القوامة والحدود بين الجنسين: حماية أم قيد اجتماعي؟
18 مارس، 2025
قضايا شرعية

بقلم : محمد نجيب نبهان ( كاتب وناقد و باحث تاريخي )
لطالما كان الحديث عن العلاقة بين الرجل والمرأة، خصوصًا داخل الأسرة والمجتمع، مثار جدل واسع بين التيارات الفكرية المختلفة. في ظل تصاعد الخطاب النسوي الحديث، الذي يروج لمفاهيم مثل “الاستقلالية” و”التحرر من القيود الاجتماعية”، باتت القيم الإسلامية المتعلقة بالقوامة والحدود الشرعية موضع تساؤل بل وهجوم أحيانًا. لكن، هل هذه الأحكام مجرد قيود اجتماعية فرضتها المجتمعات الذكورية عبر التاريخ، أم أنها قواعد ضرورية لحماية الأفراد واستقرار المجتمع؟
الإسلام لم يأتِ ليجعل حياة الناس ضيقة أو يقيد حرياتهم عبثًا، وإنما جاء بمنهج متكامل يحقق التوازن بين الحرية والمسؤولية. من هذا المنطلق، وُضعت الحدود الدقيقة للعلاقات بين الرجال والنساء، لا سيما فيما يتعلق بالمحارم وغير المحارم، والخلوة، والاختلاط، وحتى المزاح والتواصل. هذه القواعد ليست مجرد اجتهادات فقهية، بل مستمدة من الوحي الإلهي، الذي يدرك طبيعة النفس البشرية وما قد تؤول إليه الأمور إن تُركت بلا ضابط. قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَٰلِكَ أَدْنَىٰ أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ [الأحزاب: 59]. فالحجاب، مثلًا، لم يكن مجرد لباس، بل هو تعبير عن مبدأ أوسع، وهو ضبط التفاعل بين الجنسين في المجتمع بحيث يحافظ على الاحترام المتبادل ويمنع دوافع الفتنة.
هناك خلط شائع بين مفهوم القوامة والسيطرة الذكورية، فالبعض يرى في القوامة نوعًا من التمييز بين الرجل والمرأة، لكن القوامة في حقيقتها مسؤولية أكثر مما هي سلطة. فهي تكليف للرجل بحفظ ورعاية المرأة، وتأمين احتياجاتها، وحمايتها من أي استغلال. القوامة ليست امتيازًا للرجل، بل هي التزام يحاسَب عليه، فهي تستوجب النفقة والرعاية والتوجيه، لا الاستبداد والقهر. في المقابل، فإن المرأة بطبيعتها تحتاج إلى سند يحميها ويعينها على مواجهة صعوبات الحياة، ومن يتأمل المجتمعات التي تخلت عن هذا المفهوم يجد أن المرأة لم تصبح أكثر سعادة أو استقرارًا، بل أصبحت أكثر عرضة للاستغلال، سواء في بيئة العمل أو في العلاقات غير المشروعة التي لا تمنحها الأمان العاطفي أو الاقتصادي.
أحد أكثر المفاهيم التي يتم التهاون فيها اليوم هو العلاقة بين الأقارب غير المحارم. فكم من امرأة تظن أن ابن عمها أو ابن خالها ليس كالأجنبي، فتتحدث معه بحميمية، وتُسقط كثيرًا من الضوابط الشرعية في التعامل معه، بل وقد تجلس معه دون حجاب أو تتبادل معه المزاح والحديث المطول، بحجة القرابة والثقة. لكن الحقيقة أن هؤلاء، مهما كانت صلة الدم تربطهم، يظلون رجالًا غير محارم، وبالتالي تجري عليهم نفس الأحكام الشرعية التي تمنع الخلوة والاختلاط غير المنضبط. والنبي ﷺ كان واضحًا حين قال: “الحمو الموت”، والمقصود بالحمو هنا هو قريب الزوج كأخيه أو ابن عمه، لأن الناس يستهينون به، بينما هو أشد خطرًا من الأجنبي، لأن العلاقة به تكون أكثر سهولة وقابلية للانزلاق في الحرام.
