النسوية وانتقائية التضامن: لماذا تُنسى المرأة حين لا تخدم الخطاب الغربي؟
19 مارس، 2025
قضايا شرعية

بقلم : محمد نجيب نبهان ( كاتب وناقد و باحث تاريخي )
لطالما رفعت الحركات النسوية شعار الدفاع عن حقوق النساء في كل مكان، وادعت أنها الصوت الذي يواجه الظلم والتمييز ضد المرأة، بغض النظر عن جنسيتها أو بيئتها الاجتماعية. لكن الواقع يكشف لنا عن صورة مختلفة تمامًا؛ فهذه الحركات تناضل بقوة عندما يكون الحديث عن حقوق المرأة الغربية، لكنها تصمت، أو على الأقل تتخذ موقفًا فاترًا، عندما يتعلق الأمر بمعاناة النساء في مناطق النزاع والمجاعة والاستعمار، كما هو الحال في غزة أو السودان.
هذا التناقض يطرح تساؤلات جوهرية: هل الحركات النسوية معنية حقًا بحقوق جميع النساء، أم أنها تعمل وفق أجندات سياسية وأيديولوجية تحدد لها متى يجب أن تتحدث ومتى يجب أن تصمت؟ ولماذا تتحرك النسويات بقوة لمناقشة قضايا مثل “فجوة الأجور بين الجنسين” في المجتمعات المتقدمة، بينما تتجاهلن تمامًا صرخات النساء اللواتي يُغتصبن ويُقتلن ويُهجّرن في مناطق الحرب؟
النسوية والتجاهل الطبقي: ليست كل النساء سواء
منذ نشأتها، لم تكن الحركة النسوية حركة موحدة أو متجانسة، بل كانت تعكس، في كثير من الأحيان، واقع الطبقة الاجتماعية التي أطلقتها. عندما بدأت النسوية في أوروبا وأمريكا، كانت أغلب الناشطات من الطبقات الوسطى والعليا، وكنّ يناضلن لتحقيق مطالب تعكس واقعهن: الحق في التعليم، الحق في العمل، الحق في التصويت، والمساواة في الأجور.
لكن هذه الأولويات لم تكن شاملة لكل النساء. فبينما كانت المرأة البيضاء من الطبقات المتوسطة والعليا تناضل للخروج من المنزل وكسر القيود الاجتماعية، كانت النساء من الطبقات الدنيا – وخاصة السوداوات في أمريكا – يكافحن للحصول على فرصة عمل، حتى وإن كانت في المطبخ أو كخادمات في المنازل. وقد عبّرت الناشطة النسوية الأمريكية أنجيلا ديفيس عن هذه المفارقة بقولها الشهير:
“بينما كانت المرأة البيضاء تناضل من أجل الخروج من المطبخ، كانت المرأة السوداء تناضل من أجل الدخول إليه.”
هذه العبارة تلخص التناقض الطبقي داخل الحركة النسوية نفسها، حيث لم تكن مطالب كل النساء واحدة، ولم تكن أولوياتهن متطابقة. لكن المشكلة لم تكن مجرد اختلاف في الأولويات، بل في أن النسويات البيضاوات تجاهلن معاناة النساء السوداوات والفقراء، وتعاملن مع النسوية وكأنها قضية تخصهن فقط.
هذا التفاوت لم يكن مجرد مرحلة تاريخية، بل هو مستمر حتى اليوم. فبينما تتحدث الحركات النسوية اليوم عن “التمكين الاقتصادي للمرأة” و”زيادة تمثيل النساء في المناصب القيادية”، فإنها تتجاهل ملايين النساء اللواتي يعشن في ظل الحروب، والاحتلال، والمجاعة، والتهجير القسري، حيث لا تعني هذه القضايا لهن شيئًا أمام صراعهن اليومي من أجل البقاء على قيد الحياة.
