الانتفاع والتبرك بالصالحين بعد مماتهم؛ كالانتفاع والتبرك بهم في حياتهم!

بقلم: خادم الجناب النبوي الشريف
د/ محمد إبراهيم العشماوي
أستاذ الحديث الشريف وعلومه في جامعة الأزهر الشريف

وصفني بعضهم بأنني قبوري؛ لمجرد أنني أحب زيارة قبور الصالحين، وأنتفع بها روحيا، وأجد فيها أنسي وراحتي؛ ولأن الله شرفني بأن أكون من أهل العلم؛ فلا أفعل شيئا ولا أتركه إلا ببينة، وقد ثبتت لدي البينة على صحة زيارة قبور الصالحين للانتفاع والتبرك بهم، عن أعلام الأمة ومحققيها من أهل السنة، فإن كان هؤلاء قبوريين أو مبتدعين؛ فأنا مثلهم!

قال حجة الإسلام الإمام الغزالي، (الشافعي)، في (الإحياء):

“زيارة القبور مستحبة على الجملة؛ للتذكر والاعتبار، وزيارة قبور الصالحين؛ لأجل التبرك مع الاعتبار، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور، ثم أذن في ذلك بعد”.

وقال الإمام النووي، (الشافعي) أيضا، في (روضة الطالبين):

“يجوز للمسلم والذمي الوصية لعمارة المسجد الأقصى وغيره من المساجد، ولعمارة قبور الأنبياء والعلماء والصالحين؛ لما فيها من إحياء الزيارة، والتبرك بها”.

وقال الإمام ابن عابدين، (الحنفي)، في (رد المحتار):

” قال الخير الرملي: “إن كان ذلك – أي زيارة النساء للقبور – لتجديد الحزن والبكاء والندب – على ما جرت به عادتهن -؛ فلا تجوز، وعليه حمل حديث «لعن الله زائرات القبور».

وإن كان للاعتبار، والترحم – من غير بكاء – والتبرك بزيارة قبور الصالحين؛ فلا بأس، إذا كن عجائز، ويكره إذا كن شواب، كحضور الجماعة في المساجد. اهـ”. وهو توفيق حسن”.

وقال الإمام ابن الحاج، (المالكي)، في (المدخل) – وقد ألفه لمحاربة البدع -:

“ثم يتوسل بأهل تلك المقابر – أعني بالصالحين منهم – في قضاء حوائجه، ومغفرة ذنوبه، ثم يدعو لنفسه ولوالديه ولمشايخه ولأقاربه ولأهل تلك المقابر ولأموات المسلمين ولأحيائهم وذريتهم إلى يوم الدين ولمن غاب عنه من إخوانه، ويجأر إلى الله تعالى بالدعاء عندهم، ويكثر التوسل بهم إلى الله تعالى؛ لأنه سبحانه وتعالى اجتباهم وشرفهم وكرمهم، فكما نفع بهم في الدنيا ففي الآخرة أكثر، فمن أراد حاجة فليذهب إليهم ويتوسل بهم؛ فإنهم الواسطة بين الله تعالى وخلقه، وقد تقرر في الشرع وعلم ما لله تعالى بهم من الاعتناء، وذلك كثير مشهور، وما زال الناس من العلماء والأكابر، كابرا عن كابر، مشرقا ومغربا؛ يتبركون بزيارة قبورهم، ويجدون بركة ذلك حسا ومعنى، وقد ذكر الشيخ الإمام أبو عبد الله بن النعمان – رحمه الله – في كتابه المسمى (بسفينة النجاء لأهل الالتجاء في كرامات الشيخ أبي النجاء)، في أثناء كلامه على ذلك؛ ما هذا لفظه: “تحقق لذوي البصائر والاعتبار؛ أن زيارة قبور الصالحين محبوبة لأجل التبرك مع الاعتبار؛ فإن بركة الصالحين جارية بعد مماتهم كما كانت في حياتهم، والدعاء عند قبور الصالحين، والتشفع بهم؛ معمول به عند علمائنا المحققين من أئمة الدين. انتهى”.

وأما كيفية الانتفاع والتبرك بهم وهم أموات؛ فقال الإمام فخر الدين الرازي في (المطالب)، في الفصل الثالث عشر، في بيان كيفية الانتفاع بزيارة القبور والموتى:

“إن الإنسان إذا ذهب إلى قبر إنسان قوي النفس، كامل الجواهر، ووقف هناك ساعة، وحصل تأثير في نفسه، حين حصل من الزائر تعلق بزيارة تلك التربة؛ فلا يخفى أن لنفس ذلك الميت تعلقا بتلك التربة أيضا، فحينئذ يحصل لنفس الزائر الحي، ولنفس ذلك الإنسان الميت ملاقاة، بسبب إجماعهما على تلك التربة، فصار هاتان النفسان شبيهتين بمرآتين صقيلتين متقابلتين، بحيث ينعكس الشعاع من كل واحدة منهما إلى الأخرى، فكل ما حصل في نفس هذا الزائر الحي في المعارف والبراهين والعلوم الكسبية والأخلاق الفاضلة، من الخشوع لله تعالى، والرضا بقضاء الله تعالى؛ ينعكس منه نور إلى روح ذلك الإنسان الميت، وكل ما حصل في ذلك الإنسان الميت من العلوم المشرقة، والآثار القوية الكاملة؛ ينعكس من نور إلى روح هذا الحي الزائر، وبهذه الطريقة تصير تلك الزيارة سببا لحصول تلك المنفعة الكبرى، والبهجة العظمى لروح هذا الزائر!

فهذا هو السبب والأصل في مشروعية الزيارة، ولا يبعد أن يحصل منها أسرار أخرى أدق وأخفى مما ذكرنا، وتمام الحقائق ليس إلا عند الله تعالى”. انتهى كلام الرازي.

هذه بعض النصوص التي وقفت عليها سريعا، من كلام الأئمة المحققين من أهل السنة، وأعلام المجتهدين في الملة المحمدية من أهل المذاهب الفقهية والكلامية، ولو زدت في البحث لوجدت أكثر!

ولو جردت هذه النصوص من قائليها، ونسبتها إلى نفسي؛ لاقتضى ذلك عند بعضهم الحكم علي بالشرك، ومراغمة عقيدة التوحيد، والترويج للبدعة، فكيف والقائل به أعلام الأئمة، ومصابيح الأمة، وحملة لواء السنة؟!

اترك تعليقاً