دعوة الإسلام إلى سلامة الصدر
21 يناير، 2025
منبر الدعاة

بقلم فضيلة الدكتور : رزق ندا
أمام وخطيب بوزارة الأوقاف
لاشك أن الدين الإسلامى بسماحته ووسطيته قد جاء ليعلى من شأن الإنسان والإنسانية .
فما من خير إلا ودعا الناس إليه لأنه يفيدهم فى دينهم ودنياهم وآخرتهم . ومامن شر أو سوء إلا وحذر الناس منه .
ومن المحاسن الأخلاقية التى دعا إليها الإسلام . دعوته إلى سلامة الصدر .
فما هو الصدر ؟ وما معناه ؟
الصَّدر: أعلى مُقَدَّمِ كُلِّ شيءٍ، وكلُّ ما واجَهَكَ صَدْرٌ، وصَدْرُ القَناةِ أعلاها ، وصَدْرُ الأمر أوَّلُه، كصَدْرُ النَّهارِ واللَّيْلِ ، وصَدْرُ الشِّتاءِ والصَّيفِ ، وما أشْبَه ذلك .
وصَدْرُ الإِنسانِ : الجزء الممتدُّ من أسفل العنق إلى فضاء الجوف ، وجمعُه : صُدورٌ ، وسمِّي القلب صَدْرًا لحلوله به ، وفي التَّنزيل العزيز : ” قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللّهُ ” [آل عمران: 29] .
معنى سلامة الصَّدر اصطلاحًا :
قال الشَّوكاني : ( وأما سَلَامة الصَّدر ، فالمراد به : عدم الحقد والغل والبغضاء ) .
فسليم القلب والصَّدر هو من سَلِم وعُوِفي فؤاده من جميع أمراض القلوب وأَدْوَائها ، ومن كلِّ آفة تبعده عن الله تبارك وتعالى .
ولقد رغب الله عز وجل في كتابه الكريم عبادة على سلامة الصدور .
قال ابن رجب : ( أفضل الأعمال سَلَامة الصَّدر من أنواع الشَّحْناء كلِّها ، وأفضلها السَّلَامة من شحناء أهل الأهواء والبدع ، التي تقتضي الطَّعن على سلف الأمَّة، وبغضهم والحقد عليهم ، واعتقاد تكفيرهم أو تبديعهم وتضليلهم ، ثمَّ يلي ذلك سَلَامة القلب من الشَّحْناء لعموم المسلمين ، وإرادة الخير لهم ، ونصيحتهم ، وأن يحبَّ لهم ما يحبُّ لنفسه ، وقد وصف الله تعالى المؤمنين عمومًا بأنَّهم يقولون : ” وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ” [الحشر: 10]) .
وقال تبارك وتعالى -: ” وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَـذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ” [الأعراف: 43].
ففي هذه الآية الكريمة ، يبيِّن الله تبارك وتعالى أنَّ سَلَامة الصَّدر ونقاء القلب من أمراضه والتي منها الغِلُّ . صفة من صفات أهل الجنَّة ، وميزة من ميزاتهم ، ونعيم يتنعمون به يوم القيامة .
وقال تبارك وتعالى في موضع آخر من كتابه الكريم : ” وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ” [الحجر: 47]
وكما رغب القرآن الكريم رغبت أيضا السنة النبوية على سلامة الصدور .
عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( لا يُبَلِّغُنِي أحدٌ من أصحابي عن أحدٍ شيئًا ، فإنِّي أحبُّ أن أخرج إليكم وأنا سَلِيم الصَّدر )) .
هذا الحديث يكشف عن مدى اهتمام المصطفى صلى الله عليه وسلم بسَلَامة صدره ، فهو ينهى ويحذِّر من أن يُنْقَل إليه ما يُوغِر صَدْره ، ويغيِّر قلبه تجاه أصحابه الكرام ، رضوان الله عليهم أجمعين .
