خطبة بعنوان ( إذا أردت السلامة من غيرك فاطلبها فى سلامة غيرك منك) لفضيلة الشيخ ياسر عبدالبديع


خطبة بعنوان ( إذا أردت السلامة من غيرك فاطلبها فى سلامة غيرك منك)

لفضيلة الشيخ : ياسر عبدالبديع

بتاريخ / 24 من ذى الحجة 1446 هجرية –  20 يونيو 2025 م

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمَلْءَ مَابَيْنَهُمَا وَمُلْءَ مَاشِئْتَ يَارِبُ مِنْ شَئٍّ بَعْدَ أَهْلِ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ أَحَقُّ مَاقَالَ الْعَبْدُ وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ اللَّهُمَّ لَامُعْطَى لِمَا مَنَعْتَ وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ

سَبْحَانُكَ اللَّهُمَّ خَيْرَ مُعَلِّمٍ عَلَّمْتَ بِالْقَلَمِ الْقُرُونَ الْأُولَى أَخْرَجْتَ هَذَا الْعَقْلَ مِنْ ظُلُمَاتِهِ وَهَدَيَتَهُ النُّورَ الْمُبِينَ سَبِيلًا وَأَرْسَلْتَ بِالتَّوْرَاةِ مُوسَى مُرْشِدًا وَابْنَ الْبَتُولِ فَعَلَّمَ الْإِنْجِيلَا وَفَجَرَتْ يَنْبُوعَ الْبَيَانِ مُحَمَّدًا فَسَقَى الْحَدِيثَ وَنَاوَلَ التَّنْزِيلَا

وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا وَمُصْطَفَانَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا وَرَسُولًا أُوصِيكُمْ وَنَفْسَى بِتَقْوَى اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُو اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحُ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرُ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا أُحَدِّثُكُمْ الْيَوْمَ عَنْ مَوْضُوعٍ تَحْتَ عُنْوَانِ

إذا أردت السلام من غيرك فاطلبها فى سلامة غيرك منك

العُنْصُرُ الْأَوَّلُ : سَلَامَةُ الصُّدُور وَنَقَاء الْقُلُوب

فَقَدْ حَرِصَ الْإِسْلَامُ حِرْصًا شَدِيدًا عَلَى تَأْلِيفِ قُلُوبِ أَبْنَاءِ الْأُمَّةِ بِحَيْث تَشِيع الْمَحَبَّة وَتُرَفْرِف رَايَات الْأُلْفَةِ وَالْمَوَدَّةِ، وَتَزُول الْعَدَاوَات وَالشَّحْنَاء وَالْبَغْضَاء وَالْغِلِّ وَالْحَسَدِ وَالتَّقَاطُع . وَلِهَذَا امْتَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ بِهَذِهِ النِّعْمَةِ الْعَظِيمَةِ فَقَال: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا) [ال عِمْرَانَ:103].

بَلْ امْتَنَّ عَلَى نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِأَنْ أَوْجَد لَهُ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ تَأَلَّفَتْ قُلُوبِهِمْ: (هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ) [الْأَنْفَال:62، 63].

وَحَتَّى تَشِيع الْأُلْفَةِ وَالْمَوَدَّةِ لَابُدَّ مِنْ سَلَامَةِ الصُّدُور، وَنَقْصِد بِسَلَامَةِ الصُّدُورِ طَهَارَتُهَا مِنْ الْغِلِّ وَالْحِقْدِ وَالْبَغْي وَالْحَسَد.

وَالْحَدِيثُ عَنْ هَذِهِ الْقَضِيَّةِ وَهَذَا الْخَلْق حَدِيث مُهِمّ وَتَذْكِير لابُدَّ مِنْهُ فِي وَقْتِ انْشَغَل أَكْثَرُ النَّاسِ بِالظَّوَاهِر وَاسْتَهَانُوا بِأَمْر الْبَوَاطِن وَالْقُلُوب مَعَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَنْظُرُ إلَى الصُّوَرِ وَلَا إلَى الْأَجْسَادِ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إلَى الْقُلُوبِ وَالْأَعْمَال، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ عَلَّقَ النَّجَاةَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِسَلَامَة الْقُلُوب: (يَوْمٍ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إلَّا مِنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) [الشُّعَرَاء:88، 89].

وَالْقَلْبُ السَّلِيمُ هُوَ الْقَلْبُ السَّالِمُ مِنْ الشِّرْكِ وَالْغِلُّ وَالْحِقْدُ وَالْحَسَدُ وَغَيْرِهَا مِنْ الْافَاتِ وَالشُّبُهَات وَالشَّهَوَات الْمُهْلِكَة.

ثُمَّ إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “لَا تَبَاغَضُوا وَلَا تَحَاسَدُوا وَلَا تَدَابَرُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا وَلَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ” [الْبُخَارِىّ].

فَضَل سَلَامَةُ الصَّدْرِ وَمَنْزِلَتُهَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى:

يَا صَاحِبَ الْقَلْبِ السَّلِيمِ أَنْتَ مِنْ صَفْوَةِ اللَّهِ الْمُخْتَارَةَ
فَقَدْ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ أَفْضَلِ النَّاسِ، فَقَالَ: “كُلُّ مَخْمُومِ الْقَلْبِ صَدُوقِ اللِّسَانِ”. قَالُوا: صَدُوقُ اللِّسَانِ نَعْرِفُهُ؛ فَمَا مَخْمُومُ الْقَلْبِ؟ قَالَ: “الْتَقَى النَّقِيُّ الَّذِي لَا إثْمَ فِيهِ وَلَا بَغْيَ وَلَا غِلَّ وَلَا حَسَد”.

