نحو استقلال حضاري: آن أوان التحرر من مركزية الغرب

بقلم : محمد نجيب نبهان ( كاتب وناقد و باحث تاريخي )

لم يعد من الحكمة، ولا من مقتضيات الواقعية السياسية والفكرية، أن تستمر الأمم العربية في النظر إلى الغرب بوصفه النموذج الأوحد للحضارة والتقدم، أو أن يُعامل باعتباره مركز العالم الحديث الذي لا مناص من السير في ركابه. فهذه الرؤية، التي طالما هيمنت على العقل السياسي والثقافي العربي منذ نهاية القرن التاسع عشر، بُنيت في الأساس على لحظة انبهار بالقوة الغربية الصاعدة، حينما كانت أوروبا وأمريكا في ذروة توسّعها الاستعماري وتقدّمها العلمي والصناعي. لكن العالم لم يظل على حاله، وتبدّلت ملامحه بصورة عميقة، لم تعد تسمح ببقاء تلك الرؤية القديمة دون مراجعة جذرية.

الغرب، رغم كل ما حققه من منجزات، بات اليوم يمرّ بتحولات داخلية حادّة تنذر بتراجع مكانته المركزية في الحضارة البشرية. فمنذ مطلع القرن الحادي والعشرين، برزت أزمات متلاحقة كشفت عن وهن في المنظومة الغربية، سواء من جهة بنيتها الاجتماعية أو نظامها السياسي أو حتى قدرتها على الاستمرار كمرجعية أخلاقية وثقافية. الانقسام الداخلي في المجتمعات الغربية آخذ في الاتساع، سواء من حيث التفاوت الطبقي أو تفكك القيم الجماعية، أو تصاعد الخطاب الشعبوي القومي، الذي ينذر بتمزيق العقد الاجتماعي الذي قامت عليه الديمقراطيات الغربية.

وفي ذات السياق، لم تعُد المؤسسات الغربية قادرة على إدارة النظام الدولي كما كانت في السابق. الولايات المتحدة، رغم أنها لا تزال تحتفظ بنفوذ هائل، أظهرت في العقدين الأخيرين علامات ارتباك في سياساتها الخارجية، وانكفاء في أدوارها القيادية، لا سيما في الشرق الأوسط وأفغانستان وأفريقيا. أما أوروبا، فقد عصفت بها أزمات سياسية واقتصادية متلاحقة، من أزمة اليورو إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ثم أزمة الطاقة التي فجرها الصراع الروسي الأوكراني، والتي عرّت هشاشة البنية الاستراتيجية الأوروبية.

في مقابل هذا التراجع النسبي، شهدت دول الشرق – وعلى رأسها الصين والهند وكوريا الجنوبية – صعودًا متسارعًا لم يكن قائمًا على مجرد المحاكاة أو النقل، بل على تأسيس نماذج تنموية تجمع بين الأصالة والتخطيط الاستراتيجي طويل الأمد. فالصين، التي كانت حتى الأمس القريب دولة نامية، أصبحت اليوم منافسًا اقتصاديًا وسياسيًا للولايات المتحدة، وتُعدّ أكبر شريك تجاري لمعظم دول العالم. وهي لا تطرح نفسها كقوة عسكرية فحسب، بل كنموذج حضاري بديل، يقوم على النظام والانضباط والتكامل بين السلطة والتنمية.

كوريا الجنوبية بدورها استطاعت خلال أقل من نصف قرن أن تتحول من دولة منكوبة إلى قوة صناعية وتكنولوجية وثقافية، تتصدر أسواق الإلكترونيات والسيارات والفن والمحتوى الرقمي. أما الهند، فقد ارتقت في هدوء، وبدأت تؤسس لقوة رقمية هائلة، تجمع بين المهارات البشرية الرخيصة والتعليم التقني المتقدم، مما جعلها شريكًا لا غنى عنه لكبرى الشركات العالمية، لا سيما في مجالات البرمجيات والذكاء الاصطناعي.

وهنا تبرز الإشكالية العربية: فما تزال كثير من الدول العربية تنظر إلى الغرب بعين التقديس، وتبني سياساتها واستراتيجياتها التعليمية والثقافية والاقتصادية على أساس من التبعية الذهنية، دون إدراك بأن الغرب نفسه لم يعد متماسكًا كما كان، ولم يعد قادرًا على منح ضمانات التنمية أو السيادة، بل بات يتعامل مع حلفائه بمنطق المصلحة وحدها، لا بمنطق الالتزام الأخلاقي أو القيمي.

الرهان على الغرب بوصفه حاضنًا للتنمية والديمقراطية قد سقط مرارًا، وأثبتت الأحداث الكبرى – من غزو العراق إلى خذلان الثورات العربية، ومن دعم أنظمة قمعية إلى الكيل بمكيالين في قضايا الشعوب – أن هذا الرهان لا يقود سوى إلى مزيد من التبعية والارتهان.

من هنا، فإن المطلوب اليوم ليس الانتقال من تبعية للغرب إلى تبعية للشرق، بل التحول إلى رؤية جديدة للعالم، تؤمن بتعدد الأقطاب، وتقوم على الاستقلال الحضاري والسياسي والفكري. على الدول العربية أن تتحرر من وهم النموذج الواحد، وأن تنظر إلى العالم باعتباره فسيفساء من النماذج والخبرات، التي يمكن أن تُستلهم وتُوظف بما يخدم الواقع المحلي وضرورات المستقبل.

في هذا السياق، يمكن أن تتعلم الدول العربية من الشرق روح الانضباط، والعمل المؤسسي، والتخطيط طويل المدى، كما يمكن أن تستفيد من الغرب في جوانب الإدارة والحوكمة والتكنولوجيا. لكن عليها في المقابل أن تبدأ من ذاتها، من تاريخها، من ثقافتها، من واقعها الاجتماعي، لا أن تتخلى عن هويتها في سبيل اللحاق المتأخر بركاب الآخرين.

المرحلة المقبلة تقتضي شجاعة فكرية وسياسية، لا في التمرد على الغرب، بل في التحرر من الحاجة المَرَضيّة إلى مرجعية خارجية. إنها لحظة الولادة الجديدة للعقل العربي، لا بوصفه تابعًا أو مقلدًا، بل بوصفه طرفًا فاعلًا في بناء الحضارة الإنسانية المتجددة.

لقد انتهى زمن المركز الواحد، ولم يعد أحد يحتكر تعريف “الحضارة”. الحضارة اليوم تُصنع في سيول وبكين ومومباي، كما كانت تُصنع بالأمس في أثينا وبغداد وقرطبة. والعرب، إن أرادوا أن يكون لهم مكان في هذا العالم، فعليهم أن ينظروا إلى أنفسهم بعيون واثقة، لا بعيون مستعارة.

فالحضارة ليست إرثًا يُورث، بل وعي يُبنى، وإرادة تُمارس. ومتى امتلكت الأمة وعيها بذاتها، وحررت قرارها من قبضة التبعية، فإنها تبدأ أولى خطواتها نحو الاستقلال الحقيقي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *