إلى كلِّ قارئٍ مَلُول
22 ديسمبر، 2024
العلم والعلماء

بقلم الشيخ : سيد الشاعر الشافعى الأزهرى
دخلوا مرَّة على أحد الأكابر فقالوا له : من تُصَاحِب ؟! ومع من تجلس ؟! فأشار بيده إلى كُتُبِه. فقالوا : من النَّاس! . فقال : من فيها
( يعني كتبه )!!
تأمَّلتُ هذا الموقف فقلتُ لنفسي : إنَّ هذا لا يصدر إلا عن مُحِبّ تأجَّجَتْ في أحشائه نيران الشَّوق والعشق ، وكأنه أراد أن يقول لنا بلسان حاله إنَّ عجلة الزَّمان بيدك! ورهن إشارتك! ففي أيِّ لحظة تسافر إلى أيِّ عصْرٍ أردت ، وتلتقي بمن تحب ممن شغلت نفسك بهم وبأحوالهم وبعلومهم وحكمتهم ، فكل مسافر لابد أن يتزود لرحلته حتى لا يهلك في طريقه أو يَضِلّ ، إلا هذا المسافر الذي ركب أمواج السطور العالية أو غاص في أعماقها يلتقط الدُّرر ، فهو في زيادة مذ بدأ إلى أن ينتهي هو ، لأن هذه الرحلة لا نهاية لها!!
كأنه يقول : هؤلاء أصحابي الذين أُجَالسهم فإن كانوا علماء فأنا في حلقة من حلقاتهم في أي مكان كانوا وفي أي زمان عاشوا ، ألبس لباسهم وأفترش أرضهم وألتَحِفُ بسمائهم ، بل إني والله لأَشُمُّ رائحة بيوتهم الطِّينيَّة ، فإذا جلستُ بين يدي عالم من علماء زمانهم جَثَوْتُ على رُكْبَتَيّ فأضع يداً على فخذي تأدباً ، والاخرى ـ لا أمسك بها قلماً لأكتب ما جاد به الزمان عليّ ـ بل أضعها على قلبي خشية أن يُقذَف أمامي لِشِدَّة خفقانه ، أنظر إليه بنظرات أختلسها اختلاساً هيبة وإجلالاً ، وكنت أنظر إليهم وأسمع وهم يتناقشون في مسألة من المسائل أتأمل وجوههم فتأسِرُني نضرتها ، فوجوههم المصابيح وألسنتهم يقطُرُ منها العسل المُصفَّى ، لباسهم أبيضٌ ناصع ، وعمائمهم بيضاء كاللبن ، وبين الحين والآخر تهبُّ علينا نسمات رَطِبَة كأنها تمسح على وجوهنا مخافة أن يغفل أحدنا ـ وهيهات ـ فنزداد همَّة ونبَاهَة وتنشر علينا طيباً هو أطيب من الطِّيب.
أَترَاهُ بعد هذا الجمال والجلال يخالط أحداً مِنَّا ، أو يذهب لفلان أو عِلَّان ليُسَامره أو يُحَاوِرَه ويتودَّدُ إليه! لا أظن شيئاً من هذا يكون ، فهذه الرُّوح قلَّ أن تجد توأماً لها أو حتى من يُشَابهُها ، فهذا المُحِب قد استبان له الطريق واتَّضَحت له علاماته وإشاراته وذُلِّلَتْ له صِعَابه فعرف مكانه الذي يليق به فوضع نفسه فيه بين أشِقَّاء روحه وأحبابه ، تعلَّم منهم وهو بين أيديهم كيف تجاوزوا المِحَن والصِعَاب والمعضلات والمشكلات والجوع والفقر إلى أن بلغوا غايتهم وارتقوا أعلى الدرجات والمقامات ، فازدادت حكمته وخبرته يوماً بعد يوم وكتاباً بعد كتاب فسبق بعقله وفهمه وإدراكه وحسن تصوره للأمور من هم في سِنِّه وجيله بِجِيلٍ كامل ولربما أكثر.
ثم تأملتُ مرة أخرى وقلت : ماذا لو ضَجِر مرة أو ملّ؟! لبشريته وجِبِلَّتِه التي خلق اللهُ الناسَ عليها ، فما عساه أن يفعل؟! بم يُلِين حِدَّة الضجر ، وبأي شيء يلملم شعث الملل؟!
فأجابني مُسرعاً وهو يقول : الأدب ، وما أدراك ما الأدب! فكما كنت أُجَالس هؤلاء الكُبَرَاء الذين ذكرت لك شيئاً من أخبارهم آنفاً ، أُجَالِس أيضاً الأدباء والشعراء ، أتَسَلَّق طبقاتهم وأتسامر معهم بنوادرهم فمرة نضحك ومرة نبكي ومرات أخرى نعشق فنذوب! ، وكل ذلك في صمت شديد فليس هناك إلا أنا وهم بين صفحات الكتب حتى الليل ألقى إلينا سمعه فطرب وسكن وهدئ!
ولئن تقابلنا مرة أخرى لأخبرنَّك بشيء من التفصيل عمَّا كان بيني وبينهم من أخبار ومسامرات وأشعار ، لكني الآن أعتذر منك وأغادر لأني على سفر. فقلتُ : أعذرك لعلمي بأسفارك ، ولأنك وعدتني أن تَقُصَّ عليّ شيئاً من أخبارك ، وقد استودعتك من لا تضيع ودائعه.