سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْ

بقلم فضيلة الشيخ الدكتور : أيمن حمدى الحداد

الدرس الحادى والعشرون : ﴿سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾

الحمد لله وكفى وصلاةً وسلاماً على عباده الذين اصطفى أما بعد؛ فيا أيها الصائمون: لقد كان سيدنا رسول الله ﷺ، يحتفى بالعشر الأواخر من رمضان أيّما احتفاء فكان ﷺ يُحيي ليلها، ويوليها اهتماماً كبيراً، حيث يُضاعف من اجتهاده في العبادات
طلباً وتحرياً لليلة القدر؛ فعن عائشة رَضَيَ اللَّه عَنْهَا، قَالَتْ: كَانَ رسُول اللَّهِ ﷺ: «إِذا دَخَلَ العَشْرُ الأَوَاخِرُ مِنْ رمَضَانَ، أَحْيا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَه، وجَدَّ وَشَدَّ المِئزرَ» متفقٌ عَلَيهِ.

وَعَنْهَا قَالَتْ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَجْتَهِدُ فِي رَمضانَ مَالا يَجْتَهِدُ في غَيْرِهِ، وَفِي العَشْرِ الأَوَاخِرِ منْه مَالا يَجْتَهدُ في غَيْرِهِ» رواهُ مسلم.
ومن هذا المنطلق كان الاجتهاد في الليالي العشر تحرياً لليلة القدر من هديه ﷺ؛ ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن النبي ﷺ قال: «تَحَرَّوْا لَيْلَةَ القَدْرِ في العَشْرِ الأوَاخِرِ مِن رَمَضَانَ».
وَعَنْها أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «تَحرّوْا لَيْلةَ القَدْرِ في الوتْرِ مِنَ العَشْرِ الأَواخِرِ منْ رمَضَانَ» رواهُ البخاري.
ولقد ذكر في تسمية ليلة القدر عدة أقوال منها:
– أنها سميت بذلك من القدر وهو الشرف وعلو المكانة.
– وقيل لأن لقيام ليلة القدر شأن عظيم.
– وقيل سميت بذلك لأن الله تعالى يقدر فيها ما يكون في تلك السنة من الآجال والأرزاق.

قال ابن حجر: والمعنى أنه يُقدر فيها أحكام تلك السنة لقوله: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾،
قال النووي: قال العلماء سميت ليلة الْقَدْر لما تكتب فيها الملائكة من الأقدار لقوله: ﴿فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ﴾، وهو قول مجاهد وقتادة وعكرمة وغيرهم.
– كما أنها ليلة تنزل الملائكة والروح قال تعالى: ﴿تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْر﴾ومعنى تنزل الملائكة أي تهبط من كل سماء، ومن سدرة المنتهى ومسكن جبريل على وسطها؛ فينزلون إلى الأرض ويؤمنون على دعاء الناس، إلى وقت طلوع الفجر.
– وحكى القشيري: أن الروح صنف من الملائكة، جعلوا حفظة على سائرهم، وأن الملائكة لا يرونهم، كما لا نرى نحن الملائكة.
– وقال مقاتل: هم أشرف الملائكة وأقربهم من الله تعالى
– وقيل: إنهم جند من جند الله عز وجل من غير الملائكة.. رواه مجاهد عن ابن عباس مرفوعاً.
– وتأولها الكلبي على أن جبريل ينزل فيها مع الملائكة، فيسلمون على كل امرئ مسلم يؤيد هذا ما جاء في حديث أنس بن مالك قال: قال النبي ﷺ:
«إذا كان ليلة القدر نزل جبريل في كبكبة من الملائكة، يصلون ويسلمون على كل عبد قائم أو قاعد يذكر الله تعالى» رواه البيهقى في شعب الإيمان.
– وهي ليلة خالية من الشر والأذى وتكثر فيها الطاعة وأعمال الخير والبر ويكون فيها السلامة من العذاب فهي سلام كلها قال تعالى: ﴿سَلَامٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾، والإخبار عنها بالسلامة للمبالغة في أنه لم يشبها كدر بل يفرج الله عن كل طائع وعابد ويعطى لكل سائل مسألته ويتوب فيها على كل تائب ويغفر فيها لكل مستغفر.
يَا لَيْلَة أَلْف شَهْر أَنْت دِرَّتَهَا..
وَأنْت خَيْرٌ وَفِيْك الْعَفْو مُنْتَظِر
فِيْك الْتَّجَلِّي عَلَي خَلَق رَحْمَتِه..
وَفِيْك يُرْجَي الْهُدْى وَالذَّنْب يُغْتَفَر
أَلَم يَقُل فِيْك رَبِي فِي مَنْزِلَه..
مِن أَلْف شَهْر سَمَت مِن فَضْلِهَا ذِكْر؟
تَنَزَّل الْمَلِك الْرُّوْح الْامِيْن بِهَا..
وُحَفَّهَا الْامْن لَم يَحْلُل بِهَا كَدَر
وَقَال فِيْهَا سَّلامِ مِن بِدَايَتِهَا..
حَتَّي يُلَوِّح شُعَاع الْفَجْر يَنْهَمِر
كَم سَال فِيْهَا سَلَام فِيْه مَرْحَمَة..
وَأَنْعَمُ الْلَّه لَايُحْصَي لَهَا صَدَر؟
معاشر الصائمين: إن العمل الصالح فى ليلة القدر لا يفضله ولا يعدله عمل فيما سواها، فينبغى للمسلم أن يكون حريصاً على فعل الطاعات، وعمل الصالحات من ذلك؛

