واستعدوا فإن المعركة لم تنتهِ بعد

بقلم فضيلة الشيخ : حسين السمنودي
إمام وخطيب ومدرس على درجة مدير عام بمديرية أوقاف القاهرة


قال تعالى: “وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ”… هذه الآية ليست مجرد توجيه إلهي للمسلمين في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، بل هي دستور خالد، وصيغة إلهية للبقاء والحفاظ على الأوطان والعقيدة في وجه كل معتدٍ أثيم، وهي في هذا الزمن تُعد من أهم الأوامر الربانية التي يجب أن تُفهم وتُفعل، لا أن تُردد بلا وعي.

القوة في الآية ليست محصورة في السلاح وحده، رغم أن امتلاك السلاح الرادع هو أول أركانها، بل القوة تمتد لتشمل الوعي، والإعلام، والعقيدة، والاقتصاد، والوحدة، والاستعداد النفسي، والرباط الفكري قبل رباط الخيل، إذ لا فائدة من جيش قوي ما لم يكن خلفه شعب يدرك قيمة الوطن ويعي خطورة المعركة. القوة التي أمر الله بها هي تلك التي تحفظ الأمن وتردع العدو وتبني الدولة وتمنع الأعداء من اختراق الصفوف أو إضعاف الروح المعنوية للشعوب.

في ظل الأحداث التي نشهدها، من غطرسة صهيونية مقيتة في غزة، وقتل للمدنيين بلا رحمة، وضرب للبنية التحتية بلا هوادة، وتدخلات في سوريا ولبنان واليمن، وسموم تُغرس في جسد الأمة عبر الغذاء والفكر والمخدرات والشذوذ والإعلام المسخ، ندرك أن العدو لا ينام، ولا يتوقف، ولا يعرف سوى لغة القوة. فالعالم العربي والإسلامي، وفي القلب منه مصر، يواجه تحديات لم يشهدها من قبل. الصراعات لم تعد فقط عسكرية، بل نفسية وثقافية واقتصادية، تتسلل من كل نافذة، وتضرب من كل باب.

مصر – تلك الدولة التي وُصفت في القرآن بأنها “آمنة” و”مباركة” – ليست مجرد دولة ضمن خارطة العالم الإسلامي، بل هي قلبه النابض، ودرعه الحامي، وإذا انهار هذا الدرع تفكك البنيان كله. وجيشها – الذي وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه خير أجناد الأرض – ليس مجرد مؤسسة نظامية، بل هو أمل الأمة في البقاء، وهو المستهدف الأول من أعداء الداخل والخارج. فمصر لا تقاتل فقط عن حدودها، بل عن العقيدة والكرامة، عن قلوب الملايين الذين يرون في الجيش المصري حصناً منيعاً في وجه السقوط.

أما القيادة السياسية المصرية، فقد اختارت الطريق الصعب، طريق الاستقلال والكرامة، رغم الضغوط والتآمرات، فرفضت أن تكون تابعاً أو رهينة لإملاءات الخارج، وسعت لتقوية الجيش، وتحقيق الاكتفاء الذاتي، والوقوف على قدم المساواة في عالم لا يعترف إلا بالأقوياء. لكنها قيادة لا تستطيع أن تنجح وحدها ما لم يكن هناك وعي شعبي، واستعداد جماهيري للوقوف خلفها ودعم خياراتها الوطنية المصيرية.

القوة اليوم لا تعني فقط امتلاك الطائرات والصواريخ والدبابات، بل تعني امتلاك الوعي، وإحياء العقيدة، وتحصين العقول ضد الشائعات، وبناء الأوطان رغم المحن، وعدم الركون للراحة أو التصديق بأن العدو سيتغير. العدو الذي يرى في الدين تخلفاً، وفي فلسطين عبئاً، وفي وحدة العرب خطراً، وفي استقرار مصر نهاية لمخططاته، لا يفهم إلا بلغة واحدة… هي لغة القوة.

لقد رأينا بأعيننا كيف يعبث الكيان الصهيوني بكل المحرمات، وكيف يقتل الأطفال بدم بارد، ويقصف المستشفيات والكنائس والمساجد، ويضحك على العالم وهو ينتهك كل الأعراف والمواثيق الدولية، رأيناه في غزة وسوريا ولبنان، ورأيناه وهو يضرب اليمن ويحرض على الفتن في السودان، ويرسل عملاءه لزرع الفوضى في مصر وغيرها، بل ويسمم الغذاء والماء، وينشر الأمراض، ويحارب الدين والفطرة، ويمول الكيانات المشبوهة لنشر الرذيلة باسم الحرية.

أمام هذا كله، لم يعد هناك مجال للمجاملات أو الخطابات الرنانة، بل لا بد أن نكون على قدر الآية الكريمة: “وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ”. فلو أن كل دولة إسلامية أعدت قوتها الحقيقية، لما تجرأ أحد على دمائنا ولا أعراضنا ولا مقدساتنا.

القوة اليوم هي أن نعد أجيالنا للتحدي، أن نعلمهم أن فلسطين ليست قضية، بل عقيدة، وأن الدفاع عن الوطن ليس شعاراً، بل دين. القوة أن نحيي مفهوم الجهاد الحقيقي في النفوس، لا بالسيف فقط، بل بالقلم، والعدسة، والمنصة، والمصنع، والزرع، والميدان. القوة أن نصطف في خندق واحد، وأن ندرك أن المعركة الكبرى لم تبدأ بعد، وأن ما نراه ما هو إلا إرهاصات لما هو آت.

وإن خاتمة القول تقتضي منا وقفة صادقة مع أنفسنا كعرب وكمسلمين. لم تعد المعارك تُحسم في الميادين وحدها، بل في عقول الأجيال، وفي صبر الشعوب، وفي صفوف المصانع، وفي وضوح الرؤية وشرف الموقف. العدو أمامنا واضح، غطرسته تتزايد، ودمويته بلا حدود، وأهدافه لا تقف عند فلسطين أو غزة، بل تمتد لتشمل كل دولة حرة ترفض الخضوع والركوع.

والتاريخ يعلمنا أن الشعوب التي لم تستعد تسقط سريعاً، وتُكتب نهايتها بأقلام أعدائها، أما الشعوب التي تعي وتجهز وتستعد وتبني على وعي ودماء وكرامة، فهي وحدها التي تبقى، وتحيا، وتفرض احترامها على هذا العالم المجنون.

إن الله وعدنا بالنصر، لكن بشرط: “وأعدوا…”. فإن أعددنا بما استطعنا، فتح الله لنا الأبواب المغلقة، وألقى الرعب في قلوب أعدائنا، وإن تراخينا أو ظننا أن المعركة مجرد مشهد مؤلم في الأخبار، فلن يرحمنا التاريخ، ولا الأجيال القادمة، ولا رب العزة الذي خاطبنا فقال: “إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم”.

فليكن لكل مصري وعربي ومسلم في هذه الأيام وقفة، ولو بسطر في وعي، أو دعاء في ليل، أو سعي في بناء، أو دعم لصاحب قرار رشيد، فكل لبنة في جدار القوة تُحسب، وكل دقيقة إهمال تُكلفنا دهراً من الألم.

ما زال العدو يظن أننا غافلون… فلنثبت له أن في هذه الأمة رجالاً لا تنام، ونساءً لا تخنع، وجيوشاً لا تنكسر، وقيادات لا تُباع، وإن غداً لناظره قريب.