الشيخ علي جمعة كما عرفته.. ومضات قلب
8 مايو، 2025
رجال الصوفية

بقلم الدكتور: مختار البغدادى
المعيد بكلية أصول الدين والدعوة بجامعة الأزهر
حين ضجّت الساحة بالهجوم على برنامج نور الدين، لم يكن يشغلني النقاش العام، ولا ردود الأفعال المتناثرة، بل كان جلّ ما في قلبي سؤالًا واحدًا:
كيف حال الشيخ؟
كيف يتحمل هذا كله؟
أيتألم؟ أيتأثر؟
هل يزعجه ما يُقال؟
حتى جمعني به مجلس، فغلبني قلقي وقلت بصدق: “إحنا خايفين حضرتك تتأثر بالكلام ده.”
فنظر إليّ كمن فاجأه السؤال، وقال سريعًا وباستنكار هادئ:
“اتأثر إيه واتضايق إيه؟!
أنا في الملكوت يا ابني!”
كلمة خرجت من قلب مستقرّ في الله، نفس تجاوزت حظوظها، وذابت في التسليم، فلم تعد تتأثر بمدح ولا بقدح، ولم تعد ترتبك بصخب العوام ولا بافتراءات الخصوم.
وقفت أمام عبارته مشدوهًا… كأنه يقول: لا وقت لدي لما يشغل القلوب الصغيرة، فأنا غارق في حضرة الكبير المتعال.
ذاك المقام الذي يتحدث عنه العارفون، قرأناه في كتب الطبقات، وظنناه من حكايات الزهد، فإذا به حيٌّ فينا، متجسّد في رجلٍ يعيش بيننا.

لم يكن الشيخ يردّ على الساخرين، ولا ينشغل بنقاشات الرفض والتجريح، بل مضى في طريقه، ثابتًا مطمئنًا، مرددًا ما يصف حاله: “مزعلتش بقالي سنوات على الحال ده.”
لم أرَه يومًا يذكر خصمًا، ولا يتتبع شبهةً، ولا يُحمّل الناس أوزارهم، بل إذا ذُكر له أحد المسيئين، قال: “ربنا يهديه”، وإن أُخبر بقول باطل، قال: “الناس مش فاهمة، وربنا غفور رحيم.”
إنه حالٌ لا يُصطنع، ولا يُمثَّل، بل يُوهَب. حالُ من تجرّد لله، فسكن في قلبه، فصار لا يتحرك إلا لله، ولا يغضب إلا له، ولا يحزن إلا عليه.
وما زاد يقيني أن الشيخ من أولياء الله إلا ما رأيت فيه من هذا السكون العجيب، والرضا الدائم، والبسمة التي لا تفارقه، حتى في أحلك الأوقات.
كأنما كل ما حوله من صخبٍ لا يصله، ولا يحجبه عن الله شيء.
في لحظات الجلوس معه، لا تشعر أنك أمام عالِمٍ فحسب، بل كأنك أمام مرآة لصفات أهل الله: هيبةٌ من غير تصنّع، تواضعٌ من غير تكلّف، وصدقٌ يشعّ من عينيه قبل كلماته.
وكلما جالسته، شعرت أن الطريق إلى الله لا يُسلك إلا بصحبة من تحقق به، من ذاب فيه، من عرفه فعرّفك به.
ولذلك، فإن ما نراه في الشيخ ليس مجرد علم، ولا فقط فقهًا أو بيانًا، بل حضورٌ عجيب يوقظ فيك الهمة، ويزرع فيك نورًا لا تدري كيف اشتعل.
إنه أثر العارف بالله، الذي لم يعد يخبر الناس بالله فقط، بل يُدخلهم حضرته دون أن يشعروا.
وليس حديثي هنا استعراضًا لذكريات، ولا تزيينًا لصورة، بل محاولة لتقييد لحظة صدق، واستبصارٍ بنعمة عظيمة اسمها “صحبة الشيخ”.
خشيت أن تمرّ الأيام ونألف النعمة، ونعتاد المدد، فنفقد الدهشة، ونغفل عن الشكر، فكتبت ما كتبت تذكيرًا لنفسي، وربما لغيري، بما نحن فيه من فضلٍ عظيم.

وأعظم ما تعلّمته من الشيخ أنه لا مقام لأحدٍ عند الله إلا بالصدق، ولا سبيل للاقتراب إلا بإخلاص النية.
ليست الطرق ما يقرّبنا، ولا الأوراد ما يُنجينا، إن لم يكن القلب حاضرًا مع الله.
كثيرون ينتسبون للطريق، ولكن القليل من تحقق، والقليل من صدق، والقليل من مضى في سيره إلى الله، دون أن يقف عند اسمه أو شيخِه أو وردِه.
الشيخ يعلمنا – بحاله قبل مقاله – أن الأصل هو الله، والمقصود هو الله، والمطلوب هو الله، وكل ما عداه وسيلة لا يُعتمد عليها.
والغرور بالدعوى، وبالانتماء، وبالصحبة الظاهرة، هو من أعظم حجب الطريق.
لا تغترّ إن جلست عند الأولياء، فإن الشأن في أن تتحقّق بأخلاقهم، وتقوم بفرائضك، وتُصلح ما بينك وبين الله، لا ما بينك وبين الناس.
ومن لطيف ما سمعته من الشيخ أن الطريق لا يُفتح لك بكثرة الذكر فقط، بل بإقامة الصلاة، والصدق في القيام بحق الله فيها، فهي مفتاح كل نور.
وما من مرة تكلّم فيها عن السلوك، إلا وجعل البداية إصلاح الفرض، لا التوسع في النوافل، لأنه لا يُبنى القصر قبل تثبيت الأساس.
أما الجدل، والخوض في المعارك الفكرية والدفاعية، فقد علّمنا الشيخ أن نتركها، وأن نعرض عنها، فليس فيها روح، ولا فيها زادٌ للسالكين.
لا أحد يترقى وهو منشغل بالرد والخصام، بل لا يترقى إلا من تخلّى عن نفسه، وطلب الله وحده، وذابت عنده الأسماء، والمواقف، والانتصارات.
وإذا أردت أن تعرف نفسك: هل أنت مع الله، أم مع ذاتك؟ فانظر أين قلبك إذا أُسيء إليك؟ هل تحزن لأن الحق جُرح؟ أم لأنك جُرحت؟
هل تبكي لأن الله غُفل عنه؟ أم لأنك لم تُذكر؟
كل جرحٍ في الطريق اختبارٌ، وكل ظلمٍ يُقال لك مرآة، تُريك وجه نفسك، فتعرف كم بقي منها فيك.