التصوف بين طهارة الروح وتشويه الجهلاء وافتراء المغرضين: الحقيقة التي يجب أن تُقال

بقلم : محمد نجيب نبهان ( كاتب وناقد و باحث تاريخي )

التصوف بين طهارة الروح وتشويه الجهلاء وافتراء المغرضين: الحقيقة التي يجب أن تُقال

التصوف، ذلك الطريق الروحي السامي الذي ينطلق من قلب الإنسان المتطلع إلى الله، يتجاوز حدود الظواهر المادية ليغوص في أعماق المعاني التي تربط بين المخلوق وخالقه.

فالتصوف في جوهره ليس مجرد طقوس أو شعائر سطحية، بل هو سعي مستمر في طاعة الله، تهذيب النفس، وصقل الروح، لبلوغ مقام الإحسان الذي يميز المؤمن الحق. ويكفي أن يذكر المسلم حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن الإحسان في قوله: “أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك” [صحيح مسلم].

هذا الحديث الشريف، الذي يتحدث عن مقام الإحسان، هو جوهر التصوف، حيث لا يقتصر الأمر على القيام بالعبادات فحسب، بل يمتد ليشمل تمامًا كيفية النظر إلى الله في كل لحظة من لحظات الحياة.

ومع مرور الزمن، تعرض التصوف لموجات من التحريف والشوائب التي كانت سببًا في تشويه صورته الطاهرة.

ففي الوقت الذي كان فيه التصوف، كما جسده كبار علماء ومشايخ أهل العلم، أداة لتقريب القلوب إلى الله، كانت هناك بعض الممارسات التي خرجت عن روح التصوف وسعت لإظهاره بشكل مخالف لطبيعته. وقد بدأ بعض الجهلة، الذين تبنوا دعوى التصوف، في ممارسة طقوس غريبة لا علاقة لها لا من قريب ولا من بعيد بالشرع أو بالعلم الذي أسس له كبار المتصوفة. في هذا المقال، سنتناول هذه الممارسات المشوهة، وكيف أنها أضرت بفهم الناس للتصوف، كما سنتعرض إلى دور المغرضين في نشر هذه الصورة السلبية.

التصوف: علم، عمل، وإحسان

من المهم في البداية أن نفهم أن التصوف ليس أمرًا عاطفيًا أو سلوكيًا عابرًا، بل هو علم متمدد عبر العصور، أسسه علماء كبار هم في طليعة العلماء الإسلاميين. التصوف الحقيقي هو “علم العمل” أو “علم الإحسان”، كما قال الإمام الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين. التصوف ليس من أجل البحث عن كرامات خارقة أو المبالغة في الأفعال التي تعكس فقط الغرور أو الذاتية، بل هو فن التعلق بالله تعالى، والتفاعل معه في كل مرحلة من مراحل الحياة.

قال ابن تيمية: “أهل التصوف هم أتباع النبي صلى الله عليه وسلم في عبادته وفي جميع أعماله”، مؤكداً بذلك أن التصوف قائم على اتباع الكتاب والسنة.

يقول الإمام الجنيد البغدادي: “التصوف هو علم قائم على التواضع والتسليم لأمر الله”، وهنا يظهر التصوف في صورته الحقيقية كطريق للإنسانية في تعاملها مع الله، وهي مسألة تتطلب التزامًا أخلاقيًا وفكريًا كاملًا. فإن لم يكن العلم بكتاب الله وسنة رسوله هو أساس التصوف، فلا يمكن الحديث عن تصوف حقيقي. فكما قال الإمام الشافعي: “من لا علم له بالكتاب والسنة، لا مكان له في هذا الطريق”.

ممارسات الجهلة وأثرها السلبي على التصوف

ولكن للأسف، تشوهت صورة التصوف بفعل بعض أدعياء التصوف الجهلة الذين قاموا بممارسات غريبة كان الهدف منها إظهار أنفسهم وكأنهم على درجة من القرب الروحي الخاص، لكنهم في الواقع وقعوا في مخالفة صريحة للشرع والعقل. ومن أبرز هذه الممارسات:

ضرب النفس بالأسياخ المعدنية (الشيش): البعض من الذين ادعوا التصوف اختاروا أن يعذبوا أنفسهم، ظنًا منهم أن هذا سيكون دليلاً على قوتهم الروحية وكراماتهم. هذا النوع من الأفعال لا علاقة له بتصوف حقيقي، بل هو إضرار بالنفس مخالف لما جاء في القرآن الكريم: “ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيمًا” [النساء: 29].

المشي على الزجاج أو أكله: يروج بعض المتعصبين أن هذا نوع من البرهنة على “الكرامات” التي يمتلكها البعض. هذه الأفعال تُعَدُّ تشويهاً لمفهوم التصوف، فالهدف ليس إثبات الكرامات عبر الأذى، بل إقامة عبودية خالصة لله.

الوضوء بالزيت المغلي: في هذا السياق، نجد بعض من يزعمون أنهم متصوفون يمارسون طقوسًا متطرفة مثل الوضوء بالزيت المغلي، وهي ممارسة تتنافى مع روح الإسلام، الذي يدعو للحفاظ على صحة الإنسان والابتعاد عن الإضرار بالنفس، كما جاء في الحديث الشريف: “لا ضرر ولا ضرار” [صحيح مسلم].

تجد في هذه التصرفات محاولة لإثبات الكرامات الباطلة التي لا تليق بروح التصوف. بل إن التصوف الحقيقي لا يحتاج إلى إظهار هذه الأفعال كدليل على الإيمان، بل هو سعي دائم لتحصيل العلم والعمل بالحق.

الصوفيون الحقيقيون وموقفهم من الجهلة

النقاد الحقيقيون للتصوف هم من يلتزمون بمعايير الشريعة، ويُقدِّرون العلماء والمرشدين الصادقين الذين رسخوا في مجال العلم. وقد أكد العلماء الحقيقيون مثل الإمام الغزالي والجيلاني على أن التصوف ليس سعيًا لتحقيق الكرامات، بل هو سعي لتحقيق التواضع والصفاء الداخلي. الإمام الغزالي نفسه كان يرفض بشدة المبالغة في هذه الأفعال وقال: “من ظن أن تصوفه يتحقق بالمشاق البدنية فهو في ضلال”.

وقد وصف الإمام عبد القادر الجيلاني، في كتابه الفتح الرباني، التصوف بأنه “طريق التسليم لله”، مشددًا على أن التصوف هو التزام قلبي خالص لله تعالى، وعمل روحي من أجل تنقية النفس، وهذا يتنافى تمامًا مع الممارسات التي تُظهر الشخص وكأنما هو يعبث في جهل مع نفسه ومع غيره.

المغرضون وتأثيرهم على التصوف

بغض النظر عن هذه الممارسات الجاهلية، هناك أيضًا من يروجون لتشويه التصوف برمته عن عمد. هؤلاء المغرضون هم الذين يستغلون هذه الممارسات الخاطئة ليروجوا لفكرة أن التصوف كله مناقض للإسلام. التيارات الوهابية على وجه الخصوص، التي تنكر التصوف وتعتبره بدعة، حاولت دائمًا ربط كل ممارسة خاطئة تمارس باسم التصوف بالتصوف نفسه، مستغلة جهل الناس بهذا العلم وأصوله.

من المهم أن نذكر أن التصوف لم يكن أبدًا خاليًا من النقد العلمي، فقد مر عبر العصور بتحديات، ولكن النقاد العقلاء كانوا دائمًا يفرقون بين التصوف الأصيل وبين الممارسات الشاذة.

ورغم ذلك، تجد بعض الفرق تلتقط الأخطاء الفردية لتلصقها بالتصوف، مدعية أن هذا هو التصوف الصحيح، بينما كان كبار العلماء من أمثال الإمام البخاري، والإمام مسلم، وابن تيمية، وغيرهم، يشهدون على أن التصوف الحق هو ما يتوافق مع الكتاب والسنة ويخلو من الشرك والبدع.

التصوف والفلسفة الروحية العميقة

التصوف ليس فقط تعبيرًا عن عبادات وفروض دينية، بل هو أيضًا فلسفة حياة. فالتصوف يجسد معنى التسليم التام لله، ويعني البحث عن الحقيقة الروحية من خلال التأمل في الكون، والاعتراف بعظمة الخالق. كما يقول الفيلسوف المسلم ابن رشد: “العقل الإنساني قادر على الوصول إلى الحقيقة، وإذا تمكن الإنسان من تفهم نفسه، فإنه يمكنه أن يلتقي بعظمة الخالق في كل شيء”.

يقول الإمام ابن عربي في كتابه الفتوحات المكية: “الحقيقة هي نور الله الذي يتجلى في خلقه، والإنسان متى تعمق في فهم هذا النور، تم له الوصول إلى أعظم الأسرار”. التصوف هنا ليس مجرد تطهير روحي، بل هو أيضًا تأمل فلسفي يقود إلى الاعتراف بوحدة الوجود والاعتراف بوجود الله في كل شيء، وهذا يفتح للإنسان أبوابًا من الفهم والتعمق.

الحفاظ على نقاء التصوف

نظراً لهذه الحقائق، من الضروري أن نتذكر أن التصوف الحق لا يعني التشدد في الطقوس أو الانحراف عن الموازين الشرعية.

بل هو الالتزام الصادق بما جاء في الكتاب والسنة، والتعلق بالله من خلال السلوك القويم. لذلك، يجب على المسلمين أن يعوا حقيقة التصوف ويفرقوا بينه وبين الممارسات الشاذة التي تشوه صورته.

إن التصوف هو سعي مستمر لتطهير النفس من الرغبات الدنيوية، والسعي للأسمى في العلاقة مع الله، وهو يشكل طيفًا واسعًا من الفضائل، ومنها السعي للعلم، والتواضع، والتقوى، والعدالة، والرحمة. فالتصوف الحقيقي هو أن يكون الإنسان قلبًا وروحًا مشرقًا بالله، يحمل في قلبه أسمى معاني العبادة والمحبة الإلهية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *