي عبء ثقيل لأنه لا توجد وصاية عليا تُخبره بما يجب أن يكون. في هذا السياق، يبرز مفهوم “العبث” عند كامو، حيث يُطرح السؤال: ما جدوى الوجود في عالم لا يقدم أجوبة نهائية؟
الفنانون بطبعهم يُجسّدون هذا القلق. الممثل خصوصًا يعيش تعدد الهويات، يدخل ويخرج من الذوات، مما يخلق لديه حالة وجودية فريدة من الانفصال عن “الأنا الثابتة”. فرويد نفسه كان يرى أن الفنان هو من يحرر لاوعيه بطريقة أقرب إلى الحلم أو الهلوسة المنظمة، وبهذا فالفنان غالبًا ما يعبّر عن رغبات مكبوتة، صراعات نفسية دفينة، شكوك غير مُصرّح بها.
التمثيل هنا لا يُخرِج من الذات بل يُغرق فيها. ومع تراكم الأدوار، يصبح سؤال “من أنا؟” سؤالًا ملحًا ومزعجًا. هذا السؤال الوجودي، إن لم تُجب عليه منظومة دينية عقلانية، متماسكة، راحبة، فقد ينتهي إلى رفض وجودي شامل.
القطيعة مع الدين لا مع الإيمان: سوسيولوجيا التديّن الشكلي
في المجتمعات العربية، كثيرًا ما يُختزل الدين في سلوك ظاهري، يُفرض على الناس عبر الضغط الاجتماعي لا عبر الإيمان الشخصي. الفنانون، بسبب شهرتهم، غالبًا ما يُستهدفون بالرقابة الاجتماعية أكثر من غيرهم. فإذا ارتدت الممثلة فستانًا جريئًا، أو أدّى الممثل مشهدًا عاطفيًا، انهالت عليهم الإدانات من “حرّاس الفضيلة”، بينما يُغض الطرف عن كبار الفاسدين والمستبدين.
هذه الازدواجية تُحدث صدمة في النفس، وتُحوّل الدين إلى سلطة قمعية لا روحية. الفنان هنا لا يرفض الإيمان، بل يرفض “الدين المُسيّس أو المشوّه”، فيقع في الفخ: يهدم الهيكل بدل أن يُنقّيه. وهذا ما أسماه المفكر المغربي محمد عابد الجابري بـ “القطيعة مع الفهم التقليدي للدين”، لا مع الدين ذاته.
نظرية الانفصام الاجتماعي: عندما تتضخم الأنا ويضمحل المقدّس
من منظور علم النفس الاجتماعي، يمكن استدعاء مفهوم “الانفصام بين الأنا الاجتماعية والأنا الداخلية” الذي تحدث عنه إريك فروم. الفنان الذي يُعامل على أنه رمز جماهيري قد يبدأ، بمرور الوقت، بالشعور بتضخم الذات. هذه الذات التي تصعد على المسرح، وتُصفق لها الجماهير، وتُكرم وتُحتفى، تبدأ تدريجيًا في الإحساس بالاكتفاء، وربما القداسة. وفي ظل هذا الشعور، تتضاءل الحاجة إلى مرجع أعلى، إلى إله، إذ تصبح الذات مركز التقديس.
هنا يتحول الإلحاد إلى رد فعل نفسي دفاعي. هو تعبير عن استغناء رمزي، لا عن قناعة فكرية بالضرورة. كثير من الفنانين الذين صرّحوا بإلحادهم أو ميولهم اللادينية، لم يأتوا بأطروحات فلسفية متماسكة، بل تحدثوا غالبًا بلغة المشاعر: “أنا لا أشعر بوجود الله”، “أنا لم أجد إجابات”، “الدين يقيّدني”. إنها تعبيرات أكثر نفسية منها عقلانية.
العدمية كتجربة فنية: عندما يتحوّل المسرح إلى معبد نيتشوي
من أبرز المفكرين الذين أثروا في المزاج الفلسفي للفنانين المعاصرين هو فريدريك نيتشه، الذي أعلن موت الإله في قلب أوروبا. نيتشه لم يكن ملحدًا تقليديًا، بل كان ناقدًا للنسخة الأخلاقية الضعيفة من الدين التي قتلها “الضمير الجمعي”. ولذا دعا الإنسان لأن يصنع قيمه بنفسه، ويصبح “الإنسان الأعلى”.
