بقلم الدكتور / الفاتح محمد
قبل ألف ومائتى سنة اختار أبو الحسن الأشعرى عنوانًا لكتابة غزير الفوائد؛ فكان “مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين”.. يستعجل بعضهم؛ فيحكم على الأشعرى بأنه سن التطرف سيرًا وراء توظيف كلمة “الإسلاميين” فى عصرنا الحاضر.
ولكنهم لو نظروا أول الكتاب لرأوا الأشعرى قد جعل الأصل فى المسألة أن الفِرَق -على اختلافها- أهل قبلة وإسلام؛ إذ يقول: “اختلف الناس بعد نبيهم “صلى الله عليه وسلم” فى أشياء كثيرة ضلل بعضهم بعضا، وبرئ بعضهم من بعض؛ فصاروا فرقا متباينين، وأحزابًا متشتتين؛ إلا أن الإسلام يجمعهم، ويشتمل عليهم”.
لكن التزام هذا الحكم أمام الفرق المختلفة يكاد يكون ضربًا من المحال؛ لأن لدى كثير من هذه الفرق آراء صادمة.
لم يحتكر الأشعرى لفظ “الإسلاميين” للدلالة على جماعته، وهذا هو الفرق بينه وبين من سموا أنفسهم “الإسلاميين” فى العصر الحاضر، بل إن مدلول الكلمة فى كتاب الأشعرى يدور حول كل الفرق الكلامية التى تنتسب للإسلام، وإن جاءت بأقوال شنيعة تناقض الإسلام؛ فهذا لا ينفى إسلاميتها من هذه الجهة.
ربما يقرأ أحدهم “مقالات الإسلاميين” لثناء ابن تيمية “رحمه الله” على الكتاب كما ذكر المحقق العظيم محمد محيى الدين عبدالحميد، ويلتفت لكم الفرق، ثم يُفرِّعها، ويحفظ أقوالها، لكن هل ينعكس منهج الأشعرى الذى سار عليه على نفس القارئ؟
ولو أن “الإسلاميين المعاصرين” يفهمون طريقة الأشعرى، ويسلكون سبيله فى عرض المسائل والتعامل مع الخصوم؛ لرحموا عقولنا من كم العبث الذى نشهده منهم.
لقد كان الأشعرى يذكر مع المسألة الفرقة ثم الفرق المندرجة تحتها ورموزها، وأقوال كل فرقة تتفرع عن الفرقة الفرعية، وهلم جرًّا، يحاول الأشعرى اتباع الأمانة العلمية ما استطاع إلى ذلك سبيلًا، ولا يُلزم فرقة صغيرة بأقوال الفرقة الأكبر منها، ولا أختها. ويعرض أقوال العلماء داخل الفرقة الواحدة؛ فلا يكلف عالما بأقوال طائفته.
الآن يكفى أن تستمع إلى خطبة لأحد ممَّن صدَّرهم الإعلام الطائفى لتسميم أبداننا عن الشيعة أو السنة؛ ستجد السنى يهاجم الشيعة عن بكرة أبيهم؛ لأنهم على حد زعمه يقولون بتحريف القرآن ويفعلون كيت وكيت، وهو لا يملك إلا أقوالا مبعثرة متناثرة لبعض أئمتهم وعامتهم.
وتجد الشيعى يهاجم السنى؛ لأن السنة جميعًا فى عينيه “وهابية”.
أما عن الحكم على الصوفية أو الأشعرية فأنت تجد نفسك أمام قوالب محفوظة؛ فهؤلاء قبوريون يطوفون حول الأضرحة، وأولئك جهمية ينكرون صفات الله!! وأكثرهم لم يقرأ شيئا عن هؤلاء ولا هؤلاء.
وهذه الأزمة كذلك نراها فى كثير من النقد الموجه إلى الوهابية أو السلفية؛ فهناك مخالفات عامة عند هؤلاء السلفية كالتساهل فى التكفير والتبديع واللامنهجية فى الفقه -على تفاوت بينهم- فبعضهم يقترب من التمذهب فيصبح أكثر انضباطا، وبعضهم يبتعد فيصير أكثر فوضوية، لكن اتهام السلفية جميعا بأنهم أبواق للسلاطين، أو بأنهم خوارج؛ كل ذلك من الغلو، والحل بالرجوع إلى طريقة الأشعرى بإلزام كل طائفة بأقوال كبارها، وعدم تحميلها بأقوال الطوائف الأخرى وإن كانوا جميعا من شجرة واحدة.