ثُمَّ نَقُولُ: إنَّ سَلَامَةَ الصَّدْرِ سَبَبٍ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ قَبُولِ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ

قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “تُعْرَضُ الْأَعْمَالُ كُلَّ يَوْمٍ اثْنَيْنِ وَخَمِيسٍ، فَيَغْفِرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ لِكُلِّ امْرِئٍ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا، إلَّا أَمَرَء كَانَتْ بَيِّنَةُ وَبَيْنَ أَخِيهِ شَحْنَاءُ فَيَقُولُ: اُنْظُرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا”. فَانْظُرْ كَمْ يَضِيعُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ الْخَيْرِ مِنْ يُحْمَلُ فِي قَلْبِهِ الْحِقْدِ وَالْحَسَدِ وَالْغِلِّ؟!!

سَلَامَةُ الصَّدْرِ طَرِيقٌ إلَى الْجَنَّة:
فَأَوَّلُ زُمْرَةٍ تَدْخُلُ الْجَنَّةَ: “…لَا اخْتِلَافَ بَيْنَهُمْ وَلَا تَبَاغُضَ، قُلُوبُهُمْ عَلَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ..” [الْبُخَارِىّ].

وَقِصَّة عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو مَعَ ذَلِكَ الرَّجُلُ الَّذِي قَالَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “يَطَّلِعُ عَلَيْكُمْ الْانَ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ” مَعْرُوفَة فَقَدْ عَاشِرَة عَبْدِ اللَّهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ فَلَمْ يَجِدْهُ كَثِير التَّطَوُّعِ بِالصَّلَاةِ أَوْ الصِّيَامِ فَسَأَلَهُ عَنْ حَالِهِ فَقَالَ الرَّجُلُ: “مَا هُوَ إلَّا مَا رَأَيْت غَيْرَ أَنِّي لَا أَجِدُ فِي نَفْسِي لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ غِشًّا وَلَا أَحْسُدُ أَحَدًا عَلَى خَيْرٍ أَعْطَاهُ اللَّهُ إيَّاه”.
فَأَعْلَنَهُا ابْنُ عَمْرٍو صَرِيحَة مُدَوَّيه :هَذِهِ الَّتِي بَلَغَتْ بِكَ…

وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ حَالِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَقَال:
(وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ) [لَاعَراف:43]. (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ) [الْحَجْر:47].

اللَّه يَمْدَحُهُمْ:
( وَاَلَّذِين تَبُواوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ * وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ امَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ) [الْحَشْر:9، 10].
فَهَيَّأ إِخْوَانِي وَأَخَوَاتِي نُطَهِّر قُلُوبِنَا مِنْ الْحِقْدِ وَالْغِلِّ وَالْحَسَدِ حَتَّى نَسْعَد بِصُحْبَة الْأَبْرَار الصَّالِحِين، وَنَفُوز بِالْقُرْبِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَإِنَّ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَخْبَرَ عَنْ عَبَّادِ لَيْسُوا بِأَنْبِيَاءَ وَلَا شُهَدَاءَ، يَغْبِطُهُمْ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ، عَلَى مَجَالِسِهِمْ وَقُرْبِهِمْ مِنْ اللَّهِ، فَلَمَّا سُئِلَ عَنْهُمْ أَخْبَرَ أَنَّهُمْ أُنَاسٌ لَمْ تَصِلْ بَيْنَهُمْ أَرْحَامٌ مُتَقَارِبَةٌ.. لَكِنَّهُمْ تَحَابُّوا فِي اللَّهِ، وَتَصَافَوْا..

فَهَلَّا سَلِمَتْ صُدُورَنَا لِلْمُسْلِمِين وَصَفْت؟

يَفُوز صَاحِبَ الصَّدْرِ السَّلِيمُ بِكُلِّ الْفَضَائِلِ الَّتِي سَبَقَ الْحَدِيث عَنْهَا وَالنَّتِيجَة الْمُبَاشَرَة هِي:  رَاحَة الْبَال وَالْبُعْدِ عَنْ الْهُمُومِ وَالغُمُوم.

· اتِّقَاء الْعَدَاوَات.
أَمَّا بِالنِّسْبَةِ لِلْمُجْتَمَع فَإِنَّهُ يَكُونُ مُجْتَمِعًا مُتَمَاسِكًا مَتْرُاصا مُتَّكِاتفا تُرَفْرِفُ عَلَيْهِ رَايَات الْمَحَبَّة وَالإِخَاء وَيُصَدَّق عَلَيْهِمْ قَوْلُ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – : “مِثْلَ الْمُومِئِن فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى”. [صَحِيح مُسْلِمٍ].

أَنَا أُرِيدُ أَنْ تَتَأَمَّلَ مَعِي هَاتَيْنِ الْايَتَيْنِ لِتُعْرَف قِيمَة سَلَامَةُ الصَّدْرِ بِالنِّسْبَةِ لِلْمُجْتَمَع: (إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إنْ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) [الِ عِمْرَانَ:120]، (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا) [الْأَنْفَال:46].

