استقبال رمضان بقلوب وأرواح طاهرة

بقلم فضيلة الشيخ الدكتور : أيمن حمدى الحداد

 

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك، وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا محمداً عبدالله ورسوله، اللهم صلّ وسلم وبارك عليه حق قدره ومقداره العظيم وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين

أما بعد؛ فيا عباد الله: لقد مضى أكثر شعبان وأقترب رمضان، ويكاد الشوق أن يطير بقلوب المحبين، فكلما أقترب رمضان زاد حماسهم لاستقباله بقلوب وأرواح طاهرة، لعلمهم أن صيام رمضان من أجل الفرائض وأسماها فالصيام يخلو من الرياء والزهو والخيلاء، حيث لا يعلم به إلا رب الأرض والسماء، والصيام يُهذب النفس، ويكفها عن الشهوات، ويمنعها من الطغيان، ويبصرها بشدة ضعفها، وحاجتها إلى الطعام والشراب، وفى الصيام كسر للشهوات، وقمع للشيطان، وتضيق مسالكه بالجوع؛ فعن أنس بن مالك رضي الله عنه: قال رسول الله ﷺ: «إنَّ الشَّيطانَ يَجري مِن ابنِ آدمَ مَجرى الدَّمِ» رواه مسلم.

ومن أعظم وأجل فضائل الصيام أن الله عزّ وجل لم يطلع على ثوابه أحد من خلقه؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه: قال رسول الله ﷺ: «قال اللهُ عزَّ وجلَّ كلُّ عمَلِ ابنِ آدمَ له إلا الصيامَ فهو لِي وأنا أجزِي بِهِ إنَّمَا يتْرُكُ طعامَهَ وشَرَابَهُ مِن أجْلِي فصيامُهُ لَه وأنا أجزِي بِه» رواه البخارى ومسلم.

عباد الله: لقد كان أسلافنا الكرام رضي الله عنهم يجتهدون في استقبال شهر رمضان بقلوب وأرواح طاهرة؛ فكانوا يكثرون من ذكر الله عز وجل لأن الذكر أعظم ما تتطهر به القلوب والأرواح، وللذكر فضائل جليلة منها:

أولاً: ذكر الله عز وجل أفضل الأعمال، فعَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: «أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ، وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إِنْفَاقِ الذَّهَبِ وَالوَرِقِ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى، قَالَ: «ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى»رواه مسلم.

وعَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآنِ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ» رواه مسلم.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: «لَأَنْ أَقُولَ سُبْحَانَ اللهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَاللهُ أَكْبَرُ، أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْسُ» رواه مسلم.
وعَنْ جَابِر بنِ عبدِالله رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّﷺ، قَالَ: «مَنْ قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ العَظِيمِ وَبِحَمْدِهِ غُرِسَتْ لَهُ نَخْلَةٌ فِي الجَنَّةِ» رواه الترمذي.

ثانياً: ذكر الله عز وجل من أثقل ما يكون في ميزان العبد يوم القيامة؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: «كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ، ثَقِيلَتَانِ فِي المِيزَانِ، حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ: سُبْحَانَ اللَّهِ العَظِيمِ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ» رواه البخاري. وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ ﷺ، فَقَالَ: «أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَكْسِبَ كُلَّ يَوْمٍ أَلْفَ حَسَنَةٍ؟» فَسَأَلَهُ سَائِلٌ مِنْ جُلَسَائِهِ: كَيْفَ يَكْسِبُ أَحَدُنَا أَلْفَ حَسَنَةٍ؟ قَالَ:«يُسَبِّحُ مِائَةَ تَسْبِيحَةٍ، فَيُكْتَبُ لَهُ أَلْفُ حَسَنَةٍ، أَوْ يُحَطُّ عَنْهُ أَلْفُ خَطِيئَةٍ» رواه مسلم.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ:؛«مَنْ قَالَ: لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، كَانَتْ لَهُ عدْلَ عَشْرِ رِقَابٍ، وَكُتِبَتْ لَهُ مِائَةُ حَسَنَةٍ، وَمُحِيَتْ عَنْهُ مِائَةُ سَيِّئَةٍ، وَكَانَتْ لَهُ حِرْزًا مِنَ الشَّيْطَانِ يَوْمَهُ ذَلِكَ حَتَّى يُمْسِيَ، وَلَمْ يَأْتِ أَحَدٌ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ، إِلَّا أَحَدٌ عَمِلَ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ» رواه البخاري.

