الصوفية: جوهر الروحانية الإسلامية وطريق الزهد والتوكل
28 ديسمبر، 2024
منهج الصوفية

بقلم : محمد نجيب نبهان ( كاتب وناقد و باحث تاريخي )
الصوفية ليست مجرد مدرسة فكرية أو مذهبية، بل هي منهج تعبدي وروحي عميق يتجلى في محبة الله والسعي للارتقاء بالنفس الإنسانية إلى مقامات الإحسان.
فقد عرّف النبي ﷺ الإحسان في الحديث الشريف بقوله: “أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك” (رواه مسلم).
وهذا التعريف يعبر بوضوح عن روح التصوف التي تسعى لتحقق العبد في حضرة الله، متجردًا عن شواغل الدنيا، منصرفًا إلى ذكر الله وعبادته بحب وخشوع.
وقد نُقل عن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله – وهو أحد أبرز أئمة السلف أنه أشاد بأحوال الصوفية ووصفهم بأفضل الناس، مما يعكس اعترافه بدورهم في حفظ البعد الروحي للإسلام.
في هذا المقال، نسلط الضوء على جوانب متعددة من الصوفية ونؤكد أصالتها ومكانتها، مدعومة بالشواهد من الكتاب والسنة وآثار العلماء.
الإمام أحمد والصوفية: موقف ثناء وإقرار
من الروايات التي نقلت عن الإمام أحمد أنه قال عن الصوفية: “لا أعلم على وجه الأرض أقوامًا أفضل منهم”.
هذه العبارة جاءت في سياق استفسارات عن حال الصوفية الذين يجلسون في المساجد على سبيل التوكل، فكان جوابه أن انشغالهم بالله وانصرافهم عن الدنيا لا يدل على جهل أو ضعف، بل هو اختيار واعٍ يعبّر عن حبهم لله وثقتهم برزقه.
وعندما وُصف له حالهم في السماع والذكر، قال: “دعوهم يفرحون مع الله ساعة”. هنا يظهر فهم الإمام أحمد العميق لأحوالهم، فهو لم ينظر إلى مظاهر الفرح والسماع كأمر مبتدع، بل رأى فيها تعبيرًا عن الفرح بالله، وهو مقصد شرعي مستنبط من قوله تعالى: “قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا ۚ هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ” (يونس: 58).
هذه المواقف من الإمام أحمد تُبرز وعيه بأن التصوف الحقيقي هو تربية للنفس، وأن مظاهره ليست انحرافًا عن الدين بل تعبير عن مقامات روحانية سامية.
الصوفية والزهد في الدنيا
قال النبي ﷺ: “ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس” (رواه ابن ماجه). هذه القاعدة النبوية تجد تجسيدها الكامل في حياة الصوفية، الذين وصفهم الإمام أحمد بأنهم لا يطلبون من الدنيا سوى “كسرة خبز وخرقة”، أي أن حاجتهم للدنيا مقتصرة على الضروريات التي تحفظ حياتهم.
الزهد عند الصوفية ليس انقطاعًا عن العمل، بل هو انصراف القلب عن التعلق بالدنيا، وهو ما أشار إليه النبي ﷺ بقوله: “ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تُبسط الدنيا عليكم كما بُسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، فتهلككم كما أهلكتهم” (رواه البخاري).
الصوفية فهموا هذا الحديث فابتعدوا عن زخارف الدنيا، ليس هربًا منها، بل حفاظًا على صفاء قلوبهم، وصدق توجههم نحو الله.
السماع والذكر: وسيلة للفرح بالله
السماع والتواجد من أبرز مظاهر الصوفية التي أثارت جدلًا بين الفقهاء، لكن الإمام أحمد كان له موقف واضح حين قال: “دعوهم يفرحون مع الله ساعة”. هذا الموقف ينبع من فهمه العميق لمعنى الفرح بالله، الذي أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: “وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ” (البقرة: 165).
الصوفية لا يرون السماع مجرد طقس أو عادة، بل وسيلة لتحفيز القلوب على حب الله، والتفاعل مع ذكره بحالة من الخشوع والانجذاب الروحي. وقد وصف الصحابة أنفسهم أحوالًا مشابهة، كما قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: “من ذاق عرف”.
السماع عند الصوفية ليس مجرد استماع للألحان أو الكلمات، بل هو تفاعل مع معاني الذكر والتوحيد التي تذيب القلب في محبة الله، وقد ينجم عنه التواجد أو البكاء أو الفرح، وكلها حالات تدل على حضور القلب مع الله.
فرح الصوفية بالله: تجلٍّ لحقيقة الإيمان
الفرح بالله هو قمة الشعور الذي يسعى إليه المؤمنون، وقد وصفه الله في قوله: “فَإِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً ۚ” (النساء: 77). الصوفية جعلوا هذا الفرح محور حياتهم، حيث يتلذذون بالعبادة والذكر، ويستشعرون قرب الله في كل لحظة.
وقد يُغشى على بعضهم أثناء الذكر لشدة تأثرهم، أو قد يموتون كما رُوي عن بعضهم، وهذا مصداق لقوله تعالى: “وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ” (الزمر: 47).
التصوف في ضوء الكتاب والسنة
التصوف ليس بدعة محدثة، بل هو امتداد لمنهج النبي ﷺ في تحقيق الإحسان. وقد ورد في الحديث القدسي: “من عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب” (رواه البخاري). الصوفية يسعون ليكونوا من أولياء الله بتحقيق معاني العبادة والمحبة والزهد، وهو ما يجعل طريقهم محط احترام وتقدير من علماء الأمة.
التصوف: روح الإسلام ومقاصده
التصوف هو التعبير الأسمى عن روح الإسلام، حيث يجمع بين العبادة الظاهرة والتربية الباطنة.
الصوفية جعلوا قلوبهم محل نظر الله، فعملوا على تطهيرها من الحسد والغل والكبر، ملتزمين بوصية النبي ﷺ: “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه” (رواه البخاري).
إن هذه المدرسة الروحية لم تكن انحرافًا عن الدين، بل كانت عودة إلى جوهره، إلى ما دعا إليه النبي ﷺ حين قال: “إن الله يحب العبد التقي الغني الخفي” (رواه مسلم).
خاتمة
الصوفية تمثل بعدًا روحانيًا أصيلًا في الإسلام، يسعى لتجديد العلاقة بين العبد وربه بعيدًا عن صخب الدنيا وزخرفها. إشادة الإمام أحمد بهم دليل على أنهم كانوا على نهج قويم، يهدف إلى تزكية القلوب وترسيخ معاني الزهد والتوكل.
إننا اليوم بحاجة ماسة إلى استلهام معاني التصوف الحقيقي في حياتنا، لنحقق التوازن بين العمل والروح، وبين العبادة والنية، وبين الدنيا والآخرة. التصوف ليس مجرد طقوس، بل هو مدرسة تربوية شاملة تعيد للإنسان صلته بخالقه في أعمق صورها.