ماركوس الإسكندري: من الراهب القبطي إلى الصوفي المسلم .. قصة رحلة روحية استثنائية

بقلم الشيخ : مصطفى زايد ( الباحث فى الشأن الصوفى ) 

في تاريخ الإنسانية، تبرز قصص أفراد خاضوا رحلات روحية غيرت حياتهم تمامًا، وجعلتهم جسورًا للتواصل بين ثقافات وأديان مختلفة. واحدة من هذه القصص هي قصة ماركوس الإسكندري، الراهب القبطي الذي تحول من حياة الزهد في الديانة المسيحية إلى اعتناق الإسلام والانضمام إلى التصوف.

قصة ماركوس ليست مجرد سرد لتحول ديني، بل هي رحلة بحث عن الحقيقة المطلقة، وسعي للارتقاء الروحي الذي قاده إلى عوالم جديدة من المحبة والسلام الداخلي.

في هذا المقال، سنستعرض تفاصيل حياته قبل الإسلام ، رحلته إلى القدس، لقاءه بالصوفية، تحوله للإسلام، وتأثيره العميق في التصوف الإسلامي.

حياة ماركوس قبل التحول

نشأ ماركوس في مدينة الإسكندرية، في حي قبطي أرثوذكسي ، كان الابن الأكبر لعائلة متدينة، وتلقى تعليمه الأولي في الكنيسة. منذ صغره، أظهر ماركوس شغفًا كبيرًا بالدين، ما دفعه للانضمام إلى الدير ليصبح راهبًا.

في الدير، درس الكتب المقدسة واللاهوت، وأمضى سنوات في الصلاة والتأمل، ملتزمًا بتعاليم الكنيسة الصارمة.

لكن، على الرغم من انضباطه الديني، كان ماركوس يشعر بفراغ داخلي، وكأن شيئًا ما ينقصه.

بدأ يسأل نفسه عن معنى المحبة الحقيقية، وعن سبب التوترات الدينية بين الطوائف المختلفة، وعن غاية الإنسان في الحياة. هذه الأسئلة أشعلت في داخله رغبة في البحث عن أجوبة تتجاوز حدود ما تعلمه في الدير.

رحلته إلى القدس

دفعه عطشه للمعرفة إلى السفر إلى القدس، التي كانت في ذلك الوقت ملتقى للديانات المختلفة.

أراد أن يقترب أكثر من الأماكن المقدسة، ويعيش تجربة روحية مختلفة. أثناء وجوده هناك، التقى بمجموعة من المسلمين الصوفيين الذين كانوا في زيارة إلى المسجد الأقصى.

جذبته بساطة هؤلاء الصوفيين وهدوء أرواحهم ، كانوا يتحدثون عن الله بلغة مليئة بالمحبة والسلام، بعيدًا عن الجدل العقائدي الذي كان معتادًا عليه ، بدأت بينهم وبين ماركوس نقاشات طويلة عن جوهر الدين، وعن كيف أن الله قريب من عباده إذا توجهوا إليه بقلوب صادقة.

اللقاء مع الصوفية

كان من بين الصوفيين الذين التقى بهم ماركوس الشيخ عبد الرحمن الكرخي، الذي كان شيخًا معروفًا بتواضعه وعمق فهمه للتصوف. تحدث عبد الرحمن مع ماركوس عن التوحيد، وعن أن الدين ليس مجرد طقوس وشعائر، بل هو علاقة حب وسلام بين العبد وربه.

في إحدى الليالي، دعاه الشيخ عبد الرحمن لحضور حلقة ذكر في بيت أحد أتباعه ، كانت تلك التجربة نقطة تحول في حياة ماركوس ، أثناء الذكر، شعر بسلام داخلي لم يعهده من قبل ، رأى في كلمات الصوفيين وأفعالهم تجسيدًا لما كان يبحث عنه طوال حياته.

التحول إلى الإسلام

بعد أشهر من الحوار والدراسة، أعلن ماركوس إسلامه ، اختار لنفسه اسم عبد الله، تعبيرًا عن حالته الجديدة كعبد لله الذي وجد ضالته. لم يكن هذا القرار سهلًا، حيث واجه معارضة شديدة من مجتمعه السابق.

بعد إسلامه، بدأ عبد الله دراسة القرآن والحديث بجدية. كان يبحث عن كل ما يعمق فهمه للدين الجديد. وجد في الإسلام إجابات شافية عن الأسئلة التي كانت تؤرقه، خاصة تلك المتعلقة بمعنى الحياة والغرض من الوجود.

الرحلة إلى بغداد

بعد إسلامه، قرر عبد الله السفر إلى بغداد، التي كانت في ذلك الوقت مركزًا للتصوف الإسلامي.

هناك التقى بالشيخ الجنيد البغدادي، أحد أعظم شيوخ الصوفية في التاريخ الإسلامي. أصبح عبد الله تلميذًا للجنيد، وبدأ يتعلم منه أصول التصوف، وكيفية الوصول إلى الله من خلال المحبة والزهد والخلوة.

الجنيد كان له تأثير عميق على عبد الله ، علّمه أن التصوف ليس مجرد طريق روحي، بل هو أسلوب حياة يتطلب التواضع والصبر والإخلاص. تحت إشراف الجنيد، تعمق عبد الله في دراسة التصوف، وبدأ في نشر تعاليمه بين الناس.

تأثيره على التصوف الإسلامي

أصبح عبد الله الإسكندري، كما كان يُعرف بعد إسلامه، شخصية محورية في التصوف الإسلامي.

كان يركز في تعاليمه على فكرة الحب الإلهي، وعلى أن الله قريب من كل من يتوجه إليه بصدق.

نشر عبد الله تعاليمه من خلال القصص والحكايات، مما جعلها سهلة الفهم وقريبة من قلوب الناس.

كان يقول إن الدين هو علاقة شخصية بين العبد وربه، وأن المحبة هي أساس كل شيء.

إرث عبد الله الإسكندري

بعد وفاته، استمر تأثير عبد الله من خلال تلاميذه الذين نقلوا تعاليمه إلى أجيال لاحقة. يعتبره الكثيرون أحد الشخصيات التي ساهمت في تقريب الإسلام إلى غير المسلمين، من خلال أسلوبه الفريد في الدعوة.

ختاما 

قصة ماركوس الإسكندري، أو عبد الله، هي شهادة حية على أن البحث عن الحقيقة يمكن أن يقود الإنسان إلى عوالم جديدة وغير متوقعة. إنها قصة عن الشجاعة في مواجهة التغيير، وعن قدرة الإيمان والمحبة على تحويل حياة الإنسان.

تظل رحلته من المسيحية إلى الإسلام عبر بوابة التصوف مصدر إلهام لكل من يسعى إلى السلام الداخلي والمعرفة الروحية.

المصادر التي تحدثت عن ماركوس الإسكندري

١ – كتاب “تاريخ الصوفية في الإسلام” للشيخ عبد الرحمن الجامي، صفحة ١٢٠.

٢ –  كتاب “رحلة الأرواح” للكاتب يوسف الكيلاني، صفحة ٧٥.

٣ –  مخطوطات “سيرة عبد الله الإسكند


ري” المحفوظة في مكتبة بغداد الوطنية.

٤ –  كتاب “التصوف بين المسيحية والإسلام” للباحث محمود زيدان، صفحة ٤٣.

٥ –  كتاب “تاريخ الإسكندرية الروحي” للكاتب نجيب عوض، صفحة ١٠٢.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *