الشعوبية: حقدٌ عميقٌ بين صفحات التاريخ وصمودٌ عربيٌّ لا يزول

بقلم : محمد نجيب نبهان ( كاتب وناقد و باحث تاريخي )

منذ أن بزغت شمس الحضارات الإنسانية، توزّعت الشعوب على طيفٍ واسع من الازدهار أو التخلف، النهوض أو الركود. كانت الجزيرة العربية قبل الإسلام، رغم تحدياتها البيئية القاسية، موطنًا لحضارة متجذرة، ولشعبٍ حمل في جيناته الثقافية مزيجًا من الكرامة والعزة والمهارة التجارية والقدرة على الإدارة. ورغم ما يُشاع عن الصحراء والبدو، فإن العرب آنذاك امتلكوا مقومات الهوية الحضارية، التي نهضت فيما بعد على أكتاف الإسلام.
ولكن مقابل هذه الصورة المشرقة، عاشت الشعوبية كمصطلح وممارسة، تجسد حقدًا دفينًا تجاه العرب الذين أضاءوا التاريخ، بينما ظلت مجتمعات أخرى غارقة في ظلمات التبعية والاستبداد.

النهضة العربية قبل الإسلام: بين الأسطورة والواقع

إن الادعاء بأن العرب قبل الإسلام كانوا مجرد قبائل متناثرة بدائية يفتقر إلى أدنى درجات الدقة العلمية والتاريخية. المدن العربية مثل مكة والمدينة والطائف ومأرب كانت مراكز اقتصادية وسياسية بارزة.

مكة، على سبيل المثال، مثلت نقطة ارتكاز للتجارة العالمية بفضل موقعها الاستراتيجي بين الشمال والجنوب، كما كانت الكعبة المشرفة مركزًا للديانة والروحانية.

الرحّالة الإغريقي سترابو أشار في كتاباته إلى أن العرب امتلكوا شبكةً تجاريةً متطورة، تسيّر القوافل التي تحمل البضائع الثمينة مثل اللبان والبخور والحرير.

وعلى الجانب الجنوبي، ساهمت حضارة سبأ ومعين وحمير في بناء نظام زراعي متقدم، حيث كان سد مأرب مثالًا على عبقرية الهندسة العربية.

في المقابل، كانت الشعوب الشعوبية تعيش في الكهوف والغابات، وتعتمد على الصيد البدائي والتجمعات الصغيرة التي تفتقر إلى أي شكل من أشكال التنظيم السياسي أو الاقتصادي. المؤرخ هيرودوت وصف هذه المجتمعات بأنها “مجموعات تعيش على أطراف الحضارة، لا تساهم فيها بشيء، ولا تفهم قوانينها.”

القيم الأخلاقية: التباين بين العرب والشعوبيين

رغم قسوة الطبيعة الصحراوية، طوّر العرب منظومة أخلاقية متكاملة تتسم بالكرم والوفاء والشجاعة والنخوة.

كانت القبائل العربية تُقدّر حماية الضيف، حتى لو كان عدوًا، وتعتبر الكرم مقياسًا للشرف.

أما الشعوب الشعوبية، فقد شهدت عادات مروعة تنبئ عن تخلف أخلاقي عميق.
ففي فترات المجاعات، كانت تلك الشعوب تأكل لحوم البشر، كما وثّق المؤرخ الروماني بليني الأكبر.
وفي الوقت الذي استخدم فيه العرب بول الإبل كدواء، وهو ما أكدته الدراسات العلمية الحديثة بقدرته على علاج بعض الأمراض، كانت بعض الشعوب الشعوبية تشرب دماء الحيوانات وروثها في طقوس بدائية.

الإسلام: الثورة الحضارية التي قادها العرب

عندما بعث الله النبي محمد صلى الله عليه وسلم، كان العرب مهيئين لتحمل هذه الرسالة العظيمة.

الإسلام لم يكن فقط دينًا روحانيًا، بل كان مشروعًا حضاريًا عالميًا استطاع العرب من خلاله توحيد القبائل وبناء دولة عظيمة امتدت من المحيط الأطلسي إلى حدود الصين.