ثالثاً: من ذَكَرَ الله عز وجل ذكره الله؛ قال تعالى:﴿فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ﴾(البقرة: ١٥٢)، قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: اذْكُرُونِي فِيمَا افْتَرَضْتُ عَلَيْكُمْ أَذْكُرْكُمْ فِيمَا أَوْجَبْتُ لَكُمْ عَلَى نَفْسِي.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ ﷺ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَأٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً» رواه البخاري.
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: اذْكُرُونِي بِطَاعَتِي أَذْكُرْكُمْ بِمَغْفِرَتِ.

رابعاً: ذكر الله عز وجل من أعظم أسباب الطمأنينة القلبية والنفسية، قال تعالى:(الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ)(الرعد: ٢٨)، أي: بذكر الله وحده تطمئنُّ قلوب المؤمنين، ويزول القلق والاضطراب من خشيته، بما يفيضه عليها من نور الإيمان الذي يذهب الهلع والوحشة.

خامساً: ذكر الله عز وجل لا حد له، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾(الأحزاب: ٤١-٤٢)،

قَال الإمامُ القرطبي رحمهُ اللهُ:أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى عِبَادَهُ بِأَنْ يَذْكُرُوهُ وَيَشْكُرُوهُ، وَيُكْثِرُوا مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَا أَنْعَمَ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَجَعَلَ تَعَالَى ذَلِكَ دُونَ حَدٍّ؛ لِسُهُولَتِهِ عَلَى الْعَبْدِ، وَلِعِظَمِ الْأَجْرِ فِيهِ.

وقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ يُعْذَرْ أَحَدٌ فِي تَرْكِ ذِكْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ غُلِبَ عَلَى عَقْلِهِ.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أن رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «سَبَقَ الْمُفَرِّدُونَ»، قَالُوا: وَمَا الْمُفَرِّدُونَ؟ يَا رَسُولَ اللهِ، قَالَ:«الذَّاكِرُونَ اللهَ كَثِيرًا، وَالذَّاكِرَاتُ» رواه مسلم..
وعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ بُسْرٍ، أَنَّ رَجُلًا، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ شَرَائِعَ الإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ، فَأَخْبِرْنِي بِشَيْءٍ أَتَشَبَّثُ بِهِ، قَالَ:«لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ»
رواه الترمذي.

سادساً: ذكر الله عز وجل من أهم أسباب مغفرة الذنوب؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إِنَّ لِلَّهِ مَلاَئِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ»، قَالَ:«فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا»، قَالَ: «فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ، وَهُوَ أَعْلَمُ مِنْهُمْ: مَا يَقُولُ عِبَادِي؟ قَالُوا: يَقُولُونَ: يُسَبِّحُونَكَ، وَيُكَبِّرُونَكَ، وَيَحْمَدُونَكَ، وَيُمَجِّدُونَكَ»، قَالَ:«فَيَقُولُ: هَلْ رَأَوْنِي؟»، قَالَ: «فَيَقُولُونَ: لا وَاللَّهِ، مَا رَأَوْكَ؟»، قَالَ: «فَيَقُولُ: وَكَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي؟»، قَالَ:«يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً، وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا وَتَحْمِيدًا، وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا»، قَالَ:«يَقُولُ: فَمَا يَسْأَلُونِي؟»، قَالَ:«يَسْأَلُونَكَ الجَنَّةَ»، قَالَ:«يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟»، قَالَ:«يَقُولُونَ: لا وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا»، قَالَ: «يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا؟»، قَالَ: «يَقُولُونَ: لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ عَلَيْهَا حِرْصًا، وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا، وَأَعْظَمَ فِيهَا رَغْبَةً»، قَالَ:«فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟»، قَالَ:«يَقُولُونَ: مِنَ النَّارِ»، قَالَ:«يَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟»، قَالَ:«يَقُولُونَ: لاَ وَاللَّهِ يَا رَبِّ مَا رَأَوْهَا»، قَالَ:«يَقُولُ: فَكَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟»، قَالَ: «يَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْهَا فِرَارًا، وَأَشَدَّ لَهَا مَخَافَةً»، قَالَ:«فَيَقُولُ: فَأُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ لَهُمْ»، قَالَ:«يَقُولُ مَلَكٌ مِنَ المَلائِكَةِ: فِيهِمْ فُلانٌ لَيْسَ مِنْهُمْ؛ إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَةٍ»، قَالَ:«هُمُ الجُلَسَاءُ، لاَ يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ» رواه البخاري ومسلم.

وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ، قَالَ: مَنْ قَالَ: «سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ، حُطَّتْ خَطَايَاهُ، وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ البَحْرِ» رواه البخاري ومسلم..

وهذه رسالة إلى كل مسلم إذا أردت أن يدخل عليك رمضان، وقد صرت نقياً من ذنوبك فأكثر من ذكر الله عز وجل.

واعلموا عباد الله: أنه لابد من حضور القلب عند الذكر حتى ينتفع الذاكر لربه تبارك وتعالى بذكره

– قال ابن القيم رحمه الله: أفضل الذكر ما تواطأ عليه القلب واللسان، وإنما كان ذكر القلب وحده أفضل من ذكر اللسان وحده، لأن ذكر القلب يُثمرُ المعرفة، ويهيج المحبة، ويُثيرُ الحياء، ويبعثُ على المخافة، ويدعو إلى المراقبة، ويردع عن التقصير في الطاعات، والتهاون في المعاصي والسيئات وذكر اللسان وحده لا يوجب شيئاً من ذلك الإثمار، وإن أثمر شيئاً منها فثمرته ضعيفة.

وهذه بعض احوال الذاكرين لربهم تبارك وتعالى،

 – لقد وصف الإمام عليّ بن أبي طالب الصحابة رضي الله عنهم، فقال: كانوا إذا ذكروا الله عز وجل  مادُوا كما يميد الشجرُ في اليوم الشديد الريح،

وجرت دموعهم على ثيابهم .
يُراد مِنَ القَلبِ نِسيانُكُـــم
وتَأْبَــى الطِّباعُ على النَّاقِلِ

 ولقد كان بلال بن رباح رضى الله عنه كلَّما عذَّبه المشركون في الرمضاء على التوحيد يقول: أحدٌ أحدٌ، فإذا قالوا له قل: اللات والعُزَّى، قال: لا أحسنه.

  • وكان خالد بنُ معدان يُسبِّحُ كلَّ يوم أربعين ألف تسبيحة سوى ما يقرأ من القرآن، فلما مات وضع على سريره ليغسل، فجعل يُشير بأصبعه يُحركها بالتسبيح.

     

  • قال زهير البابي: إنَّ لله عباداً ذكروه، فخرجت نفوسُهم إعظاماً واشتياقاً، وقوم ذكروه، فوجِلَتْ قلوبهم فرقاً وهيبة، فلو حُرِّقوا بالنَّار، لم يجدوا مَسَّ النار، وآخرون ذكروه في الشتاء وبرده، فارفضّوا عرقاً من خوفه، وقومٌ ذكروه، فحالت ألوانهم غبراً، وقومٌ ذكروه، فجَفَّتْ أعينُهم سهراً.

  • وكان الحسن البصري كثيراً ما يقول إذا لم يُحدث، ولم يكن له شغل: سبحان الله العظيم ، فذكر ذلك لبعض فقهاء مكة، فقال: إنَّ صاحبكم لفقيه.

     

  • وكان عامةُ كلام ابن سيرين: سبحان الله العظيم، سبحان الله وبحمده.

     

  • ولقد نام أحدهم عند إبراهيم بن أدهم قال: فكنتُ كلَّما استيقظتُ من الليل، وجدتُه يذكر الله فأغتمّ، ثم أُعزِّي نفسي بهذه الآية: ﴿ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ﴾،

    كَيْفَ يَنسى المُحبُّ ذِكرَ حَبيبٍ

    اسمُــه فـي فُؤاده مَكتوبُ

فكلَّما قويت المعرفةُ، صار الذكرُ يجري على لسان الذاكر من غير كُلفة، حتى كان بعضهم يجري على لسانه في منامه: الله الله، ولهذا يُلهم أهلُ الجنة التَّسبيح، كما يُلهمون النفسَ، وتصيرُ «لا إله إلا الله» لهم، كالماء البارد لأهل الدنيا.