فَأَعْدَاء الْأَمَة لَنْ يَنَالُوا مِنْهَا مِائَرِيدُون طَالَمَا ظِلّ أَبْنَاؤُهَا مُتَحَابَّيْن مُتَمَاسِكًين سُلَيْمَى الصُّدُور غَيْر مُتَنَازِعَيْن. وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُسْلِمُ مِنْ سَلَمٍ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ

هَذَا سَيِّدٌ وَلَدِ ادَمَ أَجْمَعِينَ عَلَيْهِ صَلَوَاتٌ رَبِّ الْعَالَمِينَ، يَذْهَبُ إلَى الطَّائِفِ عَارِضًا نَفْسِهِ عَلَى وَجْهٍأَيُّهَا وَأَهْلُهَا، فَلَمْ يُجِبْهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ، فَانْطَلَقَ مَهْمُومًا، وَإِذَا هُوَ بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْه فِيهَا جِبْرِيلُ، وَمَعَهُ مَلَكُ الْجِبَالِ فَنَادَاه مَلَكُ الْجِبَالِ: “أَنْ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَأَنَا مَلَكُ الْجِبَالِ وَقَدْ بَعَثَنِي رَبُّكَ إِلَيْكَ لِتَأْمُرَنِي بِأَمْرِك فَمَا شِئْت، أَنْ شِئْت أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الأَخْشَبَيْنِ [جَبَلًا مَكَّةَ] فَقَالَ صَاحِبُ الصَّدْر السَّلِيم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “بَلْ أَرْجُو أَنْ يَخْرُجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا”.

فَأَيّ صَبَر وَسَلَامُه صَدَر هَذَا !!!.

ثُمَّ تَأَمَّلْ حَالِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ ضَرَبَهُ قَوْمُهُ فَأَدْمَوْهُ (اسْأَلُوا دَمِه) فَمَسَح الدَّمِ وَهُوَ يَقُولُ: “اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لَا يَعْلَمُون”.

وَاسْتَحْضَر مَعِي حَالَة الْمُشْرِكِينَ مَعَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَكَّةَ وَقَدْ أذَوْه وَسَعَوْا فِي قَتْلِهِ حَتَّى خَرَجَ مِنْ بَيْنِ أَظْهُرِهِمْ وَكَانَ الْأَمْرُ كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاَللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) (الأَنْفَالِ:30)

فَلَمَّا مَكَّنَ اللَّهُ لَهُ وَدَخَلَ مَكَّةَ فَاتِحًا مَا انْتَقَمَ وَلَا أَذًى بَلْ قَالَ لِقَوْمِهِ:
“لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْم”.
وَالْأَمْثِلَةُ مِنْ حَيَاتِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَثِيرَةٌ، فَهَذَا فَيْضٌ مِنْ غَيْضِ

العُنْصُرُ الثَّانِي : حُرْمَةً الْأَذَى وَخَطَورَتِه

فَقَدْ بَنَى الْإِسْلَام أَسَّسَه فِي تَنْظِيمِ الْعَلَاقَةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ بَيْنَ أَبْنَاءِ الْمُجْتَمَعِ الْمُسْلِمِ عَلَى قَوَاعِدِ مِثْلِيّ وَرَكَايز فَضْلِى، وَجَعَلَ مِنْ أَهَمِّ هَذِهِ الْأُسُسِ وَالرَّكَائِز رِبَاط الأُخُوَّةِ الإِيمَانِيَّةِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إخْوَةٌ} [الْحُجُرَات: 10]، وَنَحْوُ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَنَاجَشُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَلَا يَبِعْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَيْعِ بَعْضٍ، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا، المُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمِ، لَا يَظْلِمُهُ، وَلَا يَحْقِرُهُ، وَلَا يَخْذُلُهُ…”(مُسْلِمٌ). وَجَعَلَ مِنْ عَلَامَاتِ كَمَالِ الْإِيمَانِ أَنْ يُحِبَّ الْمُسْلِمُ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّهُ لِنَفْسِهِ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “لَا يُؤْمَنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى يُحِبَّ لِأَخِيهِ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ”.(الْبُخَارِيُّ).

هَذِهِ الرَّابِطَةِ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْحِرْصُ عَلَى تَقْدِيمِ النَّفْعِ لِلْمُسْلِمِينَ وَمَنْعِ كُلُّ إشْكَالٍ أَذِيَّتِهِمْ؛ لِهَذَا جَاءَتِ النُّصُوصُ الْكَثِيرَةُ فِي كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى وَسُنَّةِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تُؤَكِّدُ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى، وَتَضَمَّنَتْ هَذِهِ النُّصُوصِ الْوَعِيدِ وَالزَّجْرِ الشَّدِيدِ لِمَنْ تَعَمَّدَ أَذِيَّة الْمُسْلِم بِأَيِّ نَوْعٍ أَوْ شَكْلٍ مِنَ إشْكَال الْأَذِيَّة الْقَوْلِيَّةِ أَوْ الْفِعْلِيَّةِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَاَلَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنـات بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدْ احْتَمَلُوا بُهْتـأَنَا وَإِثْمًا مُبِينًا} (الْأَحْزَابِ: 58). قَالَ الشَّيْخُ السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِهَا: (وَإِنْ كَانَتْ أَذِيَّة الْمُؤْمِنِين عَظِيمَة، وَإِثْمُهَا عَظِيمًا، وَلِهَذَا قَالَ فِيهَا: { وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا } أَيْ: بِغَيْرِ جِنَايَةٍ مِنْهُمْ مُوجِبَة لِلْأَذَى { فَقَدْ احْتَمَلُوا } عَلَى ظُهُورِهِمْ { بُهْتَانًا } حَيْث اذَوهُمْ بِغَيْرِ سَبَبٍ { وَإِثْمًا مُبِينًا } حَيْث تَعَدَّوْا عَلَيْهِمْ، وَانْتَهَكُوا حُرْمَة أَمَرَ اللَّهُ بِاحْتِرَامِهَا.

وَلِهَذَا كَانَ سَبَّ احَادِ الْمُؤْمِنِينَ، مُوجِبًا لِلتَّعْزِيرِ، بِحَسَب حَالَتِه وَعُلُوُّ مَرْتَبَتِهِ، فَتَعْزِير مَنْ سَبَّ الصَّحَابَةَ أَبْلَغ، وَتَعْزِيرُ مَنْ سَبَّ الْعُلَمَاءُ، وَأَهْلُ الدَّيْنِ، أَعْظَمُ مِنْ غَيْرِهِمْ).ا.ةـ.

وَيَقُول الْفُضَيْلِ رَحِمَهُ اللَّهُ: “لَا يَحِلُّ لَك أَنْ تُؤْذِيَ كَلْبًا أَوْ خَنّـزِيرًا بِغَيْرِ حَقٍّ، فَكَيْفَ بِمَنْ هُوَ أَكْرَمُ مَخْلُوق؟!”، وَقَالَ قَتَادَةُ رَحِمَهُ اللَّهُ: “إيَّاكُمْ وَأَذَى الْمُؤْمِنُ، فَإِنَّ اللَّهَ يَحُوطُه وَيَغْضَب لَهُ”.
وَقَالَ ابْنُ رَجَبٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: “تَضَمَّنَتْ النُّصُوصِ أَنْ الْمُسْلِمَ لَا يَحِلُّ إيصَال الْأَذَى إلَيْهِ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ مِنْ قَوْلِ أَوْ فِعْلٍ بِغَيْرِ حَقٌّ”.

وَقَدْ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى الْمُؤْمِنِينَ عَنْ أَذِيَّةِ الْمُسْلِمِ وَلَوْ كَانَ مُحْتَاجًا وَلَوْ كُنَّا نَتَصَدَّق عَلَيْه وَنُعْطِيه، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يَتَّبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفَ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ . قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ . يَا أَيُّهَا الَّذِينَ امَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمَنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْاخِرِ…}(الْبَقَرَة:262-264).

وَلِأَنَّ أَذِيَّة الْمُؤْمِنِين سَبَبٍ مِنْ أَسْبَابِ سُخْطِ اللَّهِ تَعَالَى وَغَضَبِهِ، فَقَدْ صَعِدَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ الْمِنْبَرَ فَنَادَى بِصَوْتٍ رَفِيعٍ فَقَالَ: “يَا مَعْشَرَ مَنْ أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفِضْ الْأَيْمَانِ إلَى قَلْبِهِ، لَا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تُعَيِّرُوهُمْ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مِنْ تَتَبُّعِ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ”. (التِّرْمِذِيّ). وَنَظَرَ ابْنُ عُمَرَ يَوْمًا إلَى الْبَيْتِ أَوْ إلَى الْكَعْبَةِ، فَقَالَ: مَا أَعْظَمَك وَأَعْظَمَ حُرْمَتَك، وَالْمُؤْمِنُ أَعْظَمُ حُرْمَةً عِنْدَ اللَّهِ مِنْك.

وَنَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْذَرُ مِنْ الْأَذَى فِي صُوَرٍ كَثِيرَةٍ، حَتَّى فِي أُمُورِ قَدْ يَسْتَهِينَ بِهَا النَّاسُ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ فِي الطُّرُقَاتِ”، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا لَنَا بُدٌّ فِي مَجَالِسِنَا، نَتَحَدَّثُ فِيهَا، فَقَالَ: “إذَا أَبَيْتُمْ إِلَّا الْمَجْلِسَ فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ”، قَالُوا: وَمَا حَقُّ الطَّرِيقِ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: “غَضُّ الْبَصَرِ، وَكَفُّ الْأَذَى، وَرَدُّ السَّلَامِ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ”.(مُسْلِم).

وَلَقَدْ بَلَغَتْ عِنَايَة الشَّرِيعَة الرَّبَّانِيَّةِ فِي مَنْعِ أَذَى الْمُؤْمِنِينَ وَالتَّحْذِيرِ مِنْ الْإِضْرَارِ بِهِمْ وَلَوْ كَانَ الْقَصْدُ حَسَنًا وَالْهَدَف نَبِيلًا، جَاءَ رَجُلٌ يَتَخَطَّى رِقَابَ النَّاسِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ، فَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَهُ: “اجْلِسْ فَقَدْ اذَيْت”(أَبُودَاوُد).

وَفِي جَانِبِ اخَرَ يُرَاعَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَشَاعِر لِدَرَجَةِ أَنَّهُ يَقُولُ: “لَا يَتَنَاجَى اثْنَانِ دُونَ الثَّالِثِ ، فَإِنْ ذَلِكَ يُؤْذِي الْمُؤْمِن وَاَللَّه يَكْرَهُ أَذَى الْمُؤْمِنِ”.

وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْأُمُورِ فَكَيْفَ بِالْأَذَى الْمَقْصُود وَالْأَذِيَّة الْمُتَعَمِّدَة لِأَجْل الْأَغْرَاض الشَّخْصِيَّة وَالْمَنَافِع الدُّنْيَوِيَّة؟!.

وَإِذَا كَانَ الْأَذَى بِغَيْرِ حَقٍّ مُحْرِمًا فِي شَرِيعَتِنَا، فَإِنَّ جَرَم الْأَذَى يَزْدَاد اثِمًا حِينَمَا يَتَّجِهُ إِلَى أَحَدٍ مِنْ الْجِيرَانِ، أَوْ يَتَوَجَّه لِأَحَدٍ مِنْ الصَّالِحِينَ، وَلِهَذَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مِنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْاخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ”(الْبُخَارِىّ)، وَيَقُولُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: “لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ لَا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوَائِقَهُ”(مُسْلِم)، وَالْبَوَائِق هِي الشُّرُور.

دَفْعُ الْأَذَى عَنْ الْمُسْلِمِينَ طَاعَة وَقُرْبَة:
إنْ دَفَعَ الْأَذَى عَنْ الْمُسْلَمِ أَمْرٌ مَحْمُودٌ وَفِعْل مَرْغُوب عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَالنَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “عُرِضَتْ عَلَى أَعْمَالِ أُمَّتِي حَسَنُهَا وَسَيِّئُهَا، فَوَجَدْتُ فِي مَحَاسِنِ أَعْمَالِهَا الأَذَى يُمَاطُ عَنْ الطَّرِيقِ، وَوَجَدْتُ فِي مَسَاوِئِ أَعْمَالِهَا النُّخَاعَةَ تَكُونُ فِي الْمَسْجِدِ لَا تُدْفَنُ”(مُسْلِمٌ)، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ أَيْضًا فِي بَابِ فَضْلِ إِزَالَةِ الأَذَى عَنِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “مَرَّ رَجُلٌ بِغُصْنِ شَجَرَةٍ عَلَى ظَهْرِ طَرِيقٍ فَقَالَ: وَاللَّهِ، لأُنَحِّيَنَّ هَذَا عَنْ الْمُسْلِمِينَ لَا يُؤْذِيهِمْ، فَأدْخُلِ الْجَنَّةَ”(مُسْلِم).

وَقَدْ عَدَّهَا الشَّرْع صَدَقَةً مِنْ الصَّدَقَاتِ، كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “كُلُّ سُلَامَى مِنْ النَّاسِ عَلَيْهِ صَدَقَةٌ، كُلَّ يَوْمٍ تَطْلُعُ فِيهِ الشَّمْسُ، يَعْدِلَ بَيْنَ الِاثْنَيْنِ صَدَقَةٌ، وَيُعِينُ الرَّجُلَ عَلَى دَابَّتِهِ فَيُحْمَلُ عَلَيْهَا، أَوْ يَرْفَعُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ، وَالْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ صَدَقَةٌ، وَكُلُّ خُطْوَةٍ يَخْطُوهَا إِلَى الصَّلَاةِ صَدَقَةٌ، وَيُمِيطُ الْأَذَى عَنْ الطَّرِيقِ صَدَقَةٌ”(الْبُخَارِيُّ).

وَقَدْ كَانَ السَّلَفُ يَعْلَمُونَ هَذِهِ الْأَدِلَّةِ وَيَعْمَلُون بِمُقْتَضَاهَا وَيُوصُون بِهَا، هَذَا الرَّبِيعُ بْنُ خُثَيْمٍ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ:”النَّاسُ رَجُلَانِ: مُؤْمِن فَلَا تُؤْذِه، وَجَاهِل فَلَا تَجَاهُلِه”.
وَيَقُول يَحْيَ بْنُ مُعَاذٍ الرَّازِيُّ: ” لِيَكُنْ حَظُّ الْمُؤْمِنِ مِنْك ثَلَاثَةَ: إنْ لَمْ تَنْفَعْهُ فَلَا تَضُرُّهُ، وَإِنْ لَمْ تُفَرِّحُه فَلَا تَغُمَّهُ، وَإِنْ لَمْ تَمْدَحْهُ فَلَا تَذُمَّه”.

الْأَذِيَّة ظُلِمَ:
أَنْ إيقَاع الْأَذَى بِالْمُسْلِمِين نَوْعٌ مِنْ الظُّلْمِ، وَالظُّلْمُ كُلُّه حَرَام.

وَلِيَتَذَكَّر مَنْ أَوْقَعَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ظُلْمًا إنْ مَعَهُمْ سِلَاحًا بِتَأْرا، قَالَ عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ”(مُسْلِم). فَيَا مَنْ تَجَرَّأْت عَلَى أَذِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ بِغَيْرِ حَقٍّ تُبْ وَأَقْلَع، كَفَّ عَنْ أَذِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ بَيْنَك وَبَيْنَهُمْ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ، فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ؟”، قَالُوا: الْمُفْلِسُ فِينَا مِنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: “إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مِنْ يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَقِيَام وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا أَوْ ضَرْبٍ هَذَا، فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ أَخْذُ مَنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ فَطُرِحَ فِي النَّارِ”(مُسْلِم).

احْذَرُوا مِنْ أَذِيَّةِ إخْوَانِكُمْ بِأَيِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْأَذَى أَوْ صُورَةٌ مِنْ صُوَرِ الْإِضْرَار، فَذَلِكُمْ وُقُوعَ فِي شَرِّ عَظِيم، فَرَسٍوَلَنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: “مَنْ اذَى الْمُسْلِمِينَ فِي طُرُقِهِمْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ لَعْنَتُهُمْ”.، وَلَمَّا قِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ فُلَانَةَ تُصَلِّي اللَّيْلَ وَتَصُومُ النَّهَارَ وَتُؤْذِي جِيرَانَهَا بِلِسَانِهَا، قَالَ: “لَا خَيْرَ فِيهَا، هِيَ فِي النَّارِ”.

