العلماء المسلمون: تفنيد مغالطة العلمانيين في رفض تسمية المشايخ بالعلماء
8 يناير، 2025
العلمانية وغزو بلاد العرب

بقلم : محمد نجيب نبهان ( كاتب وناقد و باحث تاريخي )
العلماء المسلمون: تفنيد مغالطة العلمانيين في رفض تسمية المشايخ بالعلماء
في خضم النقاشات الفكرية في العالم العربي، برزت أصوات علمانية تنادي بحصر لقب “العلماء” على من يعملون في مجالات العلوم الطبيعية والمادية، مثل الطب والفيزياء والكيمياء، في حين ينتقصون من علماء الدين ويرفضون تسميتهم بـ “العلماء”. هذه الفكرة، رغم شيوعها في الأوساط العلمانية الشرقية، تتناقض مع الفهم الشامل للعلم كمنظومة متكاملة تسعى لفهم الإنسان والكون، كما تتجاهل السياقات التاريخية والفلسفية التي أعلت من شأن العلم بشتى مجالاته. في هذا المقال، سنتناول هذه المغالطة من زوايا متعددة: دينية، فلسفية، تاريخية، وعلمية، مع إبراز أهمية علماء الدين في الحضارة الإسلامية ودورهم في بناء المجتمع.
العلم في السياق الإسلامي: نظرة شمولية
القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة يقدمان تصورًا شموليًا للعلم. في قوله تعالى: “يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ” (سورة المجادلة: 11)، يتضح أن الله سبحانه وتعالى لم يحدد نوع العلم المرفوع، بل أطلقه ليشمل كل معرفة منظمة تسهم في الارتقاء بالإنسان. كذلك، أكد سيدنا النبي محمد صلى الله عليه وسلم أهمية العلم بقوله: “طلب العلم فريضة على كل مسلم”، دون تخصيص مجال معين، مما يعني أن العلم في الإسلام يشمل كل ما يثري العقل ويرفع من شأن الإنسان.
علماء الإسلام لم يقصروا جهودهم على علوم الشريعة فقط، بل ساهموا بشكل فعال في تطوير العلوم الطبيعية والإنسانية. مفهوم “العالم” في الإسلام لم يكن يومًا مقتصرًا على تخصص محدد؛ بل إن الفقهاء والمفسرين كانوا في ذات الوقت فلكيين، أطباء، وفلاسفة. على سبيل المثال، الإمام الغزالي، رغم كونه عالم دين بارزًا، أسهم في نقد الفلسفة اليونانية ووضع أسسًا معرفية أثرت في الفكر الغربي لاحقًا.
النظرة الفلسفية: العلم كمنظومة متكاملة
النظريات الفلسفية الكبرى تؤكد أن العلم ليس محصورًا في الجانب المادي فقط. الفيلسوف اليوناني أرسطو، الذي كان من أوائل من صنفوا العلوم، قسمها إلى علوم نظرية (مثل الفلسفة والرياضيات)، وعلوم عملية (مثل الأخلاق والسياسة)، وعلوم منتجة (مثل الفنون والصناعات). هذا التصنيف يؤكد أن جميع فروع المعرفة تسهم في فهم الحياة والارتقاء بها. لاحقًا، تطور هذا المفهوم في الفلسفة الإسلامية، حيث اعتبر الفارابي وابن سينا أن العلوم كلها تهدف إلى الوصول إلى الحقيقة المطلقة، سواء أكانت هذه الحقيقة متعلقة بالوجود المادي أم المعنوي.
إيمانويل كانط، أحد أعظم فلاسفة العصر الحديث، أشار في كتابه “نقد العقل الخالص” إلى أهمية التكامل بين المعرفة الحسية والعقلية والميتافيزيقية لفهم الكون. هذا التصور يدحض الفكرة القائلة بأن العلوم المادية فقط هي التي تستحق أن تحمل لقب “العلم”. وفقًا لكانط، العلوم الإنسانية، بما في ذلك اللاهوت، جزء لا يتجزأ من بناء العقل البشري.
الشواهد التاريخية: علماء الدين كرواد للمعرفة
الحضارة الإسلامية تقدم أمثلة غنية على شمولية العلم. ابن سينا، المعروف في الغرب بـ “أفيسينا”، كان طبيبًا وفيلسوفًا وفقيهًا في آن واحد. كتابه “القانون في الطب” ظل مرجعًا أساسيًا في الطب لأكثر من خمسة قرون في أوروبا. ابن الهيثم، مؤسس علم البصريات، كان أيضًا متدينًا وعالمًا في الفقه. الخوارزمي، مبتكر علم الجبر، كان على دراية واسعة بعلوم القرآن والشريعة.
هذه الشخصيات وغيرها تعكس أن علماء الدين في الإسلام لم يكونوا منعزلين عن باقي العلوم، بل ساهموا في تطويرها ووضع أسسها. علم أصول الفقه، على سبيل المثال، يُعتبر من أكثر العلوم منهجية، حيث يعتمد على التحليل المنطقي والاستدلال العقلي، وهي مهارات تستخدم في البحث العلمي الحديث.
النظريات العلمية والإنسانية: دور علماء الدين
في عصرنا الحديث، النظريات العلمية والإنسانية تعزز أهمية العلوم غير المادية. علم النفس، على سبيل المثال، يركز على فهم العقل والروح، وهي موضوعات قريبة من عمل علماء الدين. كارل يونغ، عالم النفس السويسري، أشار إلى أن الدين والروحانيات يلعبان دورًا جوهريًا في تكوين الإنسان وفهمه لذاته. هذا يعني أن علماء الدين يساهمون في معالجة قضايا نفسية واجتماعية معقدة لا تستطيع العلوم المادية وحدها حلها.
النظريات الاجتماعية، مثل نظرية “النسق الاجتماعي” لتالكوت بارسونز، تؤكد أهمية التوازن بين الأبعاد المادية والروحية في المجتمع. علماء الدين يقومون بدور حيوي في هذا النسق، حيث يقدمون القيم والأخلاق التي تنظم العلاقات الإنسانية وتحقق التوازن الاجتماعي.
رفض العلماء الدينيين: أثره السلبي على المجتمع
رفض تسمية المشايخ بـ “العلماء” ليس مجرد انتقاص من مكانتهم، بل يعكس أزمة أعمق في النظرة إلى العلم والمعرفة. هذا الرفض يؤدي إلى تهميش العلوم الإنسانية والدينية، مما يخلق فجوة في التعامل مع قضايا المجتمع المعقدة. على سبيل المثال، الأزمات النفسية والوجودية التي يعاني منها الإنسان الحديث لا يمكن معالجتها بالعلوم المادية فقط، بل تحتاج إلى إرشاد أخلاقي وروحي يقدمه علماء الدين.
علاوة على ذلك، هذا التمييز بين “العلماء” و”المشايخ” يخلق انقسامًا فكريًا يعطل تكامل المعرفة، وهو التكامل الذي كان أساسًا لنهضة الحضارة الإسلامية. المجتمعات التي تقدمت، سواء في الشرق أو الغرب، هي التي احترمت جميع فروع العلم واعتبرتها مكملة لبعضها البعض.
نحو فهم متكامل للعلم
إن محاولة العلمانيين لحصر مفهوم “العالم” في العلوم المادية تعبر عن ضيق أفق معرفي وتجاهل للسياقات التاريخية والفلسفية. العلماء المسلمون، سواء كانوا في مجال الشريعة أو الطبيعة، ساهموا في بناء حضارة متكاملة لا تزال آثارها قائمة حتى اليوم. العلم، في جوهره، ليس مجرد أدوات وتجارب، بل هو رحلة لفهم الإنسان والكون والحقيقة. ولذلك، فإن احترام العلماء في مختلف المجالات، بما في ذلك علماء الدين، ضرورة لتعزيز التوازن الفكري والاجتماعي وتحقيق النهضة الحضارية.