العلمانية المشرقية: التقدير الانتقائي والتمييز الثقافي في ظل الدين والسياسة
22 ديسمبر، 2024
العلمانية وغزو بلاد العرب

بقلم : محمد نجيب نبهان ( كاتب وناقد و باحث تاريخي )
تعد العلمانية من المفاهيم المعقدة التي لا تزال تثير جدلاً واسعًا في العديد من الدول النامية، خاصة في منطقة الشرق الأوسط. ففي هذه البلدان، تروج العلمانية باعتبارها أداة للتحديث والتطوير الاجتماعي والسياسي، إلا أن تطبيقها غالبًا ما يكون متناقضًا عندما يتعلق الأمر بالتعامل مع الدين، خصوصًا الإسلام. هذه التناقضات التي تتجلّى في بعض المواقف العامة والخاصة، تُظهر أن العلمانية المشرقية قد تتحول إلى وسيلة للتمييز الثقافي والديني، حيث تحترم كل شيء باستثناء الإسلام.
احترام كل الأديان باستثناء الإسلام
تُظهر العلمانية المشرقية، في كثير من الحالات، احترامًا ظاهريًا لجميع الأديان والمعتقدات، لكنها في الوقت ذاته تتخذ مواقف عدائية تجاه الدين الإسلامي.
في الدول التي تتبع الأنظمة العلمانية، غالبًا ما نرى دعمًا لحرية ممارسة الأديان غير الإسلامية، وتسهيلات تُمنح للمجتمعات المسيحية أو اليهودية في إقامة شعائرهم الدينية وبناء معابدهم، بينما يواجه المسلمون الكثير من الصعوبات في ممارسة شعائرهم الدينية بحرية.
فمثلاً، في بعض الدول العلمانية، يُمنع بناء المساجد في أماكن معينة أو يُفرض قيود على إنشاء المدارس الإسلامية، بل إن قوانين تتعلق بالحجاب، وهو رمز ديني إسلامي، تُطبق بشكل صريح ضد المسلمين.
يُلاحظ أن العلمانية، التي تزعم أنها تسعى لتحقيق التعايش السلمي بين الأديان، تجد صعوبة في قبول الدين الإسلامي كجزء من هذا التعايش. بعض النقاد يعتبرون أن هذه التوجهات العلمانية في الواقع تشكل نوعًا من التمييز ضد المسلمين، وهو ما يتناقض مع المبادئ المعلنة للعلمانية التي تدعو إلى فصل الدين عن الدولة في سياق محايد.
اللغة العربية: تهميش الهوية الثقافية
تستمر العلمانية المشرقية في تفضيل اللغات الأجنبية على العربية، وهو ما يُعد في العديد من الأحيان مسًا مباشرًا بالهوية الثقافية والدينية للمجتمعات العربية.
ففي كثير من الأنظمة العلمانية، تُعتبر اللغة العربية غير مناسبة للاستخدام في العديد من السياقات التعليمية والإدارية، حيث تُفضل اللغات الغربية مثل الإنجليزية والفرنسية على حساب اللغة الأم. هذه الظاهرة تظهر بشكل واضح في التعليم الرسمي، حيث يُفرض على الطلاب تعلم اللغات الأجنبية بشكل أكبر من اللغة العربية، مما يؤدي إلى إضعاف ارتباط الأجيال الجديدة بثقافتهم وتاريخهم. اللغة العربية، التي تمثل جوهر الهوية الإسلامية في العديد من البلدان، تُهمش في الكثير من الحالات، في وقت يُسمح فيه بالاحتفاظ بلغات الأديان الأخرى أو الثقافة الغربية.
الآراء الدينية: التقدير الانتقائي والتضييق على الفتوى الشرعية
من الأمور التي تميز العلمانية المشرقية هو احترامها للآراء غير الدينية، في حين تتعامل مع الفتوى الشرعية بانتقائية. يُلاحظ أن العلمانية تدافع عن حرية الرأي والتعبير في مسائل السياسة والفلسفة والاجتماع، طالما أن هذه الآراء لا تتعارض مع المبادئ العلمانية أو لا تمس بها. ولكن، في المقابل، عندما يتعلق الأمر برأي ديني أو فتوى شرعية تعكس معايير الشريعة الإسلامية، نرى أن العلمانية المشرقية تنقلب على نفسها وتضيق على هذا النوع من الآراء.