وَإِنْ مِنْ الْأَذَى التَّدَخُّل وَالْفُضُول فِي خُصُوصِيَّاتِ النَّاس وَالِانْشِغَال بِأَحْوَال الْاخَرِين وَتَصَرُّفَاتِهِمْ مَعَ أَنَّ هَذَا سُلُوكٌ حَارَبَه الْإِسْلَام وَنَهَى عَنْهُ الْقُرْانُ وَالنَّبِيّ وَجَعَل لِلْخُصُوصِيَّة احْتِرَام وَقَدْسيه يَجِبُ أَنْ يَسْلُكَهَا كُلّ مُسْلِم

الْعُنْصُر الثَّالِث : احْتِرَام الْخُصُوصِيَّةِ

فِي حَدِيثِ عَظِيمٌ مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ , بَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُعَلَّمًا مِنْ مَعَالِمِ النَّجَاة , وَإِمَارَة مِنْ أَمَارَاتِ حَسَنَ الْإِسْلَامِ , لِيَزِن الْعَبْدُ بِهَا نَفْسَهُ , وَيَعْرِفُ مَدَى قُرْبَةٌ أَوْ بَعْدَهُ عَنْ الطَّرِيقِ الْمُسْتَقِيمِ , وَالْحَدِيثُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مِنْ حُسْنِ إسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيه ).

فَهَذَا الْحَدِيثُ قَدْ جَمَعَ مَعَان عَظِيمَةً لَا غِنَى لِلْمُسْلِمِ عَنْ فَهْمِهَا وَامْتِثَالِهَا ، وَهُوَ أَصْلٌ عَظِيمٌ مِنْ أُصُولِ الْأَدَبِ , وَلِذَا عَدَّهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ ثُلُثُ الْإِسْلَامِ أَوْ رُبْعِهِ , وَذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللَّهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ الْوَرَعُ كُلُّهُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ , فَهُوَ يَضَع لِلْعَبْد قَاعِدَةٌ عَظِيمَةٌ فِيمَا يَأْتِي وَمَا يَدَعُ ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى الرُّكْنِ الْأَوَّلِ فِي تَزْكِيَةِ النَّفْسِ وَتَرْبِيَتِهَا ، وَهُوَ جَانِبُ التَّخْلِيَة بِتَرْكِ مَا لَا يَعْنِي ، الَّذِي يَلْزَمُ مِنْهُ الرُّكْنُ الثَّانِي وَهُوَ التَّحْلِيَة بِالْإِنْشَغَال بِمَا يَعْنِي .

النَّاسُ قِسْمَان :

فَقَدْ بَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ تَرْكَ مَا لَا يَعْنِي مِنْ أَسْبَابِ حُسْنِ إسْلَامِ الْمَرْءِ , وَهَذَا يَعْنِي أَنَّ النَّاسَ يَنْقَسِمُون فِي الْإِسْلَامِ إلَى قِسْمَيْنِ كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْحَدِيثُ : فَمِنْهُمْ الْمُحْسِن فِي إسْلَامِهِ وَمِنْهُمْ الْمُسِيء , فَمَنْ قَامَ بِالْإِسْلَامِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَهُو الْمُحْسِنِ الَّذِي قَالَ اللَّهُ فِيهِ : { وَمِنْ أَحْسَنِ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا } ( النِّسَاءِ 125) , وَمَنْ لَمْ يَقُمْ بِهِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا فَهُو الْمُسِيء , وَمِنْ عَلَامَاتِ حُسْنِ الْإِسْلَامِ انْشِغَال الْمَرْءُ بِمَا يَعْنِيهِ وَتَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ , وَمَفْهُومُ الْحَدِيثِ : أَنَّ انْشِغَالِ الْإِنْسَانِ بِمَا لَا يَعْنِيهِ مِنْ عَلَامَاتِ سُوء إسْلَامِه .

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَعْنَى الْحَدِيثِ , أَنَّ اللَّهَ وَصَفَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالْإِعْرَاضِ عَنْ اللَّغْوِ فِي غَيْرِ مَا ايَةٍ مِنْ كِتَابِهِ قَالَ سُبْحَانَهُ : {وَاَلَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ } ( الْمُؤْمِنُون 3) . وَاللَّغْو هُوَ الْبَاطِلُ , وَيَشْمَل الشِّرْكِ وَالْمَعَاصِي وَكُلُّ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ مِنْ الْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ وَالِاهْتِمَامًات , وَمَنْ اللَّغْو الِاشْتِغَالِ بِمَا لَا يَعْنِي مِنْ أُمُورِ النَّاسِ .

وَقَدْ جَاءَتْ الْأَحَادِيثُ بِفَضْل مَنْزِلَة حَسَنَ الْإِسْلَامِ ، وَمَنْ ذَلِكَ مَاجَاء فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : ( إذَا أَحْسَنَ أَحَدُكُمْ إسْلَامَهُ فَكُلُّ حَسَنَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعِمِائَةِ ضِعْفٍ ، وَكُلُّ سَيِّئَةٍ يَعْمَلُهَا تُكْتَبُ بِمِثْلِهَا حَتَّى يَلْقَى اللَّهُ ) .

فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مَا لَا يَعْنِيهِ ) أَيْ : مَا لَا يُهِمُّهُ وَلَا يُفِيدُهُ فِي دِينِهِ وَلَا دُنْيَاه , وَيَدْخُلُ فِي الْأُمُورِ الَّتِي لَا تَعْنِي المُحَرَّمَاتِ وَالمُشْتَبِهَاتِ وَالمَكْرُوهَاتِ وَفُضُولِ المُبَاحَاتِ الَّتِي لَا يَحْتَاجُ إلَيْهَا الْإِنْسَان .

وَالضَّابِطُ فِي مَعْرِفَةِ مَا يَعْنِي الْإِنْسَانَ مِمَّا لَا يَعْنِيهِ هُوَ الشَّرْعُ , وَلَيْسَ الْهَوَى , فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ قَدْ يَحْلُو لَهُ أَنْ يَتْرُكَ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ , بِدَعْوَى أَنَّ ذَلِكَ مِنْ التَّدَخُّلِ فِي خُصُوصِيَّاتِ الْاخَرِينَ , وَإِنْ ذَلِكَ مِمَّا لَا يَعْنِي الْإِنْسَانَ , وَقَدْ يُسْتَدَلُّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى فَهْمِهِ السَّيِّئ , وَهَذَا مِنْ الْخَطَأِ وَاخْتِلَاط الْمَفَاهِيمِ فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ , رَوَى أَبُو دَاوُد أَنَّ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَامَ فِي النَّاسِ خَطِيبًا , فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ , ثُمَّ قَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّكُمْ تَقْرَءُونَ هَذِهِ الْايَةِ وَتَضَعُونَهَا عَلَى غَيْرِ مَوَاضِعِهَا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ امَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ } ( الْمَائِدَةُ 105) , وَأَنَا سَمِعْنَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( إِنَّ النَّاسَ إذَا رَأَوْا الظَّالِمَ فَلَمْ يَأْخُذُوا عَلَى يَدَيْهِ أَوْشَكَ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ بِعِقَابٍ )، وَفِي رِوَايَةٍ: وَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : ( مَا مِنْ قَوْمٍ يُعْمَلُ فِيهِمْ بِالْمَعَاصِي ثُمَّ يَقْدِرُونَ عَلَى أَنَّ يُغَيِّرُوا ثُمَّ لَا يُغَيِّرُوا إِلاَّ يُوشِكُ أَنْ يَعُمَّهُمْ اللَّهُ مِنْهُ بِعِقَابٍ ) , وَمِمَّا يَعْنِي الْإِنْسَانَ أَيْضًا شُؤُون الْمُسْلِمِين وَقَضَايَاهُمْ , وَمَنْ لَمْ يَهْتَمَّ بِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ مِنْهُمْ .

وَفِي قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( مِنْ حُسْنِ إسْلَامِ الْمَرْءِ ، تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ ) تَوْجِيه لِلْأَمَة بِالِاشْتِغَالِ بِمَا يَنْفَعُهَا ، وَيَقْرَبُهَا مِنْ رَبِّهَا ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الْإِمَامُ مُسْلِمٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ ) فَأَرْشَدَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَى اغْتِنَام الْأَوْقَات بِالْخَيْرَات ، فَإِنَّ الدُّنْيَا مَزْرَعَةٌ لِلْاخِرَةِ ، وَعُمَر الدُّنْيَا قَصِير ، فَهُو كَظِلّ شَجَرَة ، يُوشِكُ أَنْ يَذْهَبَ سَرِيعًا ، لِذَا فَالْإِنْسَان الْعَاقِلُ الَّذِي جَعَلَ الْاخِرَةَ هَمَّه، وَالْجَنَّة مَارِبِه ، يَغْتَنِم أَوْقَاتِهِ كُلَّهَا ، وَقَدْ أَحْسَنَ الشَّاعِرُ إذْ قَال :

اغْتَنِمْ رَكْعَتَيْنِ فِي ظـلَمْـة الـلِيــ ـل إذَا كُنْت فَارِغًا مُسْتَرِيحًا
وَإِذَا مَا هَمَمْتَ بِالْخَوْضِ فِي الِـ بـأَطّـل فَاجْعَلْ مَكَانَه تَسْبِيحًا

إِنَّ اهْتِمَامَ الْمَرْء وَإِنْشغاله بِمَا يَعْنِيهِ فِيهِ فَوَائِدُ عَظِيمَة ، فَالنَّفْس إنْ لَمْ تَشْغَلُهَا بِالطَّاعَة شَغَلَتك بِالْمَعْصِيَةِ ، فَمَنْ اشْتَغَلَ بِالنَّاس نَسِي أَمْرَ نَفْسِهِ ، وَأَوْشَك اشْتِغَالِه بِالنَّاسِ أَنَّ يُوقِعُهُ فِي أَعْرَاضِهِمْ بِالقِيلِ وَالقَالِ ، كَمَا أَنَّ انْشِغَال الْمَرْءِ بِنَفْسِهِ وَبِمَا يُعَيِّنَهُ فِيهِ حِفْظُ لِلْوَقْت ، وَمُسَارَعَة فِي الْخَيْرِ ، فَضْلًا عَمَّا يُورِثُهُ ذَلِكَ عَلَى مُسْتَوَى الْمُجْتَمِعِ مِنْ حِفْظِ الثَّرَوَات ، وَتَنْمِيَة الْمُكْتَسَبَات، وَإِشَاعَة رَوْح الْجِدِّيَّة وَالْعَمَل ، وَالإِخَاء وَالتَّعَاوُن .

وَالتَّرْك الْمَقْصُودُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ يَشْمَلُ أُمُورًا كَثِيرَةً ، مِنْهَا تَرْكُ فُضُولِ النَّظَرِ ، لِمَا فِي التَّطَلُّعِ إِلَى مَتَاعِ الدُّنْيَا مِنْ إفْسَادِ لِلْقَلْب ، وَإِشْغَال لِلْبَال ، يَقُولُ الشَّيْخُ عَبْدِالرَّحْمَن السَّعْدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْله تَعَالَى : { وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } ( طَه : 131 ) : ” أَيْ: لَا تُمَدُّ عَيْنَيْك مُعْجَبًا، وَلَا تُكَرَّرُ النَّظَر مُسْتَحْسَنًا إلَى أَحْوَالِ الدُّنْيَا وَالْمُمْتَعين بِهَا، مِنْ الْمَأْكَلِ وَالْمَشَارِبِ اللَّذِيذَةِ، وَالْمَلَابِسِ الْفَاخِرَةِ، وَالْبُيُوت الْمُزَخْرَفَة، وَالنِّسَاء الْمُجْمَلَة، فَإِنَّ ذَلِكَ كُلِّهِ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، تُبْتَهج بِهَا نُفُوس الْمُغْتَرِّين، وَتَأْخُذ إعْجَابًا بِإِبْصَار الْمُعْرِضِين، وَيَتَمَتَّعَ بِهَا – بِقَطْعِ النَّظَرِ عَنْ الْاخِرَةِ – الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ، ثُمَّ تَذْهَبُ سَرِيعًا، وَتَمْضِي جَمِيعًا، وَتُقْتَل مَحْبُيها وَعِشْاقِهَا، فَيَنْدَمُونَ حَيْثُ لَا تَنْفَعُ النَّدَامَة ” .

وَمِنْ الْأُمُورِ الَّتِي يَشْمَلُهَا التَّرْكِ فِي الْحَدِيثِ : تَرْكُ فُضُولِ الْكَلَامِ ، وَلَغْوِ الْحَدِيثِ ؛ لِأَنَّهُ يَتَعَلَّقُ بِجَارِحَة خَطِيرَة ، إلَّا وَهِيَ جَارِحَةَ اللِّسَانِ ، يَشْهَدُ لِمَا قُلْنَاهُ مَا جَاءَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى لِهَذَا الْحَدِيثِ : ( أَنَّ مَنْ حَسُنَ إسْلَامُ المَرْءِ قِلَّةَ الْكَلَامِ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ ) رَوَاه أَحْمَدُ .

وَقَدْ امْتَدَحَ اللَّهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ : { وَاَلَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ } ( الْمُؤْمِنُون : 3 ) ، فَمَنْ صَان لِسَانَهُ عَنْ فُضُولِ الْقَوْل ، سَلَّمَ مِنْ انْزِلَاقًه فِيمَا لَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاه ، وَحُمَّى مِنْطَقَةٌ مِنْ الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ ، وَلِذَلِكَ حَثَّ الشَّرْعُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ عَلَى لُزُومِ الصَّمْتِ إلَّا بِمَا فِيهِ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى ، وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ ، وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ : { لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إلَّا مِنْ أَمْرِ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ } ( النِّسَاء : 114 ) .

وَيَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الضَّابِطَ الصَّحِيح لِتَرْكِ مَا لَا يَعْنِي هُوَ الشَّرْعُ ، لَا مُجَرَّدُ الْهَوَى وَالرَّأْي ، لِذَلِك جَعَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَارَةً عَلَى حُسْنِ إسْلَامِ الْمَرْءِ ، فَإِنَّ الْبَعْضَ يَدَّع أُمُورًا قَدْ دَلَّتْ عَلَيْهَا الشَّرِيعَةُ ، بِدَعْوَى أَنَّهَا تَدْخُلُ فِي شُؤُونِ الْاخَرِين ، فَيَعْرِض عَنْ إسْدَاء النَّصِيحَة لِلْاخَرِين ، وَيَتْرُكُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ مِنْ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ ، وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ ، بِحُجَّة احْتِرَام الْخُصُوصِيَّات ، وَكُلُّ هَذَا مُجَانَبَة لِلشَّرْع ، وَبَعُدَ عَنْ هَدْيٍ النُّبُوَّةَ ؛ فَإِنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ تَارِكًا لِمَا لَا يَعْنِيهِ ، وَمَعَ ذَلِكَ كَانَ نَاصِحًا مُرْشِدًا ، أَمْرًا بِالْمَعْرُوفِ ، نَاهِيًا عَنْ الْمُنْكَرِ ، عَامِلًا بِأَمْرِ اللَّهِ فِي حِلِّهِ وَتَرْحَالِه .

وَخُلَاصَةُ الْقَوْلِ : أَنَّ فِي الْحَدِيثِ إرْشَادًا لِمَا فِيهِ حِفْظُ وَقْت الْإِنْسَانِ مِنْ الضَّيَاعِ ، وَدِينِهِ مِنْ الصَّوَارِف الَّتِي تَصْرِفُهُ عَنْ الْمُسَارَعَة فِي الْخَيْرَاتِ ، وَالتَّزَوُّد مِنَ الصَّالِحَاتِ ، مِمَّا يُعَيِّنُ الْعَبْدِ عَلَى تَزْكِيَةِ النَّفْسِ ، وَتَرْبِيَتِهَا عَلَى مَعَانِي الْجَدِّ فِي الْعَمَلِ

الدُّعَاءِ

اللَّهُمَّ أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَحَبِّبْنَا فَى بَعْضِنَا وَانْزِعْ الشَّحْنَاءَ وَالْبَغْضَاءَ مِنْ قُلُوبِنَا وَانْشُرْ الْأَمْنَ وَالْأَمَانَ فَى بِلَادِنَا وَسَائِرِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ وَارْفَعْ الْبَلَاءَ وَالْغَلَاءَ عَنَّا اللَّهُمَّ انْصُرْ إِخْوَانَنَا الْمُسْتَضْعَفِينَ فَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِوَالِدَيْنَا كَمَا رَبَّيَانَا صِغَارًا اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُمَا وَارْحَمْهُمَا يَارِبَ الْعَالَمِينَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ وَارْحَمْ مَشَايِخَنَا وَعُلَمَائِنَا وَإِلَى كُلِّ مَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ عَلَيْنَا يَارِبَ الْعَالَمِينَ

وَأَقُمْ الصَّلَاةُ