نساء غزة والسودان: المعاناة التي لا تجد صدى في الحركات النسوية
اليوم، تُرتكب في غزة إبادة جماعية بحق النساء والأطفال، حيث يُقتلن تحت القصف، وتُهدم بيوتهن على رؤوسهن، ويُحرمن من أبسط حقوقهن في الحياة، فضلاً عن الحقوق التي تنادي بها الحركات النسوية. الفتاة الغزية لا تطالب اليوم بالمساواة في سوق العمل، بل تطالب بالنجاة من صاروخ قد يسقط في أي لحظة. الأم الغزية لا تطالب بكسر القيود الاجتماعية، بل تبحث عن أشلاء أطفالها بين الأنقاض. ومع ذلك، لا نسمع من الحركات النسوية إلا صمتًا مطبقًا، بل وربما تبريرًا ضمنيًا للجرائم الإسرائيلية بحق النساء الفلسطينيات.
أما في السودان، حيث الحرب الأهلية تمزق البلاد، تعيش النساء أوضاعًا مأساوية لا يمكن تصورها. فهن يتعرضن للاغتصاب الجماعي كأداة للحرب، ويتم اختطاف الفتيات وتحويلهن إلى سبايا، ويُجبرن على الهروب إلى المخيمات التي تفتقر إلى أدنى مقومات الحياة. ومع ذلك، لا نجد نفس الأصوات التي علت ضد “الاضطهاد الذكوري” في دول الرفاهية تتحدث عن هذه المآسي، ولا نرى تظاهرات نسوية غاضبة تدعو لإنقاذ المرأة السودانية.
هذا الصمت ليس مجرد مصادفة، بل هو جزء من نمط متكرر. فعندما تكون المرأة ضحية لأنظمة مدعومة من الغرب، أو عندما تكون معاناتها غير متماشية مع السردية النسوية السائدة، فإنها تصبح “غير مرئية” بالنسبة لهن.
النسوية أم الاستعمار الثقافي؟
من خلال هذا الانتقائية، تكشف الحركات النسوية عن حقيقتها كأداة أيديولوجية تُستخدم لتبرير التدخلات السياسية والثقافية في الدول غير الغربية. فحين يتم الترويج لخطاب “تحرير المرأة” في العالم العربي والإسلامي، يكون الهدف غالبًا هو فرض القيم الغربية، وليس حماية النساء من العنف الحقيقي الذي يتعرضن له.
على سبيل المثال، تُستخدم قضية “حقوق المرأة” كذريعة للتدخل في شؤون الدول الإسلامية، كما حدث في أفغانستان عندما بررت الولايات المتحدة غزوها بحجة إنقاذ النساء من طالبان، بينما لم تتحرك لإنقاذ النساء في مناطق أخرى مثل فلسطين أو السودان.
بل إن النسويات أنفسهن يساهمن في تعزيز هذا التوجه الاستعماري، من خلال التركيز على قضايا مثل الحجاب، وتعدد الزوجات، والميراث، وتقديمها كأكبر مشكلات تواجه المرأة المسلمة، بينما يتم التغاضي عن الاستعمار، والاحتلال، والحروب التي تمحو حقوق النساء بالكامل.
أين التضامن الحقيقي؟
إذا كانت النسوية تهدف حقًا إلى الدفاع عن النساء، فيجب أن يكون نضالها شاملاً لجميع النساء، بغض النظر عن خلفياتهن السياسية أو العرقية أو الاجتماعية. التضامن الحقيقي لا يكون انتقائيًا، ولا يخضع للاعتبارات السياسية أو الأيديولوجية.
فالمرأة التي تُسحق تحت القصف ليست أقل شأنًا من المرأة التي تطالب بالمساواة في الأجور.
والفتاة التي تُغتصب في معسكرات النزوح ليست أقل استحقاقًا للدفاع عنها من تلك التي تطالب بتمثيل أكبر في مجالس الإدارة. فإذا كان النضال النسوي حقيقيًا، فليكن للنساء جميعًا، لا لفئة دون أخرى. أما إذا استمر في انتقائيته، فسيظل مجرد أداة سياسية تُستخدم عند الحاجة، ويتم تجاهلها حين يكون الحديث عن النساء غير المرغوب في تمثيلهن.
في النهاية، السؤال الذي يجب أن يُطرح على الحركات النسوية اليوم ليس عن عدد النساء في البرلمانات، أو نسبة تمثيلهن في مجالس الإدارة، بل عن مصير النساء اللواتي يعشن في ظل الاحتلال، والحرب، والفقر، والتهميش. فهل ستكون النسوية صوتًا لهن؟
أم أنها ستظل انتقائية، لا ترى النساء إلا حين يخدمن أجنداتها السياسية؟