هذا الطرح، على الرغم من عمقه الفلسفي، تحوّل في عالم الفن إلى حالة من “العدمية الوجودية”؛ أي إنكار القيم، الإنكار الكامل للمعنى، وكأن الفن وُجد فقط ليهدم دون أن يبني. المسرح هنا يصبح معبدًا بديلًا، والجمهور هو الإله الجديد، والتصفيق هو طقس التقديس، والذات المؤدية هي “الكاهن الأعلى” لهذا الطقس.
صدمة المأساة، وابتلاع الألم الفني
كثير من الفنانين مرّوا بمآسٍ في طفولتهم، سواء أسر مفككة، أو فقر، أو قمع، أو استغلال جسدي أو نفسي. هذه التجارب، كما تشير إليها دراسات “علم نفس الصدمة”، تخلق حالة من اللايقين العاطفي. الإيمان، عند هؤلاء، ليس دائمًا ملاذًا بل أحيانًا يُنظر إليه على أنه تخدير. يرفضون الدين لأنه لم يحمِهم، أو لأنهم اختبروا الألم في حضوره.
لكن هنا تظهر المفارقة الكبرى: كثير من أعظم رجالات الدين والفكر مرّوا بألم شديد، ومع ذلك كان الألم طريقهم للإيمان لا للشك. الأمر إذًا ليس في الدين، بل في الكيفية التي نُعلّم بها الناس كيف يواجهون الألم.
غياب الخطاب الديني العميق: حين لا يجد الفنان إجابة إلا في الرفض
الخطاب الديني السائد في معظم البلاد العربية يتسم إما بالسطحية أو بالقمع. قليلون هم الدعاة والمفكرون الذين يحاورون الفنان من موقع الندية والرحمة والفهم. الفنانون لا يحتاجون من يُدينهم، بل من يُنصت إليهم ويخاطبهم بلغة تحترم تعقيدهم النفسي والفكري.
حين يفقد الفنان هذا الحوار، لا يبقى له إلا الفكر الغربي الحديث: كامو، سارتر، نيتشه، فرويد، ماركس، وهي أسماء تقدم “أجوبة بلا إله”. هذه الأجوبة وإن كانت جذابة ظاهريًا، إلا أنها كثيرًا ما تنتهي إلى خواء، إلى سؤال لا يزول: وماذا بعد؟
بين الإيمان والفن: حوار لم يبدأ بعد
لسنا هنا بصدد شيطنة الفنانين، ولا تأليههم. بل القول إن كثيرًا من أسئلتهم مشروعة، وأن الإلحاد ليس دائمًا نهاية، بل قد يكون بداية لحوار عميق مع الذات، ومع الله. كما أن هناك فنانين، كثيرين، مؤمنين بعمق، ومتدينين دون صخب، يقدّمون فنًا رفيعًا دون أن ينفصلوا عن قناعاتهم الدينية.
إن الدين في جوهره دعوة إلى التأمل، إلى محبة الجمال، إلى التعبير، إلى السؤال. الفن أيضًا دعوة إلى التعبير عن الجمال، وتحرير الكبت، وطرح الأسئلة. الصدام بين الاثنين ليس قدريًا. بل هو نتيجة تشوّه الفهم لا تضاد في الأصل.
خاتمة مفتوحة: هل الفنان ملحد حقًا؟ أم باحث تائه عن ضوء؟
ربما لم يُلحد الفنان فعلًا، بل فقط انزوى بعيدًا عن الصور المشوهة للدين التي نشأت في ظل استبداد سياسي واجتماعي. وربما هو الآن أكثر قربًا من الله، لأنه تجرّأ على السؤال، وتمرد على الزيف. الإيمان الحقيقي لا يخشى التساؤل، بل يتغذى عليه.
الفنان الذي يبحث عن الجمال، إذا أحسن التوجه، سيصل إلى الله الذي هو “جميل يحب الجمال”. والشك، إذا كان صادقًا، قد يكون مرحلة من مراحل الإيمان، لا نقيضه.