المستشرقة الألمانية زيغريد هونكه في كتابها “شمس العرب تسطع على الغرب” أشارت إلى أن العرب المسلمين قدموا للعالم مفهومًا جديدًا للحرية والعدالة والمساواة. فالفتح الإسلامي لم يكن غزوًا بالمعنى التقليدي، بل كان تحريرًا للشعوب من طغيان الإمبراطوريات المستبدة.

في ظل الحكم الإسلامي، ازدهرت بغداد ودمشق والقاهرة كمراكز للعلم والثقافة. تأسس بيت الحكمة في بغداد كمركز عالمي للترجمة والبحث العلمي، حيث نُقلت علوم الإغريق والفرس والهنود، وأُعيدت صياغتها بأسلوب علمي رصين.

الشعوبية كحركة مضادة للحضارة

مع توسع الحضارة الإسلامية، ظهرت الشعوبية كردة فعل من بعض الشعوب التي كانت ترى في الإسلام تهديدًا لهوياتها القومية. هذه الحركة استهدفت العرب بشكل خاص، باعتبارهم قادة المشروع الإسلامي. المستشرق الفرنسي رينان وصف الشعوبية بأنها “أزمة نفسية ثقافية تواجه الشعوب المهزومة، تحاول من خلالها إعادة بناء كرامتها الوهمية عبر التقليل من شأن المنتصرين.”

الشعوبيون لم يكتفوا بمعاداة العرب، بل سعوا إلى تشويه إنجازاتهم. هذا الحقد الدفين استمر حتى اليوم، حيث يروج البعض لمزاعم واهية حول التخلف العربي، متناسين أن العرب هم من وضعوا أسس العلم الحديث.

العلم والفلسفة في الحضارة الإسلامية

من أبرز إنجازات العرب المسلمين أنهم لم يكتفوا بنقل العلوم، بل أضافوا إليها وطوروها. الفيلسوف العربي ابن رشد أعاد تفسير فلسفة أرسطو، وقدم للعالم منهجًا علميًا جديدًا. أما الطبيب ابن سينا، فقد أسس الطب الحديث من خلال كتابه القانون في الطب، الذي اعتمدته الجامعات الأوروبية لقرون.

في حين كان العرب يكتبون المؤلفات وينشرون العلم، كانت الشعوبية تعيش في ظلال التخلف، عاجزة عن اللحاق بركب الحضارة. المستشرقة كارين أرمسترونغ أكدت أن العالم مدين للعرب والمسلمين بفضل إنجازاتهم العلمية والفكرية.

الشعوبية اليوم: وجه جديد للحقد القديم

في العصر الحديث، لبست الشعوبية قناعًا جديدًا يتمثل في التغريب الثقافي. هؤلاء الشعوبيون يتبنون خطابًا مستوردًا من الغرب، يهاجمون فيه العرب والإسلام باسم التقدم والحداثة.

لكن المفارقة أن هذا الخطاب لا يعدو كونه محاولة لإخفاء عقدة النقص التاريخية. المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي أشار إلى أن الشعوبية هي “حالة من التراجع الثقافي والفكري التي تجعل الشعوب تنكر فضل الآخرين بدلاً من السعي للحاق بهم.”

العرب والشعوبية: صراع الإرث والتاريخ

رغم كل محاولات الشعوبية لتشويه صورة العرب، فإن الحقائق التاريخية ثابتة لا تتغير. العرب، بحضارتهم الإسلامية، أسسوا نظامًا عالميًا جديدًا، قائمًا على العدالة والمساواة. حتى في أحلك فترات التخلف، ظل العرب يحملون في ذاكرتهم الجمعية إرثًا حضاريًا عظيمًا.

إلى الشعوبيين نقول: “إن محاولاتكم لتشويه العرب ليست سوى صرخة في وجه التاريخ. العرب الذين قادوا العالم يومًا سيعودون ليؤكدوا أن الحضارة لا تُبنى بالحقد، بل بالعمل والإبداع.

اترك تعليقاً