الأمر لا يقتصر على الأقارب فقط، بل يتعداه إلى دائرة الأصهار. فمن الأخطاء الشائعة في المجتمعات العربية، التساهل في العلاقة بين زوج الابنة وأمها، أو بين زوج الأخت وأفراد أسرتها، بحيث يصبح الأمر أشبه بعلاقة عائلية مفتوحة لا حدود لها، فتجد المزاح والضحك والحديث بلا ضابط، بل وأحيانًا تتساهل بعض العائلات في السماح بالخلوة بين الرجل وزوجة أخيه أو زوجة خاله، وهذا أمر خطير. قد لا يكون في ذلك نية سيئة من البداية، ولكن الشيطان لا يفتأ يُزيّن للناس خطواته، حتى يقعوا في المحظور. يقول النبي ﷺ: “لا يخلونَّ رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما”، وهذا تحذير واضح من أي علاقة غير منضبطة بين الجنسين، مهما بدا الأمر بريئًا في بدايته.
اليوم، مع انتشار مواقع التواصل الاجتماعي، أصبحت الحدود أكثر هشاشة، وأصبح الحديث بين الرجال والنساء أكثر سهولة، بل إن بعض النساء المتزوجات يقضين ساعات في الحديث مع رجال غرباء تحت مسمى “الصداقة” أو “العمل”، دون أن يشعرن بأنهن يتجاوزن الضوابط الشرعية. والإشكال الأكبر أن كثيرًا من الرجال فقدوا مفهوم “القوامة” داخل منازلهم، فلم يعد الزوج أو الأب أو الأخ قادرًا على وضع حدود لتصرفات نساء أسرته، بسبب ضغوط المجتمع أو التشويه الإعلامي لفكرة القوامة نفسها.
إن المرأة بلا قائد وقوام هي مشروع عابث، معرض للضياع في متاهات التجربة والخطأ، بينما الرجل الذي يترك أهله بلا توجيه أو حماية، هو رجل فقد أهم أدواره في هذه الحياة. لهذا، فإن القوامة ليست مجرد حق للرجل، بل هي مسؤولية ينبغي عليه تحملها، ولا ينبغي للمرأة أن تراها كقيد، بل كضمان لحياتها واستقرارها. ولو أن كل رجل قام بدوره في القوامة، وكل امرأة فهمت موقعها في الأسرة والمجتمع، لكان المجتمع أكثر انسجامًا، ولقلّت المشكلات الأخلاقية التي نشهدها اليوم نتيجة غياب هذه القيم.
ما يحدث في الغرب من تفكك أسري، وارتفاع معدلات الطلاق، وانتشار العلاقات غير المشروعة، هو دليل واضح على خطورة التفريط في هذه القيم. فبمجرد أن خرجت المرأة من حماية الأسرة إلى عالم يُعاملها كسلعة، وجدت نفسها في حالة من الضياع العاطفي والمادي، حيث يُطلب منها أن تكون مستقلة وقوية، لكنها في النهاية تُترك وحيدة في مواجهة تحديات الحياة دون دعم حقيقي.
ختامًا، من يريد العيش في مجتمع مستقر ومحافظ على أخلاقه، لا بد أن يتمسك بهذه المبادئ، وألا ينخدع بدعاوى التحرر الزائفة التي لم تزد المجتمع إلا اضطرابًا. الإسلام لم يحرم شيئًا إلا لحكمة، ولم يفرض شيئًا إلا لصالح الإنسان، ومن يظن أن هذه القيم قيود، فليتفكر في نتائج التفريط فيها، وليقارن بين مجتمعات حافظت على هذه الحدود، ومجتمعات تخلت عنها، وسيجد الجواب واضحًا كالشمس في رابعة النهار.ش