جذور التصوف في الكتاب والسنة
5 مايو، 2025
منهج الصوفية

بقلم الدكتور : محمد لطفي الحسني
شيخ الطريقة القادرية البريفكانية في مصر
من أكبر الإشكالات التي تواجه الخطاب الصوفي اليوم، هي الادعاءات المتكررة أن التصوف لا أصل له في الشريعة، أو أنه مستورد من فلسفات أجنبية. غير أن النظرة المنصفة للتصوف تُبيّن أنه امتداد طبيعي لمفهوم الإحسان كما ورد في الكتاب والسنة، وأن أصوله الشرعية راسخة في القرآن، مبثوثة في السنة، مُمثّلة في حياة الصحابة والتابعين.
هذا المقال يقدم تأصيلاً علميًا لجذور التصوف من نصوص الوحي، ويكشف كيف أن التصوف لا يُفهم خارج إطار الإسلام، بل هو روح من روحه.
أولًا: التصوف امتداد لمقام الإحسان
كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بَارِزًا يَوْمًا لِلنَّاسِ، فأتَاهُ جِبْرِيلُ فَقالَ: ما الإيمَانُ؟ قالَ: الإيمَانُ أنْ تُؤْمِنَ باللَّهِ ومَلَائِكَتِهِ، وكُتُبِهِ، وبِلِقَائِهِ، ورُسُلِهِ وتُؤْمِنَ بالبَعْثِ. قالَ: ما الإسْلَامُ؟ قالَ: الإسْلَامُ: أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ، ولَا تُشْرِكَ به شيئًا، وتُقِيمَ الصَّلَاةَ، وتُؤَدِّيَ الزَّكَاةَ المَفْرُوضَةَ، وتَصُومَ رَمَضَانَ. قالَ: ما الإحْسَانُ؟ قالَ: أنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فإنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فإنَّه يَرَاكَ
(البخاري / رقم 50)
وهذا التعريف هو لبّ التصوف وغايتُه.
فالصوفي في حقيقته مُحسنٌ في عبادته، دائم المراقبة لربه، ساعٍ لتزكية نفسه.
ثانيًا: الأصول القرآنية للتصوف
القرآن الكريم يُقدّم دعوة شاملة لتزكية النفس، والتقرب إلى الله، والعيش في معيته، وهذه كلها لبنات التصوف.
1. تزكية النفس
قال تعالى: “قد أفلح من زكّاها، وقد خاب من دسّاها.” الشمس: 9-10
وهذا هو الهدف الأول للصوفية: تزكية النفس، وتطهير القلب من الرذائل.
2. المراقبة
قال تعالى: “وهو معكم أين ما كنتم…” الحديد: 4
وهي الآية التي تُحيي الشعور الدائم بمراقبة الله، وهو مفتاح السلوك الصوفي.
3. الذكر الدائم
قال تعالى: “يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا.” الأحزاب: 41
الذكر الكثير هو أحد أهم أوراد السالكين إلى الله في التصوف.
4. الإنابة والخشية
قال تعالى: “وجاء بقلب منيب.” ق: 33
والقلب المُنيب هو القلب الصوفي، المتوجه دائمًا إلى مولاه.
ثالثًا: أصول التصوف في السنة النبوية
السنة النبوية تمثّل التطبيق العملي للقرآن، وهي مليئة بالأحاديث التي تُعد أساسًا روحيًا للتصوف، منها:
1- الزهد في الدنيا
قال ﷺ: “ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس.” رواه ابن ماجه / رقم 4102
وهذا الحديث هو شعار كثير من الصوفية، حيث يرون في الزهد وسيلة لتطهير القلب.
2- مجاهدة النفس
وَسَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: ” الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ لِلَّهِ ” أَوْ قَالَ: ” فِي اللهِ ”
رواه أحمد في مسنده/ رقم 23951
وهذا أصل التصوف في “جهاد النفس”، لا القتال الخارجي فقط.
3- الصدق والإخلاص
قال ﷺ: “إنما الأعمال بالنيات…” رواه البخاري / رقم 1
والنية هي محور العمل عند الصوفي.
رابعًا: تطبيقات عملية في حياة الصحابة والتابعين
▪️ الصحابي أويس القرني
عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ خَيْرَ التَّابِعِينَ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ أُوَيْسٌ) رواه مسلم /رقم ٢٥٤٢)
وقد اشتهر بزهده وعبادته وخفاء أمره، وكان قدوة في السلوك الصوفي.
▪️ أبو ذر الغفاري
كان معروفًا بشدة زهده وقوة إنكاره للدنيا.
▪️ أبو الدرداء
كان من أكثر الصحابة ذكرًا لله، وهو القائل: “تفكر ساعة خير من قيام ليلة.” (الطبقات الكبرى، محمد بن سعد بن منيع الزهري، مكتبة الخانجي، القاهرة – مصر، ط1 1421 هـ – 2001 م، ج4، ص ٣٥٣)
▪️ العارف بالله الحسن البصري
من أوائل من وُصفوا بالزهد، وكان يقول: ” ابن آدم إنما أنت أيام، كلما ذهب يوم ذهب بعضك. ” (حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، أبو نعيم الأصبهاني، مطبعة السعادة، 1394 هـ – 1974 م، ج2، ص ١٤٨).
إن التصوف لا يحتاج إلى إثبات وجوده في الإسلام، لأنه نابع من صلب الدين وأساس مقام الإحسان، وقد بُني على أوامر الكتاب، وسنة النبي ﷺ، وسلوك الصحابة، ومن تبعهم بإحسان.
فالتصوف ليس غريبًا عن الشريعة، بل هو ثمرتها الروحية، ووسيلتها لتربية النفوس وتوجيهها إلى الله. وإننا بحاجة ماسة لإحياء التصوف بصفائه العلمي والعملي، حتى تستقيم القلوب، وتخشع الأرواح، وتنتظم المجتمعات.