بقلم : محمد نجيب نبهان ( كاتب وناقد و باحث تاريخي )
ليس من شأننا أن نفتش في ضمائر الناس، ولا أن نحاسب على ما استقر في القلوب من ميلٍ أو رغبة أو ضعف. فالدين، قبل أن يكون شريعة، هو دعوة، وقبل أن يكون سلطة، هو حكمة، وقبل أن يكون أمرًا ونهيًا، هو وعيٌ بالغاية والمعنى. ولأن الإنسان وُهِب الحرية، وُهِب معها الوعي بالمسؤولية. فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، ولكن هل لهذا الحق من مطلقٍ لا يقيده شيء؟
أم أن له حدًا يقف عنده، حين لا يعود الإنسان يمارس حريته وحده، بل يحاول أن يفرضها على الآخرين، وينشر انحرافه لا بوصفه عيبًا أو ضعفًا، بل كنموذج يستحق الاتّباع؟
إن المسألة ليست حول ما تفعله في خلواتك، ولا عن انزلاقاتك الخاصة التي يتكفل الله بسترك فيها. بل المسألة تبدأ حين تتخذ من هذه الانزلاقات منبرًا، ومن هذا الانحراف منهجًا، وتنتقل من الخطأ إلى المجاهرة، ومن المجاهرة إلى الترويج، ومن الترويج إلى محاولة هدم المعنى ذاته من جذوره.
ثم تصبح المجاهرة فضيلة، والفجور شجاعة، والإلحاد فكرًا متنورًا، والشذوذ حرية فردية، والتعري فنًا، والخيانة وجهة نظر. عندها لا يعود الأمر متعلقًا بفرد انحرف، بل بمنظومة قيم تُهدَم، ومجتمع يُفرغ من جوهره، وفطرة تُشوَّه أمام أعيننا كل يوم، حتى تصبح المأساة عادية، وتتحول الكارثة إلى مشهد مألوف لا يثير فينا إلا السخرية أو اللامبالاة.
إن أعظم ما أنتجه الفلاسفة عبر العصور ليس “نظريات” بقدر ما هو محاولات جادة للإجابة عن سؤال واحد: “كيف نحيا حياة تستحق أن تُعاش؟” والسؤال عن الحياة الطيبة لا يمكن فصله عن المنظومة الأخلاقية.
فالقيم ليست ترفًا فكريًا، بل هي صمّام الوجود الإنساني، وإطار يضبط الرغبة حتى لا تتحول إلى فوضى، ويقيد الحرية حتى لا تنقلب على ذاتها فتفني الإنسان باسم الإنسان.
فإذا كانت حريتك تعني لي الهلاك، وإذا كان تعبيرك عن “ذاتك” يستلزم تدمير ذوات الآخرين، وإذا كان خروجك من كل قيد أخلاقي يقتضي أن تُجرّ الأطفال والمراهقين والضعفاء والمُتعبين خلفك إلى حفرة العدم…
فهذه ليست حرية، بل غزو، وليست ذاتًا بل فيروس، وليست تجربة، بل عدوى سرطانية تنتشر في جسد الأمة.
حين يخرج أحدهم ليجاهر بإلحاده، لا يفعل ذلك عادةً كنتاج بحث فلسفي عميق، بل في كثير من الأحيان يكون رد فعلٍ لجرحٍ نفسي أو سقوطٍ أخلاقي يريد أن يبرره لنفسه، فيلجأ إلى هدم المنظومة كلها حتى لا يشعر بالذنب. وعوض أن يُداوي الكسر، يسعى لتحطيم البناء بأكمله حتى لا يظل هناك من يذكره بأنه اختار السقوط.
وإذا كانت هذه النفسية قديمة في جوهرها، فإن المعاصرة قد زوّدتها بسلاح جديد: “السوشيال ميديا”.
لم تعد المسألة مجرد رأي شخصي أو تجربة خاصة، بل أصبحت مشروعًا للانتشار، لخلق جمهور، لبناء “مجتمع بديل” قائم على قلب الموازين، وإعادة تعريف كل شيء: من الأسرة، إلى الجنس، إلى الحقيقة، إلى الله نفسه. في عالمٍ يقدّس الظهور، يصبح الانحراف أكثر جذبًا من الاستقامة، لأن الأول يثير الصدمة، والثاني يتطلب جهدًا طويلًا لبنائه.
والمشكلة الأكبر ليست في هذا الانحراف ذاته، بل في حالة “الاستسلام العام” أمامه. في التحول من الإنكار إلى التبرير، ومن الصمت إلى المشاركة، ومن الدفاع عن الحق إلى الدفاع عن حرية الباطل في أن يعلو صوته. لقد تغيرت لغة الأخلاق في مجتمعاتنا. أصبح الحق يُطلب منه أن يعتذر، وأصبحت الرذيلة تطالب باحترامها كخيار شخصي. كل هذا لأننا خلطنا بين “حرية الضمير” و”حرية المجاهرة”، وبين “الاختلاف المشروع” و”التفكك المدروس”، وبين “الرحمة بالناس” و”التواطؤ معهم”.
هنا تمامًا يكمن الفارق بين من يرى في الدين مجرد طقوس ومناسبات، وبين من يراه منظومة حياة شاملة، تبدأ من الفرد وتنتهي بالمجتمع، وتحيط بالوعي والسلوك والمصير. إن منطق الدين –في جوهره– لا يعادي الحرية، بل يصحح مسارها، ويوجهها لتكون بناءً لا هدمًا، وتحررًا من الشهوات لا خضوعًا لها.
قد يسأل سائل: وماذا تريدون؟ أن تعاقبوا كل من شذ؟ أن تحاسبوا كل من أخطأ؟ والجواب: لا، لا نريد محاكم تفتيش، بل محكمة ضمير. لا نريد سلطة تكميم، بل خطابًا يقظًا يرفض الانحناء. نريد مجتمعًا لا يخاف من الدفاع عن قيمه. نريد أن تبقى الكلمة الطيبة ممكنة، والحق مقبولًا في الفضاء العام، وأن لا نصبح نحن –أهل الإيمان– مضطرين للهمس في وقت يصر أهل الباطل على الصراخ.
إن السكوت أمام المجاهرة عدالة زائفة، وهو خيانة كبرى حين تتحول المجاهرة إلى حملة لتفكيك الفطرة باسم “الاختلاف”. وأعظم ما يمكن أن نواجه به هذا الطوفان هو الوعي، لا الشتائم. البيان، لا القمع. لكن أيضًا: الحزم، لا التهاون.
وإذا كانوا قد قرروا أن ينشروا الباطل جهارًا، فإننا لن نخجل من الحق. وإذا أرادوا أن يصوغوا سردياتهم بمهارة، فإننا سنرد عليهم بلغة العقل والحكمة والتاريخ والفطرة والشرع، لأننا نعلم أن الحق لا يحتاج إلى قوةٍ مادية بقدر ما يحتاج إلى صوتٍ شجاع.
ولأننا نعلم أيضًا أن كل ما يُبنى على الكذب، وإن زُيِّن بمئة حيلة، لا يصمد أمام الحقيقة ساعة واحدة، إن وُجد من يملك الشجاعة أن يقولها.