التغريب وأثره على الهوية العربية: خطر فقدان الانتماء وأحاديث قلة العرب في آخر الزمان
7 يناير، 2025
العلمانية وغزو بلاد العرب

بقلم : محمد نجيب نبهان ( كاتب وناقد و باحث تاريخي )
التغريب وأثره على الهوية العربية: خطر فقدان الانتماء وأحاديث قلة العرب في آخر الزمان
منذ بدايات الاستعمار الغربي للعالم العربي، تعرضت الهوية العربية والإسلامية لهجمات مستمرة هدفت إلى فصل المجتمعات العربية عن جذورها الثقافية والحضارية. هذه الهجمات أخذت أشكالًا متعددة، بدءًا من تغريب الفكر والثقافة، مرورًا بالترويج لفكرة “الحداثة” الغربية، وصولًا إلى تقليل الانتماء للعروبة عبر وسائل سياسية وفكرية معقدة. ومع تزايد هذه المحاولات، تظهر أهمية الرجوع إلى الأحاديث النبوية التي تحدثت عن قلة العرب في آخر الزمان، محذرة من تراجع دورهم وأثرهم الحضاري.
التغريب: استراتيجية مدروسة لتفكيك الهوية العربية
التغريب ليس مجرد تأثير ثقافي طارئ، بل هو سياسة ممنهجة بدأت مع الحقبة الاستعمارية حين عمدت القوى الغربية إلى نشر أفكار ترى في الثقافة العربية الإسلامية عائقًا أمام “التقدم”. بدأ ذلك بنشر نظم تعليمية جديدة، استهدفت اللغة العربية والقيم الدينية واستبدلتها بمفاهيم غربية، تلاها تغيير في البنية الاجتماعية والثقافية للمجتمعات العربية.
تجلى هذا التأثير في التحولات التي طرأت على الأجيال الجديدة في البلدان المستعمرة، حيث بات الكثير منهم يرون في القيم الغربية نموذجًا للنجاح والتطور، في مقابل تهميش للثقافة العربية الإسلامية باعتبارها تراثًا قديمًا لا يتماشى مع العصر.
من منظور فلسفي، يمكن النظر إلى التغريب باعتباره تطبيقًا لنظرية “التشييء” التي أشار إليها كارل ماركس في تحليله الرأسمالي، حيث تُعامل الثقافات المحلية كسلع يمكن استبدالها، مع ترويج النظام الرأسمالي الغربي كبديل شامل. هنا، تصبح الهوية العربية مجرد عنصر في سوق ثقافي عالمي، يتم تهميشه أو بيعه لصالح منتجات “ثقافية” غربية.
الماسونية ودورها في نشر التغريب
أحد أبرز اللاعبين في مشروع التغريب كانت الحركة الماسونية، التي ظهرت كجزء من منظومة عالمية تسعى إلى تفكيك الهويات الثقافية والدينية للشعوب لصالح أيديولوجيا عالمية تخدم المصالح الغربية. الماسونية استهدفت المجتمعات العربية عبر الترويج لأفكار الإلحاد، والعلمنة المفرطة، واحتقار التراث العربي.
مقولة القسيس “لافيجيري” الشهيرة: “قولوا لهم لستم عربًا وسيتركون الإسلام”، تُلخص بوضوح هذه الاستراتيجية. الهدف كان زرع الشكوك في النفوس حول الانتماء العربي والإسلامي، مما يجعل هذه المجتمعات أكثر تقبلًا للثقافة الغربية، وأقل تمسكًا بهويتها الأصلية.
الفيلسوف الألماني ماكس فيبر تحدث عن نزع القداسة عن العالم كجزء من مشروع الحداثة الغربية، وهو ما يمكن إسقاطه على عملية التغريب في العالم العربي.
وفقًا لهذه النظرية، يتم استبدال الأنظمة الثقافية التقليدية بنظم جديدة تخدم المصلحة الاقتصادية والسياسية للقوى الكبرى، مع تحييد الهوية الأصلية.
عقدة الخواجة: نموذج التغريب في المجتمعات العربية
إحدى أبرز نتائج التغريب هي ما يُعرف بـ”عقدة الخواجة”، حيث يتبنى البعض أفكار الغرب ونماذج حياته على حساب ثقافتهم الأصلية. هذه العقدة تعبر عن شعور بالنقص أمام الغرب، وتجعل الإنسان العربي يسعى لتقليد كل ما هو غربي دون وعي نقدي.
في بعض البلدان العربية، نجد أمثلة صارخة لهذه الظاهرة، مثل استبدال اللغة العربية باللغات الأجنبية في التعليم والحياة اليومية، وتبني أنماط حياة غربية تتعارض مع القيم والتقاليد العربية. بل وصل الأمر إلى إنكار البعض انتماءهم للعروبة، كما يحدث في سوريا، حيث يزعم بعضهم أنهم “آراميون” أو “سريان”، أو في لبنان حيث تروج بعض التيارات لفكرة الهوية الفينيقية، أو حتى في مصر والمغرب حيث ينكر البعض الانتماء العربي لصالح هويات فرعونية أو أمازيغية.
قلة العرب في آخر الزمان: الأحاديث النبوية والتحليل
الأحاديث النبوية حذرت من قلة العرب في آخر الزمان، ليس فقط من حيث العدد، بل من حيث الدور الحضاري والتأثير الثقافي. في الحديث الذي رواه المستورد بن شداد ـ رضي الله عنه ـ قال:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تقوم الساعة والروم أكثر الناس”. (صحيح مسلم).
هذا الحديث يشير إلى أن العرب سيصبحون قلة مقارنة بأمم أخرى كالروم (الغربيين)، سواء من حيث العدد أو التأثير. التفسير التاريخي والديني لهذا الحديث يتصل بتراجع دور العرب ثقافيًا وديموغرافيًا بسبب التفكك السياسي والاجتماعي، إضافة إلى فقدان الهوية الثقافية نتيجة التغريب والصراعات الداخلية.
حديث “ويل للعرب من شر قد اقترب”
كذلك، جاء في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري ومسلم عن زينب بنت جحش ـ رضي الله عنها ـ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
“ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه” وأشار بأصبعه.
هذا الحديث ينبئ بأزمات قادمة ستواجه الأمة العربية، وقد تكون هذه الأزمات سياسية أو ثقافية أو حتى وجودية، حيث يُفهم منه أن العرب سيواجهون تراجعًا شديدًا في دورهم الحضاري.
التغريب وأثره في قلة العرب
إذا أضفنا التغريب كعامل حديث، فإننا نجد أنه ساهم بشكل كبير في تحقيق هذه النبوءة. ففقدان الهوية الثقافية يؤدي إلى ضعف الانتماء، وبالتالي تراجع الحماس للحفاظ على التراث العربي والإسلامي. ومن هنا، فإن التغريب يمكن اعتباره أحد أشكال التهديد التي تساهم في تقليل العرب من حيث الدور والتأثير.
على المستوى الفلسفي، يمكن اعتبار التغريب أداة لتحقيق “الهيمنة الثقافية” التي تحدث عنها أنطونيو غرامشي، حيث يتم فرض ثقافة مهيمنة على الشعوب المستعمَرة كجزء من نظام السيطرة. العرب هنا ليسوا فقط ضحايا لقلة عددية، بل لتهميش حضاري شامل.
استعادة الهوية مسؤولية الجميع
إن التحديات التي تواجه الأمة العربية اليوم تتطلب وعيًا جماعيًا للتصدي للتغريب وآثاره المدمرة. الأحاديث النبوية ليست فقط تحذيرات، بل هي دعوات للعمل على إعادة إحياء الهوية العربية والإسلامية، والحفاظ على مكانة العرب كجزء من أمة الإسلام.
لا يمكن إنكار أن التغريب والماسونية وعقدة الخواجة كلها عوامل ساهمت في تفكيك الهوية العربية، لكن الحل يبدأ من الاعتزاز بالثقافة العربية، وإعادة بناء الوعي المجتمعي بأهمية العروبة كعنصر أساسي في الحضارة الإسلامية. كما أن استيعاب النظريات الفلسفية حول “الهوية” و”الهيمنة الثقافية” يمكن أن يكون نقطة انطلاق لإعادة تشكيل الفكر العربي المعاصر واستعادة دوره الريادي.