قال المباركفوري شارحًا لهذا الحديث : قوله : ( لا يُبَلِّغُنِي ) أي : لا يوصلني ، ( من أحد ) ، أي : من قبل أحد. ( شيئًا ). أي : مما أكرهه وأغضب عليه ، وهو عامٌّ في الأفعال والأقوال ، بأن شتم أحدًا وآذاه ، قال فيه خصلة سوء ، ( فإنِّي أحبُّ أن أخرج إليهم ) ، أي : من البيت وأُلَاقيهم . ( وأنا سليم الصَّدر ) أي : من مساويهم. قال ابن الملَك : والمعنى: أنَّه صلى الله عليه وسلم يتمنَّى أن يخرج من الدُّنيا وقلبه راض عن أصحابه ، من غير سخط على أحد منهم .
وعن محمَّد بن كعب ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنَّ أوَّل من يدخل من هذا الباب ، رجل من أهل الجنَّة ، فدخل عبد الله بن سَلاَمِ ، فقام إليه ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه بذلك ، وقالوا : أخْبِرْنا بأوثق عملٍ في نفسك ترجو به ، فقال : إنِّي لضعيف ، وإنَّ أوثق ما أرجو به الله سَلَامة الصَّدر ، وترك ما لا يعنيني ) .
وهنا يذكر عبد الله بن سَلَام رضي الله عنه أنَّه لم يكن له كثير عمل استحق علية شهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنَّة ، إلَّا أنَّ أرجى عمل وأوثقه لديه هو : أنَّه كان سليم الصَّدر مشتغل عما لا يعنيه .
فوائد سلامة الصدر .
1 – من أعظم فوائد سَلَامة الصَّدر: أنَّها سبيل لدخول الجنَّة ، فهي صفة من صفات أهلها ، ونعت من نعوتهم ، قال تعالى : ” يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ” [الشُّعراء 88-89].
2- أنَّها تكسو صاحبها بحلَّة الخيريَّة ، وتلبسه لباس الأفضلية ، كما في حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما – أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم قَالَ : (خير النَّاس ذو القلب المخْمُوم واللِّسان الصَّادق، قيل : ما القلب المخْمُوم؟ قال : هو التَّقِيُّ النَّقِيُّ الذي لَا إثم فيه ، ولَا بَغْي ولَا حسد ، قيل : فمن على أَثَــرِه؟ قال: الذي يَشْنَأُ الدُّنيا ويحبُّ الآخرة قيل : فمن على أَثَرِهِ؟ قال: مؤمن في خُلُق حسن ).
3- أنَّها تجمع القلب على الخير والبِرِّ والطَّاعة والصَّلاح ، فلا يجد القلب راحة إلا فيها ، ولا تقرُّ عين المؤمن إلا بها .
4- أنَّها تزيل العيوب، وتقطع أسباب الذُّنوب ، فمن سَلِم صدره ، وطَهُر قلبه عن الإرادات الفاسدة، والظُّنون السَّيئة ، عفَّ لسانه وجوارحه عن كلِّ قبيح .
5- ومن الفوائد أيضًا : أنَّ فيها اقتداء بالنَّبي صلى الله عليه وسلم وتأسِّيًا به ، فهو بأبي هو وأمي صلَّى الله عليه وسلم – أسلم النَّاس صدرًا ، وأطيبهم قلبًا ، وأصفاهم سريرة .
نماذج من الصَّحابة لسلامة الصَّدر .
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنَّا جلوسًا مع الرَّسول صلى الله عليه وسلم فقال: (يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنَّة ، فطلع رجل من الأنصار ، تَنْطِفُ لحيته من وضوئه ، قد تَعَلَّق نَعْلَيه في يده الشِّمال ، فلمَّا كان الغد ، قال النَّبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فطلع ذلك الرَّجل مثل المرَّة الأولى ، فلمَّا كان اليوم الثَّالث ، قال النَّبي صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضًا ، فطلع ذلك الرَّجل على مثل حاله الأولى ، فلمَّا قام النَّبي صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص ، فقال : إنِّي لَاحَيْت أبي فأقسمت ألَّا أدخل عليه ثلاثًا ، فإن رأيت أن تُـؤْوِيَني إليك حتَّى تمضي ، فَعلتَ . فقال : نعم .