– الإعتكاف فى العشر الآواخر والإنقطاع للعبادة؛

لقد كان الإعتكاف فى العشر الآواخر من رمضان من هدى سيدنا رسول الله ﷺ إلتماساً لليلة القدر، فعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: «كانت رَسُولُ اللَّهِ ﷺ يَعْتَكِفُ الْعَشْرَ الْأَوَاخِرَ مِنْ رَمَضَانَ حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عز وجل» متّفق عليه.
وَعَنْها قَالَتْ: «السُّنَّةُ عَلَى الْمُعْتَكِفِ أَنْ لَا يَعُودَ مَرِيضاً، وَلَا يَشْهَدَ جِنَازَةً، وَلَا يَمَسَّ امْرَأَةً وَلَا يُبَاشِرَهَا، وَلَا يَخْرُجَ لِحَاجَةٍ إلَّا لِمَا لَا بُدَّ مِنْهُ، وَلَا اعْتِكَافَ إلَّا بِصَوْمٍ، وَلَا اعْتِكَافَ إلَّا فِي مَسْجِدٍ جَامِعٍ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
– التزين لليلة القدر؛ فيستحب في الليالي التي ترجى فيها ليلة القدر التنظف والتزين والتطيب بالغسل، ولبس أحسن الثياب؛
ولقد كان لتميم الداري رضي الله عنه حلةً اشتراها بألف درهم وكان يلبسها في الليلة التي ترجى فيها ليلة القدر.

– وكان الإمام مالك رضي الله عنه؛ إذا كانت ليلة سابع وعشرين اغتسل وتطيب ولبس حلةً وإزاراً ورداءً فإذا أصبح طواهما فلم يلبسهما إلا مثلها من قابل..
– وكان ثابت البناني يلبس أحسن ثيابه ويتطيب، ويطيب المسجد بالنضوح والدخنة في الليلة التي يرجى فيها ليلة القدر،

– حث الأهل والأولاد على فعل الخيرات، والتقرب إلى الله عز وجل بعمل الصالحات؛ فقد كان سيدنا رسول الله ﷺ يحرص على حث الناس على مرضاة الله سُبحانه وتعالى لتحصيل الحسنات والأجر والثواب في ليلة القدر؛ فعن مجاهد رضى الله عنه: أن النبي ﷺ ذكر رجلاً من بنى إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر – أي جاهد ألف شهر فعجب الصحابة من ذلك وقالوا: وأنى لنا من العمر كعمر هذا حتى نفعل كما فعل؟! فنزلت: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾، فجعل الله عبادة تلك الليلة أفضل من عبادة ألف شهر فهي منُة منه سبحانه على تلك الأمة الضعيفة.
وكان سفيان الثوري إذا دخل العشر الأواخر يتهجد بالليل ويجتهد فيه وينهض أهله وولده إلى الصلاة.
– تلاوة القرآن الكريم؛ فيحرص العبد على إحياء هذه الليالى المباركات بقرأة القرآن؛
قال ابن رجب: كان السلف يتلون القرآن في شهر رمضان في الصلاة وغيرها وكانوا يحرصون على ختم القرآن الكريم في فترة معينة، وبالأخص في العشر الأواخر من رمضان.
– ولقد كان إبراهيم النخعي رحمه الله يختم القرآن في رمضان في كل ثلاث ليالٍ وفي العشر الأواخر في كل ليلتين.
– وكان قتادة رضي الله عنه يختم القرآن في سبع، وإذا جاء رمضان ختم في كل ثلاث، فإذا جاء العشر ختم في كل ليلة؛ سير أعلام النبلاء الذهبي.

– وكان سعيد بن جبير رحمه الله يختم القرآن في كل ليلتين،، الطبقات لابن سعد.