  • وكان أبو حفص النَّيْسابوري إذا ذكر الله تغيَّرت عليه حالُه حتى يرى ذلك جميع من عنده.

    وكان يقولُ: ما أظن محقاً يذكر الله عن غير غفلة، ثم يبقى حياً إلا الأنبياء، فإنَّهم أيدوا بقوَّة النبوَّة وخواصِّ الأولياء بقوَّة ولايتهم.

  • ماعز بن مالك الأسلمى يُجسد لنا حقيقة الذكر؛ فعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ جَاءَ مَاعِزُ بْنُ مَالِكٍ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِي، فَقَالَ: «وَيْحَكَ ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَتُبْ إِلَيْهِ» قَالَ: فَرَجَعَ غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِي، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ:«وَيْحَكَ ارْجِعْ فَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ وَتُبْ إِلَيْهِ» قَالَ: فَرَجَعَ غَيْرَ بَعِيدٍ ثُمَّ جَاءَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ طَهِّرْنِي، فَقَالَ النَّبيُّ ﷺ مِثْلَ ذَلِكَ حَتَّى إِذَا كَانَتِ الرَّابِعَةُ قَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:«فِيمَ أُطَهِّرُكَ؟» فَقَالَ مِنَ الزِّنَي، فَسَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ:«أَبِهِ جُنُونٌ؟» فَأُخْبِرَ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَجْنُونٍ فَقَالَ «أَشَرِبَ خَمْرًا» فَقَامَ رَجُلٌ فَاسْتَنْكَهَهُ فَلَمْ يَجِدْ مِنْهُ رِيحَ خَمْرٍ قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ :«أَزَنَيْتَ؟» فَقَالَ نَعَمْ. فَأَمَرَ بِهِ فَرُجِمَ فَكَانَ النَّاسُ فِيهِ فِرْقَتَيْنِ قَائِلٌ يَقُولُ لَقَدْ هَلَكَ لَقَدْ أَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ وَقَائِلٌ يَقُولُ مَا تَوْبَةٌ أَفْضَلَ مِنْ تَوْبَةِ مَاعِزٍ أَنَّهُ جَاءَ إِلَى النَّبِيِّ ﷺ فَوَضَعَ يَدَهُ فِي يَدِهِ ثُمَّ قَالَ اقْتُلْني بِالْحِجَارَةِ قَالَ فَلَبِثُوا بِذَلِكَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلاَثَةً ثُمَّ جَاءَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وَهُمْ جُلُوسٌ فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ فَقَالَ: «اسْتَغْفِرُوا لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ» قَالَ: فَقَالُوا غَفَرَ اللَّهُ لِمَاعِزِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لَقَدْ تَابَ تَوْبَةً لَوْ قُسِمَتْ بَيْنَ أُمَّةٍ لَوَسِعَتْهُمْ»رواه مسلم.

    فتأمل يرحمك الله كيف كانت حقيقة الذكر بعد الذنب، إن ماعز تذكر أنه أخطأ فى حق ربه جل وعلا، إنه تذكر عذاب الله في الآخرة فهان عليه الموت رجماً بالحجارة ولم يستطع النوم حتى يعترف بجريرته ويُقام عليه الحد؛ قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ﴾(الأعراف: ٢٠١)، وهذه رسالة إلى كل المسلمين هل ذكرتم الله بالحقيقة أم أن ذكركم لله جل وعلا، ما زال مقصوراً على عمل اللسان فقط؟!

  • وعَنِ عَبْدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ لَقَدْ سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ حَدِيثًا لَوْ لَمْ أَسْمَعْهُ إِلَّا مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ حَتَّى عَدَّ سَبْعَ مِرَارٍ وَلَكِنْ قَدْ سَمِعْتُهُ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ قَالَ: «كَانَ الْكِفْلُ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا يَتَوَرَّعُ مِنْ ذَنْبٍ عَمِلَهُ فَأَتَتْهُ امْرَأَةٌ فَأَعْطَاهَا سِتِّينَ دِينَارًا عَلَى أَنْ يَطَأَهَا فَلَمَّا قَعَدَ مِنْهَا مَقْعَدَ الرَّجُلِ مِنْ امْرَأَتِهِ أَرْعَدَتْ وَبَكَتْ فَقَالَ مَا يُبْكِيكِ أَكْرَهْتُكِ قَالَتْ لَا وَلَكِنْ هَذَا عَمَلٌ لَمْ أَعْمَلْهُ قَطُّ وَإِنَّمَا حَمَلَنِي عَلَيْهِ الْحَاجَةُ قَالَ: فَتَفْعَلِينَ هَذَا وَلَمْ تَفْعَلِيهِ قَطُّ قَالَ: ثُمَّ نَزَلَ فَقَالَ اذْهَبِي فَالدَّنَانِيرُ لَكِ ثُمَّ قَالَ: وَاللَّهِ لَا يَعْصِي اللَّهَ الْكِفْلُ أَبَدًا فَمَاتَ مِنْ لَيْلَتِهِ فَأَصْبَحَ مَكْتُوبًا عَلَى بَابِهِ قَدْ غَفَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِلْكِفْلِ»رواه الترمذي وأحمد.

إن الكفل قد تاب وأقسم ألا يعصى الله أبداً فمات فى نفس الليلة فغفر الله له، وهذه رسالة إلى كل عاصٍ لا تسوف بل بادر بالتوبة لا سيما وأنت تستعد لاستقبال شهر رمضان، وطهر قلبك وروحك.

وأسالك بربك ماذا لو أن الكفل لم يتب، وقال سوف أتوب فيما بعد كما نقول نحن ومات من ليلته؟!

 

  • وعن الفضل بن موسى قال: كان الفُضَيْلُ بنِ عِيَاضٍ شاطراً يقطع الطريق بين أبيورد وسرخس، وكان سبب توبته أنه عشق جارية، فبينما هو يرتقى الجدران إليها، إذ سمع تالياً يتلو: ﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ﴾، فلما سمعها قال: بلى يا رب قد آن، فرجع فآواه الليل إلى خربة، فإذا فيها سائل، فقال بعضهم: نرتحل، وقال بعضهم: حتى نصبح، فإن فضيلاً على الطريق يقطع علينا، قال: ففكرت وقلت: أنا أسعى بالليل في المعاصي وقوم من المسلمين هاهنا يخافونني، وما أرى الله ساقني إليهم إلا لأرتدع، اللهم إني قد تبت إليك وجعلت توبتي مجاورة البيت الحرام.. تهذيب الكمال.

لقد سمع الفضيل رضي الله عنه قول الله تعالى:﴿أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ﴾ فلما سمعها قال: بلى يا رب قد آن، وتاب وعاد،
وأنت أخى كم مرة سمعت هذه الآية ولم تؤثر فى قلبك، ولم تحملك على التوبة حتى وأنت تستعد لاستقبال شهر رمضان؟!
فطهر قلبك وروحك استعداداً لاستقبال رمضان ولا تسوف وتضيع وتفوت على نفسك الفرصة.

  • قال أبو سلمة الغنوي: قلت لأَبِي العَتَاهِيَةِ: ما الذي صرفك عن قول الغزل إلى قول الزهد قال إذًا والله أخبرك إني لما قلت؛

    الله بيني وبين مولاتي
    أهدت لي الصد والملالات
    منحتها مهجتي وخالصتي
    فكان هجرانها مكافاتي
    هيمني حبها وصيرني
    أحدوثة في جميع جاراتي

    رأيت في المنام في تلك الليلة كان آتياً أتاني فقال: ما أصبت أحداً تدخله بينك وبين عتبة، يحكم لك عليها بالمعصية إلا الله تعالى، فانتبهت مذعوراً وتبت إلى الله تعالى من ساعتي من قول الغزل.. تاريخ بغداد.

لقد كان أبوالعتاهية يحب إمرأة اسمها عتبة حباً شديداً، وكان يتغزل فيها لكنه تاب وأناب حتى عُرف بشاعر الزهد، إنه ترك محبوبتة من أجل ربه جل وعلا، وهذه رسالة إليك عبدالله وأنت تستعد لاستقبال رمضان هل بادرت بالتوبة وتركت كل ما تحب من الأهواء والمعاصي من أجل ربك تبارك وتعالى؟!

فاتقوا الله عباد الله: وأحسنوا الإستعداد لرمضان بعمل الصالحات، وأكثروا من ذكر ربكم جل وعلا وتوبوا إلى الله واستغفروه من ذنوبكم يغفر لكم

اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم بلغنا رمضان سنين عديدة وأزمنة مديدة، واجعلنا فيه من المقبولين، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *