مصر الصوفية… بين الجذور النقية والانحرافات الطارئة


بقلم المحب لدينه ووطنه: د. مختار البغدادى

يا صاحب الفكر، ويا من تبغي الإنصاف والهدى، اسمع كلمة حق تُضيء لك السبيل، وتكشف لك وجه الحقيقة بين ركام الأهواء ودعاوى الغلو والتكفير.

إن مصر، منذ أشرقت عليها أنوار الإسلام، لم تُكره أهلها على الدخول فيه، بل دخلته القلوب طواعيةً، وانسابت فيه الأرواح برفقٍ ويقين، حين رأت في الإسلام عدلاً ورحمةً وسموًّا. فلم يكن الفتح الإسلامي لمصر سيفًا في رقاب الناس، بل كان دعوة بالتي هي أحسن، حتى تبدلت القلوب، وتفتحت الأرواح، وتبدّلت الألسن بالعربية، دون قسر ولا إجبار.

وفي رحم هذه البيئة، بزغ نور التصوف، لا على أنه مذهب دخيل، بل روح الدين وجوهر التزكية. فكان ذو النون المصري، المتوفى عام 245هـ، من أوائل من نثر بذور هذا النور في أرض الكنانة، متحدثًا عن المقامات والأحوال، متتبعًا سبيل الصادقين من الأولياء. وتتابع بعده أبو بكر الدقاق، وأبو الحسن بن بنان، ممن عمّروا طريق القلوب، وأرسوا معالم السير إلى الله على بصيرة.

ثم جاء صلاح الدين الأيوبي، فرأى في التصوف السني حصنًا منيعًا في وجه آثار التشيع الفاطمي، فأسس الخانقوات، وأغلق الأزهر قرنًا من الزمان، ليعيد إليه صفاء المعتقد ومنهج السلف في التزكية والعلم. ومن بعده، عاد الأزهر على مذهب أهل السنة والجماعة، جامعًا بين العلم والتصوف، بين الشريعة والحقيقة، بين فقه الظاهر وصفاء الباطن.

لقد كانت مصر صوفية المزاج، سنية المذهب، أشعرية الاعتقاد، شافعية الفقه، نقية الروح، لا تعرف الغلو ولا تكفر أهل القبلة، بل عاشت قرونًا في تآلف وسلام، لا تعرف ما يسمى بالحركات الإسلامية أو السلفية بتياراتها الوافدة، إلا في القرنين الأخيرين.

وما دخلت تلك الدعوات التي تُلبس التكفير لباس الدين، إلا وبدأت نذر الفتنة تلوح في الأفق: انقسامٌ، تطرفٌ، صدامٌ، حتى كادت البلاد أن تنزلق إلى حرب أهلية في العقد الماضي، لولا رحمة الله وعناية الدولة.

فليُعلم أن المطلوب اليوم ليس حرب التصوف، ولا الطعن في تراثٍ عاش فيه الناس على صفاءٍ وسلام، بل المطلوب هو تصحيح المسار، لا نسف الجذور. نريد تصوفًا سلفيًا حقيقيًا، كما كان في عهود السلف الصالح: تصوفًا لا يبتدع، ولا يغلو، ولا يخالف ظاهر الشريعة، بل يغرس في النفوس خشية الله، ومراقبته، وتزكية القلب، وسعة الرحمة بالخلق.

فمن رام إصلاح المجتمع المصري، فليبدأ بإحياء هذا التصوف السني النقي، لا بإدخال منهج التكفير ولا بث سموم الحزبية التي طعنت الأمة في قلبها، وأورثتها تيهًا وغربة عن تراثها وهويتها.

التصوف السني هو فطرة هذا البلد، وروحه، وتاريخه، ومستقبله.

فهل بعد هذا يُقال: إن مصر لم تعرف الإسلام إلا حين جاءها من يوزّع صكوك الإيمان؟!

كلا، بل مصر عرفت الله قبل أن يعرفه هؤلاء، وسلكت طريقه على منهج من نور.
فلنعد إلى الأصل.. إلى التصوف السلفي المشرق، كما عرفه الجنيد وسفيان الثوري والفضيل وابن المبارك وذو النون.. إلى نور القلب، لا إلى ظلام التكفير.

اترك تعليقاً