في بعض الدول العلمانية، يتم قمع النقاش حول مسائل فقهية تتعلق بالشريعة الإسلامية، ويُعتبر أصحاب الآراء الشرعية متطرفين أو متخلفين. هذا التمييز يظهر بوضوح في العديد من المواقف السياسية والاجتماعية التي تُحجم عن السماح بتداول الآراء الفقهية بحرية، وتعتبرها غير مواكبة للزمان أو تُمثل خطرًا على استقرار المجتمع.
الأزياء: احترام للغرب وتهميش للزي الإسلامي
العلمانية المشرقية تحترم الأزياء التي تُعتبر جزءًا من الثقافة الغربية أو التي تُظهر انفتاحًا على الحداثة، بينما تتعامل مع الأزياء الإسلامية، مثل الحجاب، بعين من الاستنكار. في العديد من الدول التي تتبنى العلمانية، يُعتبر الحجاب رمزًا من رموز الرجعية أو التخلف، ويتم فرض قوانين تمنع ارتداء الحجاب في الأماكن العامة أو في المؤسسات الحكومية. تُستخدم تبريرات علمانية متعددة في هذا السياق، مثل الحرية الشخصية والحداثة، لكن في الحقيقة هذه المواقف قد تكون في جوهرها محاولة لإلغاء جزء أساسي من الهوية الثقافية والدينية للمجتمعات الإسلامية.
في بعض الأحيان، يُشجع على ارتداء الأزياء التي تحمل طابعًا غربيًا أو تمثل نمطًا ثقافيًا آخر، بينما تُنعت الأزياء الإسلامية بالتطرف والجمود.
المظاهر الاجتماعية: التناقضات في المواقف تجاه المظاهر الدينية
العلمانية المشرقية تُظهر تعاطفًا مع مظاهر الحياة الاجتماعية التي تتماشى مع الأنماط الغربية، مثل قصات الشعر الحديثة أو الملابس العصرية، بينما تجدها ترفض أي مظاهر ترتبط بالعادات الدينية الإسلامية.
على سبيل المثال ، يُنظر إلى تربية اللحى، وهي عادة دينية إسلامية، على أنها من بقايا العصور القديمة، بينما يتم تبني قصات الشعر الغربية الحديثة كرمز للتطور والانفتاح. هذه التوجهات تُظهر عدم احترام لمجموعة من المظاهر الاجتماعية التي تمثل جزءًا من الهوية الدينية، مما يعكس التحيز ضد التقاليد المحلية لصالح أنماط الحياة الغربية.
المساجد: التقليل من أهمية الأماكن المقدسة
بينما تُظهر العلمانية المشرقية احترامًا للأماكن الدينية الخاصة بالديانات الأخرى، مثل الكنائس والمعابد، فإن المساجد غالبًا ما تتعرض للتهميش أو التضييق. في بعض الدول العلمانية، يُمنع بناء المساجد في بعض المناطق، أو يتم فرض قيود على أماكن الصلاة، كما يحدث في بعض المدن الأوروبية التي تفرض قوانين صريحة تمنع بناء المساجد ذات المآذن العالية. بالمقابل، لا يُفرض مثل هذا النوع من القيود على أماكن العبادة الأخرى.
هذا التناقض يعكس نوعًا من المواقف السلبية تجاه الدين الإسلامي، ويُظهر كيف أن العلمانية في بعض الأحيان تصبح أداة للتمييز ضد المسلمين.
الخلاصة: العلمانية المشرقية والتناقضات الفكرية
العلمانية المشرقية، كما تتجسد في العديد من الدول النامية، تُظهر تناقضات كبيرة في مواقفها تجاه الدين والثقافة. بينما تدعي العلمانية أنها تسعى إلى تحقيق الحياد السياسي والعدالة الاجتماعية، فإن تطبيقاتها العملية غالبًا ما تكشف عن انتقائية واضحة في التعامل مع القيم الدينية والثقافية.
احترام كل ما هو غير إسلامي وتجاهل أو معارضة ما يتعلق بالإسلام يعكس قلة الفهم لمفهوم التعايش الحقيقي بين الدين والعلمانية، ويكشف عن تحديات كبيرة في تحقيق انسجام حقيقي بين الهوية الدينية والحداثة في العالم العربي.