– الإكثار من الدعاء؛ فإن من أعظم خصائص وفضائل ليلة القدر أنها ليلة الدعاء المستجاب، فعن عائشة رضى الله عنها قالت: يا رسولَ اللَّهِ، أرأيتَ إن وافقتُ ليلةَ القدرِ ما أدعو؟ قالَ: تقولينَ: «اللَّهمَّ إنَّكَ عفوٌّ تحبُّ العفوَ فاعفُ عنِّي» رواه أحمد والترمذي وابن ماجه.

ويمكن للمسلم أن يدعو بهذا الدعاء في جميع الأحوال، وفي أي وقت شاء وينبغي للمسلم أن يكثر من الدعاء بما شاء من خيري الدنيا والآخرة في ليلة القدر مع اليقين بأن الله عڙ وجل قريب مجيب الدعاء ومن الأدعية الجامعة: «اللّهم إنّا نسألك من خير ما سألك منه عبدك ورسولك محمد ﷺ ونستعيذك من شر ما استعاذك منه عبدك ورسولك محمد ﷺ».

والمتأمل يجد أن آية الدعاء ذكرت بين آيات الصيام حيث يقول عز وجل: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾(البقرة: ١٨٦)، مما يدل على أن دعوة الصائم مستجابة ويضاف إلى ذلك أن ليلة القدر دعاؤها مستجاب قال رسول الله ﷺ: «ثلاثةٌ لا تُردُّ دعوتُهم الصَّائمُ حتَّى يُفطرَ والإمامُ العادلُ ودعوةُ المظلومِ يرفعُها اللهُ فوق الغمامِ وتُفتَّحُ لها أبوابَ السَّماءِ ويقولُ الرَّبُّ وعزَّتي لأنصُرنَّك ولو بعد حين» رواه الترمذي.

– الإكثار من الصدقات؛ فينبغي للمسلم أن يكثر من الصدقات، ويدل ظاهر كلام بعض الفقهاء على أنه لا حرج في تحري تلك الليالي المرجو فيها ليلة القدر بكثرة الصدقة.

قال الشيخ زكريا الأنصاري رحمه الله: وَلَا سِيَّمَا فِي الْعَشْرِ الْأَخِيرِ فِي الشَّهْرِ أَيْ شَهْرِ رَمَضَانَ فَإِنَّهُ أَوْلَى مِنْ بَقِيَّةِ الشَّهْرِ بِكَثْرَةِ الصَّدَقَةِ، وَالْقِرَى، وَالِاعْتِكَافِ، وَالْقِرَاءَةِ، وَالتَّهَجُّدِ لِطَلَبِ لَيْلَةِ الْقَدْرِ الَّتِي هِيَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ أَيْ الْعَمَلُ فِيهَا خَيْرٌ مِنْ الْعَمَلِ فِي أَلْفِ شَهْرٍ لَيْسَ فِيهَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، وَلِأَنَّهُ ﷺ كَانَ يَجْتَهِدُ فِيهِ مَا لَا يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ.

فالصدقة تطفئ غضب الرب سبحانه، وتدفع ميتة السوء كما قال رسولكم ﷺ فأدْخِلوا يرحمكم الله بزكاتكم وصدقاتكم وإحسانكم السرور على الفقراء والمحتاجين، وخصوصاً الأقرباء والأرحام والجيران، سدوا خللهم، وواسوهم بأموالكم التي ائتمنكم الله عليها ومن ينفق ينفق الله عليه، ومن بخل فإنما يبخل على نفسه؛ قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَلَى نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ﴾( محمد: ٣٨)،

– الإجتهاد فى نهار العشر كالإجتهاد فى ليلها؛ قد يظن البعض أن الإجتهاد فى عمل الصالحات يكون ليلاً فقط؛ ولقد ذهب بعض السلف إلى اعتبار ليلة القدر كنهارها في لزوم الاجتهاد في العمل الصالح.
– قال الإمام الشافعي: يستحب للعبد أن يكون اجتهاده في نهارها كاجتهاده في ليلها؛ وهذا يقتضي استحباب الاجتهاد في جميع زمن العشر الأواخر ليله ونهاره.

فينبغى للمسلم أن يدوام على ذكر الله عز وجل، وأن يتحلى بمكارم الأخلاق، وأن يسارع فى أعمال البر والخير فى جميع زمن العشر الآواخر، أسال الله لى ولكم القبول، والعتق من النيران، والفوز بأجر ليلة القدر، إنه ولى ذلك والقادر عليه.

اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين.

كتبه راجى عفو ربه
أيمن حمدى الحداد
الجمعة ٢١ من رمضان ١٤٤٦ هجرياً
الموافق ٢١ من مارس ٢٠٢٥ ميلادياً

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *