الدرس الثامن والعشرون : ( وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ )
الحمد لله رب العالمين أشكره شكر العارفين، وأصل وأسلم على إمام الشاكرين سيدنا محمد النبي الأمى الأمين، وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين أما بعد؛ معاشر الصائمين: إن الشكر من أعظم العبادات التى ينبغى للمسلم أن يختم بها ويودع بها شهر رمضان؛ فيشكر ربه جل وعلا على نعمة إدراك زمن رمضان ويشكر ربه على نعمة التوفيق إلى الصيام والقيام، وتلاوة القرآن، وفعل الخيرات، فى رمضان؛ قال تعالى: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾(البقرة: ١٨٥)،
♦أركان الشكر؛ الأول: معرفة المُنْعِم وصفاته، ومعرفة النعمة من حيث أنّها نعمة ولا تتم تلك المعرفة إلا بأن يعرف المرء أنّ النعم كلّها جليُّها وخفيُّها من الله سبحانه وتعالى.
الثاني: الخضوع والتواضع والسرور بالنعم، من حيث أنّها هديّة دالة على عناية المنعم بالإنسان.
الثالث: النشاط للعمل بما يوجب القرب من المنعم وهو متعلق بالقلب واللسان والجوارح؛
– أما عمل القلب؛ فهو تعظيم المولى والتفكر في عظيم عطائه وآلائه. – وأّما عمل اللسان؛ فيكون بحمد لله والثناء عليه. – وأما عمل الجوارح؛ فباستعمال نِعَم المولى الظاهرة والباطنة في طاعته وعبادته.
– والشكرُ هو الإحسان لمن أسدى لك معروفاً، ويكون بالقول والعمل وشُكر الله على نعمه هو توظيفها في طاعته؛
– فمثلًا شُكر الله على نعمة المال يتمثَّل في إخراج الزكاة منه والصدقة، وشُكره على نعمة البصر يتمثل في النظر فيما يرضيه سبحانه وتعالى، واجتناب ما يُغضِبه، وعلى هذا فقِسْ.
♦ الشكر من صفات الله عز وجل فمن أسمائه جل جلاله الشاكر والشكور؛ قال تعالى: ﴿وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ)(البقرة: ١٥٨)، وقال تعالى:(وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ﴾(الشورى: ٢٣)، فما هو مقتضى الاسمين الكريمين وأثرهما؟
– إن هذين الاسمين الجليلين يحملان العبد على العمل الصالح والإحسان فيه حتى ينال الجزاء من الله الشاكر الشكور.
– كما أن هذين الاسمين يستوجبان من العبد شكر الله تعالى على عطائه وثوابه وسائر نعمه.
– والشكر كما أنه يكون باللسان يكون بالقلب والجوارح أيضاً.
– فالشكر بالقلب يكون باستحضار نعم الله تعالى، وباللسان يكون بالثناء على الله تعالى، وبالجوارح يكون بأداء الفرائض والواجبات وترك المعاصي والمحرمات. ♦ الشكر من أبرز صفات الأنبياء والمرسلين عليهم السلام من ذلك؛ – الخليل إبراهيم عليه السلام؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾(النحل: ١٢٠-١٢١)،
قال ابن كثير: قوله: ﴿شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ﴾، أي: قائماً بشكر نعم الله عليه؛ كما قال تعالى: ﴿وإبراهيم الذي وفى﴾(النجم : ٣٧) أي: قام بجميع ما أمره الله تعالى به. – ونوح عليه السلام كان شاكراً لنعم ربه جل وعلا قال تعالى: ﴿ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا﴾(الإسراء:٣)،
قَالَ مُجَاهِدٌ: كَانَ نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِذَا أَكَلَ طَعَامًا أَوْ شَرِبَ شَرَابًا أَوْ لَبِسَ ثَوْبًا قَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ، فَسُمِّيَ عَبْدًا شَكُورًا، أَيْ: كَثِيرَ الشُّكْرِ.. تفسير البغوي. – أمر الله عز وجل آل داود بشكره جل وعلا؛ قال تعالى: ﴿اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ﴾(سبأ: ١٣)،
ويستفاد من الآية الكريمة: أن الشكرَ هنا جاء نكرةً في سياق الإثبات، وهي تُفيد الإطلاق؛ أي: يجبُ الشكر على المسلم في جميع أحواله، والفرق بين الشكر والحمد مِن وجهين؛ – الوجه الأول: الشكر أعمُّ مِن الحمد من جهة الآلة؛ فهو يكون بالقلب واللسان والجوارح، أما الحمد فيكون بالقلب واللسان.
– الوجه الثاني: الحمد أعمُّ مِن الشكر من جهة السبب؛ فهو يكون في مقابل الإحسان وفي غيره، تقول: أحمد فلانًا على خدمته، وتقول أيضًا: أحمد فلانًا على شجاعته، وأما الشكر فلا يكون إلا مقابل الإحسان.