قال أنس : وكان عبد الله يحدِّث أنَّه بات معه تلك الليالي الثَّلاث ، فلم يره يقوم من اللَّيل شيئًا ، غير أنَّه إذا تعارَّ وتقلَّب على فراشه ، ذَكَر الله عزَّ وجلَّ وكبَّر حتَّى يقوم لصلاة الفجر ، قال عبد الله : غير أنِّي لم أسمعه يقول إلَّا خيرًا. فلمَّا مضت الثَّلاث ليال ، وكدت أن أحتقر عمله ، قلت : يا عبد الله ، إنِّي لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هَجْرٌ ، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ثلاث مِرَار : يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنَّة ، فطلعت أنت الثَّلاث مِرَار ، فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك ، فأقتدي به ، فلم أرك تعمل كثير عملٍ ، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : ما هو إلا ما رأيت ، غير أنِّي لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غِشًّا ، ولا أحسد أحدًا على خير أعطاه الله إياه . فقال عبد الله : هذه التي بلغت بك ، وهي التي لا نطيق ) .
وعن زيد بن أسلم ، أنَّه دخل على ابن أبي دُجانة ، وهو مريض ، وكان وجهه يتهلَّل ، فقال له : ما لك يتهلَّل وجهك؟ قال : ما من عملِ شيءٍ أوثق عندي من اثنين : أمَّا أحدهما ، فكنت لا أتكلَّم بما لا يعنيني ، وأما الأُخْرى : فكان قلبي للمسلمين سليمًا .-
وأُثِر عن أبي الدَّرداء رضي الله عنه أنَّه كان يدعو لسبعين من أصحابه ، يسمِّيهم بأسمائهم ، وهذا العمل علامة على سَلَامة الصَّدر .
وقد كان أبو موسى الأشعري صوَّامًا قوَّامًا ، ربَّانيًّا ، زاهدًا، عابدًا ، ممَّن جمع العلم والعمل والجهاد وسَلَامة الصَّدر ، لم تغيره الإمارة، ولا اغترَّ بالدُّنيا
الوسائل المعينة على اكتساب سَلَامة الصَّدر .
1- الإخلاص لله -تبارك وتعالى- وهذا تصديقًا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي رواه ابن مسعود رضي الله عنه قال: (( ثلاث لا يَغِلُّ عليهنَّ قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمَّة المسلمين، ولزوم جماعتهم؛ فإنَّ الدَّعوة تحيط من ورائهم )) .
قال ابن الأثير : إنَّ هذه الخِلال الثَّلاث تُسْتَصلح بها القلوب، فمن تمسَّك بها طَهُر قلبه من الخيانة والدَّخل والشَّر .
2- الإقبال على كتاب الله تعالى قراءةً وتعلُّمًا وتعليمًا ، فهو شفاء لما في الصُّدور ، كما قال الله تعالى : ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ” [يونس: 57].
3- الدُّعاء ، فهو العلاج النَّاجع والدَّواء النَّافع ، فيدعو العبد مولاه أن يجعل قلبه سليمًا من الضغائن والأحقاد على إخوانه المؤمنين ، قال الله تعالى : ” وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ” [الحشر: 10].
4- التَّخلُّق بالأخلاق التي تزيد من المحبَّة والألفة بين المؤمنين ، كالبَشَاشة والتَّبَسُّم ، وإفشاء السَّلام ، وإهداء الهديَّة وغيرها ، فإنَّ هذه الأخلاق كفيلة بانتزاع سخيمة القلوب ، وأعْلَاق الصُّدور ، فتصبح نقيَّة صافية .
5- الابتعاد عن كلِّ ما من شأنه أن يفسد الوُدَّ ، ويعكِّر صفو الصُّدور ، فيبتعد المؤمن عن الأخلاق الرَّديَّة ، كالحسد والغلِّ والحقد والظَّنِّ السَّيئ وغيرها .
6- رضا العبد بما قسمه الله تعالى ، قال ابن القيِّم : إنَّ الرِّضا يفتح له باب السَّلَامة ، فيجعل قلبه سليمًا نقيًّا من الغشِّ والدَّغل والغلِّ ، ولا ينجو من عذاب الله إلَّا من أتى الله بقلب سَلِيم ، كذلك وتستحيل سَلَامة القلب مع السَّخط وعدم الرِّضا ، وكلَّما كان العبد أشدَّ رضى ، كان قلبه أسلم .
وفى الختام أحبتى أدعو الله تبارك وتعالى أن يشرح لنا صدورنا وييسر لنا أمورنا . إنه سميع قريب مجيب .