دور الحج في المساواة بين المسلمين

بقلم الدكتور : سيد نجم من علماء الأزهر الشريف

 

الحج ليس مجرد رحلة إلى موضع، بل هو سفر إلى معنى. وهو في حقيقته لا يُعدّ مجرد فريضة زمنية، بل هو مشهد من مشاهد القيامة، حيث تخلع الأرواح مظاهر التفاخر والتمايز، وتلتقي القلوب على صعيد الخضوع لواحدٍ أحد، فلا يبقى هناك سيّد أو عبد، ولا أمير أو أجير، بل الجميع في مقام العبودية سواء.

إنه الميدان الأعظم لمحو “الأنا”، وانصهار الفرد في سُبح الجماعة، حيث لا يُعرف الحاج باسمه أو حسبه، بل يُعرف بصدق تلبيته ودمعة قلبه، ومنطقه عند الوقوف بعرفة. هناك تُنسى الألقاب، وتُطوى المراتب، وتُنسف معالم الدنيا، فلا يُرى للكبرياء ظل، ولا للرياء صدى.

وكأن الحج، كما قال الإمام محمد متولي الشعراوي، “مؤتمر إلهي يُعيد ترتيب الخريطة الإنسانية من جديد، فتزول فيه الحدود التي صنعتها الأوطان، والرتب التي أملتها الأزمان، ويبقى فيه الإنسان بصفته الأزلية: عبدٌ لربٍ لا يُشرك به شيئًا.”

وقد صدق الإمام عبد الحليم محمود حين وصف الحج بأنه “أعظم تدريب عملي على فناء الطبقية، وعلى إلغاء الفوارق التي اخترعها البشر لأنفسهم وهم يجهلون أن الشرف الحقيقي إنما يكون بالقرب من الله، لا بالقرب من البشر.”

الحج يُعيد المسلم إلى “نقطة التكوين الأولى”، حيث لا زينة، ولا شهرة، ولا لباس مميّز، وإنما “رداء أبيض” يلبسه الغني والفقير، الكبير والصغير، وكأنهم كلهم مولودون من رحمٍ واحدٍ، أو كأنهم، كما قال الشعراوي، “خرجوا لتوّهم من تراب الخلق، متوجهين إلى نور الخالق، متجردين من كل ما ألهاهم عن الله.”

وفي هذا المعنى العميق، يأتينا سيد السالكين ابن عطاء الله السكندري، فيقول في حكمه الخالدة: “ما بسقَت أغصانُ ذلِّكَ إلا من بذورِ فَهمِكَ لعزَّته.”
أي: حين تَعي قلبًا أن العظمة لله وحده، تَزهَد في التفاخر، وتَشتاق إلى الذلّ بين يدي العظيم، وتسقط من نفسك أوهام الترفّع عن الناس، فترى كل من حولك عبيدًا مثلك، ليس لأحدٍ فضل على آخر إلا بما أكرمه الله به من سرّ التقوى.

وقال الجنيد رحمه الله: “التصوف أن تكون مع الحق بلا خلق، ومع الخلق بلا نفس”. وكأن الحاجَّ في تلبيته وسعيه ووقوفه، يعيش هذا المعنى، فلا يرى نفسه خيرًا من غيره، ولا قلبه أصفى من سواه، بل يرى الكل سواسية في الحاجة إلى رحمة الله.

ومن أبلغ ما قيل في هذا المقام ما ذكره بعض أهل الذوق:
“إن الحج طمسٌ للخطوط التي رسمتها الدنيا، ورسمٌ لخطٍ واحد نحو الله، يبدأ من «لبيك»، وينتهي عند العتق من النار.”

فإذا عاد الحاج بعد ذلك إلى بلده، وقد ذاب في روح الأمة، وسجدت نفسه على باب العبودية، وتواضع قلبه حتى كأنّه ذرّةٌ في ركب العاشقين، فقد أدّى فريضة الحج حقًّا، ولبّى نداء الله كما أراد.

اترك تعليقاً