– وهذا سليمان عليه السلام يشكر ربه جل وعلا على ما رزقه من الملك؛ قال تعالى: ﴿قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾(النمل: ٤٠)،
– شكر موسى عليه السلام قال تعالى: ﴿قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾(الأعراف: ١٤٤)،
قال الإمام الواحدى: ﴿اصطفيتك﴾، اتَّخذتك صفوةً،﴿برسالاتي﴾؛ أَيْ: بوحيي إليك، ﴿وبكلامي﴾، كلَّمتك من غير واسطة، ﴿فخذ ما آتيتك﴾ من الشَّرف والفضيلة ﴿وكن من الشاكرين﴾ لأنعمي في الدنيا والآخرة.. الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي.
– وعَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَوَجَدَ الْيَهُودَ صِيَامًا يَوْمَ عَاشُورَاءَ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَا هَذَا الْيَوْمُ الَّذِي تَصُومُونَهُ»؟ فَقَالُوا: هَذَا يَوْمٌ عَظِيمٌ أَنْجَى اللَّهُ فِيهِ مُوسَى وَقَوْمَهُ وَغَرَّقَ فِرْعَوْنَ وَقَوْمَهُ فَصَامَهُ مُوسَى شُكْرًا فَنَحْنُ نَصُومُهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّه ﷺ: «فَنَحْنُ أَحَقُّ وَأَوْلَى بِمُوسَى مِنْكُمْ»؛ فَصَامَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ» رواه مسلم. – ولقد كَانَ سيدنا رسول الله ﷺ يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه، فقالت عائشة رضي الله عنها: لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟! قَالَ: «أَفَلَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا» متفق عليه.
– وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ أخذ بيده وقال: «يَا مُعَاذُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، فَقَالَ: أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ، لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ» رواه أبو داود. – وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي ﷺ قال: «إِنَّ لِلطَّاعِمِ الشَّاكِرِ مِثْلَ مَا لِلصَّائِمِ الصَّابِرِ»رواه الترمذي وابن ماجه.
– ومن تمام شُكْر الله تعالى شُكْرُ الناس على معروفهم وإحسانهم؛ فعن أبى سعيد الخدري رضي الله عنه قال النبي ﷺ: «من لم يشْكُرِ الناسَ لم يشْكُرِ الله»، وفي رواية: «لا يَشْكُرُ اللهَ مَن لا يَشْكُرُ الناسَ» رواه أبو داود.
وقال عليه الصلاة والسلام: «وَمَنْ صَنَعَ إِلَيْكُمْ مَعْرُوفاً فَكافِئُوهُ، فإنْ لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تَرَوْا أنَّكُمْ قَدْ كافأتموه» رواه أبو داود، وصححه النووي في الأذكار. أَوْليتَني نِعمًا أبوح بشُكرِها وكفَيْتَني كلَّ الأمور بأَسْرِها فلأشكُرَنَّكَ ما حَيِيتُ وإن أَمُتْ فلَتَشْكرَنَّك أَعْظُمي في قبرِها ♦ ثمرات الشكر؛ معاشر الصائمين: إن لشكر المُنعم جل جلاله ثمرات من ذلك؛ – الشكر أمان من عذاب الله؛ قال تعالى:(مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا)(النساء: ١٤٧)، – الشكر سبب لزيادة النعم وحِفظِهَا؛ قال تعالى: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ﴾(إبراهيم: ٧)، قَالَ على بن أبي طالب: إِنَّ النِّعْمَةَ مَوْصُولَةٌ بِالشُّكْرِ، وَالشُّكْرُ مُتَعَلِّقٌ بِالْمَزِيدِ، وَهُمَا مَقْرُونَانِ فِي قَرْنٍ، وَلَنْ يَنْقَطِعَ الْمَزِيدُ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ حَتَّى يَنْقَطِعَ الشُّكْرُ مِنَ الْعَبْدِ. – الشكر مرضاة للربِّ جل وعلا؛ قال تعالى: ﴿وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ﴾(الزمر: ٧)، وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا» رواه مسلم. – الشكر جزاؤه من الله عز وجل؛ قال تعالى:﴿وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ﴾(آل عمران: ١٤٤)، فلم يذكر مقدار الجزاء ليدل ذلك على كثرته وعظمته، ولنعلم أن الجزاء على قدر الشكر. – الشكر منجاة من المهالك؛ قال تعالى مخبراً عن قوم لوط: ﴿إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ﴾(القمر: ٣٤-٣٥)، قال الطبري: قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ﴾ يقول: وكما أثبنا لوطًا وآله، وأنعمنا عليه، فأنجيناهم من عذابنا بطاعتهم إيانا كذلك نثيب من شكرنا على نعمتنا عليه، فأطاعنا وانتهى إلى أمرنا ونهينا من جميع خلقنا. فيا عباد: إن شكر الله عز وجل على نعمة الصيام والقرآن والقيام، فى رمضان إنما يكون بالمدوامة عليها فيما بعد رمضان فلا يكون العبد شاكراً إلا أن يستمر على الطاعات وعمل الخيرات بعد رمضان، فاتقوا الله واشكروه يزيدكم من فضله وكرمه. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه إلى يوم الدين. كتبه راجى عفو ربه أيمن حمدى الحداد الجمعة ٢٨ من رمضان ١٤٤٦ هجرياً الموافق ٢٨ من مارس ٢٠٢٥ميلادياً