بقلم الشيخ / أحمد عزت
ويتابعُ الرجلُ المؤمنُ حوارهُ بكل ثقة وإيمان عظيمينِ ثابتينِ راسخَينِ. فيقول المؤمنُ لصاحب الجنتين إن كنتَ تراني فيما يظهرُ لكَ من علمكَ القاصر المتعلق بالظاهرِ، أنك أغنى مني مالاً وأكثر عددًا وقوةً ومنعةً، فإن الله سبحانه وتعالى قادرٌ أن يعطيني خيرًا من جنتك، وأخذ يحذّره من غضب الله تبارك وتعالى فإن عاقبة الكفر والبغي والاغترار بالنعمةِ عاقبةٌ وخيمةٌ، فالله سبحانه وتعالى قادرٌ على أن يهلك جنتيك ويدمرهما؛ بسبب اغتراركَ وبغيك وظلمك وكفرك.
ثم يأتي عقابُ الله سبحانه وتعالى لذلك الكافر المعاند الذي اغترّ بالدنيا واغترّ بجنتيه، فقاده غروره وكفره إلى أن غضب الله عليه، فاستحق العقاب من الله العظيم، جبّار السموات والأرض، فأرسل الله سبحانه وتعالى على جنتي ذلك الرجل صاعقةً دمّرت الجنتين، وأهلكتهما، وأتلفت ما فيهما من ثمار، فندم صاحب الجنتين على ما قدّم، وأدرك أنه استحقَ زوال هذه النعمة العظيمة الجليلة؛ بسبب كفرهِ وعنادهِ وغروره (وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا . وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ الله وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا).
نعم ندمَ صاحبُ الجنتين على شركه بالله، وندم على كفرهِ بالنعمةِ، ولكنّ ندمهُ جاء بعد هلاك جنتيه وخسارته لما أنعم اللهُ عليه، وعلمَ وقتها أنه لا عظيمَ ولا ناصرَ إلا الله، ولا يستحقُّ العبادةَ إلا الله، وأنّ النعمة يجبُ أن تُقابلَ بشُكر الله عليها، وأدرك أنهُ أخطأ أكبر الخطأ حينما منعَ الصدقةَ، وحرم الفقراءَ والمساكين من حقهم في هذهِ النعمة. قال الله تعالى واصفا حال هذا الرجل: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً . كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً . وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَرًا . وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَدًا . وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَبًا} [الكهف: ٣٢- ٦٣] .
وظاهر هذا المثل أنه وصف لأمر واقع موجود، روي في ذلك أنه كان هناك أخوان من بني إسرائيل، ورثا أربعة آلاف دينار، فصنع أحدهما بماله ما ذكر وهو بستانان، واشترى عبيدا وتزوج وأثرى، وأنفق الآخر ماله في طاعة الله تعالى حتى افتقر، والتقيا، ففخر الغني ووبّخ المؤمن، فجرت بينهما هذه المحاورة. وتصوير المثل كما حكى القرآن: واضرب أيها الرسول مثلا لهؤلاء المشركين بالله الذين طلبوا منك طرد المؤمنين من مجلسك، ذلك المثل هو حال رجلين، جعل الله لأحدهما جنتين، أي بستانين من أعناب، محاطين بنخيل، وفي وسطهما الزروع والأشجار المثمرة.
“كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها” أي أخرجت ثمارها، ولم تنقص منه شيئا في كل عام.
“وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَرًا” أي وشققنا وسط الجنتين نهرا، تتفرع عنه عدة جداول، لسقي جميع الجوانب.
وكان لصاحب البستانين أنواع أخرى من الثمار والأموال النقدية والعينية التجارية، فقال لصاحبه المؤمن الفقير، وهو يجادله ويخاصمه ويحاوره الحديث، ويفتخر عليه: أنا أكثر منك ثروة، وأعز نفرًا، أي أكثر خدما وحشما وولدا، وأقوى عشيرة ورهطا يدافعون عني.
﴿كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا﴾، وزاد من الوصف لهاتين الجنتين أنهما جادتا بالعطاء والثمار على أحسن ما يكون هذا العطاء، ولم تقصرا في الجود والثمر الشهي الناضج، كل في وقته وأوانه من التمور والأعناب والخضروات، فجادتا بالعطاء الرخي الوفير، فقد توفر لهما الماء، وهو عصب الزراعة، ﴿وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ﴾ [الأنبياء: ٣٠]؛ فالجنتان على هذا الوصف نموذجيتان متكاملتان، لا ينقصهما شيء من حيث الأخذ بالأسباب الدنيوية،
– وقد صور القُرْآن هذا الجدال أصدق تصوير، وأظهر خبيئات النفس لكل منهما، وانتصار كل منهما لمذهبه ومعتقده؛ قال الله تعالى: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا﴾ صورة رائعة لرجلين يتلاحيان، أحدهما يملِك جنتين من أعناب قد حُفَّتا بأشجار النخيل، وما بين شجر الأعناب والنخيل استغلت مساحاتهما لأنواع أخرى من الزروع، وهذا ما نشاهده في مزارع كثيرة، حيث المزرعة مشابهة لهذا الوصف، مع زراعة أصناف الخضراوات وغيرها في الفراغات بين أشجار النخيل والأعناب، هذا النمط يكثر في المناطق الحارة التي تحتاج إلى ظل أشجار النخيل لتعيش تحتها الخضروات، فالنخيل يظلل على الأعناب، والأعناب تظلل على الخضروات، فهذه هي المزرعة المثالية في تلك المناطق -مثل المدينة المنورة والقصيم-، ورد أنها كانت في منطقة القدس “في اللد”.
﴿وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا﴾، وكان ناتج هاتين الجنتين من الثمار والغلال كبيرًا، يدران عليه دخلًا من الخيرات والمال جعلاه في هناء وبحبوحة من العيش، ومن مبدأ: ﴿كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى . أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾ [العلق: ٦-٧]؛ فإن صاحب الجنتين بدأ يدل ويفخر بغناه ووفرة ماله وأولاده وحسن جنتيه على صاحبه الفقير، ومن هذا الفخر والافتتان بجنتيه يتبين أن الفقير كان فقير المال والأولاد، فليس له عزوة أو قبيلة قوية، بخلاف الغني المشمخر الشامخ بما عنده من مال وجاه، وتعلق قلبه بما ملك،
﴿وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا﴾، ومعه صاحبه الفقير وهو يريه عظمة هذه الجنة وما فيها من نضرة وخضرة وتنسيق وثمار وخضار، وهي في أبهى حلة وأينع ثمرة، تتمايل أشجارها النضرة عند هبات النسيم وتتبارى أطيارها في الغناء والنشيد طربًا لسكناها وافتتانًا بزهورها وأشجارها، فقد اتخذت على أغصانها وأفنانها وكثافة أيكها أوكارًا آمنة وأعشاشًا فارهة، فعظمة المكان تعكس على ساكنيه أبهة الرياش وسيما الدلال، وكأن زميله الفقير -الذي آتاه الله إيمانًا صادقًا ومعتقدًا راسخًا ورضًا بما وهب الله من رزق- قد نصحه بألا يفاخر بها كثيرًا وأن يتواضع لله الذي منحه إياها وأعانه على تثميرها وتحسينها، فقد يذهب عدمُ الشكر بما فيها بطرفة عين، بأن يسلط الله عليها جائحة أو آفة أو جفافًا لماء، لكن ما فيها من حسن وجمال جعل صاحبها يتمادى في الغي، ويحسب أن نضارها لن يبيد أبدًا، ونسي أو غفل عن قانون الله في الكون أنه لا شيء يبقى على ما كان؛ حياة وفتوة وشبابًا وكهولة وهرمًا وفناء، قانون يطال الجميع،
لقد أودى به افتتانه بجنتيه إلى أن وقف على باب الكفر بما قال، ودخل هذا الثري بستانه المتعدد البقاع والجنبات، فقال -اغترارًا منه، وظلمًا وكفرًا واستكبارًا-: ما أظن أن تفنى هذه الجنة (البستان) أبدًا، وما أظن أن يوم القيامة آت، وكان في الحالين مخطئًا ظالمًا لنفسه، إذ قرر عدم فناء بستانه، وأنكر وجود القيامة. وأفرد كلمة الجنة من حيث الوجود، إذ لا يدخلهما معا في وقت واحد، وظلمه لنفسه: كفره وعقائده الفاسدة في الشك في البعث.
مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا
قالها صاحب الجنتين لصاحبه حينما دخل على جنته ورآها جنة غناء ، مليئة بالثمار.. غرته النعم فنسي المنعم
شعر بالقوة و الاستغناء بها …حسب أن لن يقدر عليه أحد
وكان عقابه فى ذات الشئ الذى شعر بالاستغناء به عن الله تعالى.
فتنة صاحب الجنتين تتكرر كثيرًا
فكم من شعر بقوته الجسدية، فشعر بالاستغناء والقوة، وبدل شكر الله تعالى أصابه الغرور واستقوى على من هم أضعف منه فسلبه الله تعالى قوته.
وما قصة قارون بخافية عن الأذهان!!
وكم من اغتر بذكاءه واستخدمه بشكل خاطئ فسلبه الله تعالى عقله.
كثيرة هى الأمثلة والنماذج وقليل من يعتبروا!!
هناك من يعتقد أن الفتنة فى الدين وفى الأمور الظاهرة كالمال و الولد …..ولكن ربما تأتى فتنتك فيما تظن أنه أمر مفروغ منه لديك. ربما جاءت لتمتحن أخلاقك الحقيقية…
فكم من تفاخر بتربيته وأخلاقه وتغنى بها، وعندما يستفزه أمر ما أو شخص ما تجده يسير بين الناس كاسرًا للخواطر، واشيًا بين الناس، مدعيًا عليهم بما يسوء، معللًا أنه ناصح ينير للآخرين السبل ثم يأتيه عقابه من حيث لا يحتسب عقابًا يفضح أخلاقه الحقيقية!
صاحب الجنتين يمثل منهج وطريقة تفكير الكثير من البشر.
الاطمئنان والركون للحياة الدنيا…و الأمن من مكر الله تعالى!
وصفت الآيه الكريمة صاحب الجنتين بأنه ظالما لنفسه…فالإنسان يكون ظالما لنفسه قبل ان يكون ظالما للآخرين..لأنه معاقب لا محالة ان لم يتب .
صاحب الجنتين كان مثالا للاعتبار، ولكن هل من معتبر؟
– ثم أقسم هذا المترف على أنه إذا رجع إلى ربه- على سبيل الافتراض الجدلي- ليجدنّ في الآخرة عند ربه خيرًا وأحسن من حظ الدنيا أو منقلبًا، أي مرجعًا وعاقبةً حسنةً، -تمنيًا على الله، وادعاء لكرامته ومكانته عنده، على الزعم المغلوط: أن من كان حسن الحال في الدنيا، فهو حسن الحال في الآخرة، كأنه من شدة العجب ببستانه وسروره به، أفرط في وصفه، ثم قاس حال الآخرة على الدنيا، وظن أنه في تقلبه بالعيش الهنيء في الدنيا، لم يكن إلا لكرامة يستوجبها في نفسه، فإن كان ثمّ رجوع أو بعث كما يزعم صاحبه المؤمن، فسيكون حاله أحسن وأفضل، وهذا القول من هذا العاصي لم يقصد به الحقيقة، بل قصد الاستخفاف على جهة التصميم على التكذيب.
ثم زاد في الغي أكثر فدخل في الكفر من أوسع أبوابه، ﴿وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً﴾ فأنكر يوم البعث والمعاد يوم الحساب وعرض الأعمال، ﴿أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ﴾ [المؤمنون: ١١٥]، ثم قال من باب الاستهزاء لا اليقين ردًّا على زميله الفقير: ﴿وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا﴾ حتى وإن سلم بوجود يوم الحساب، فإنه إذا رد إليه سيجد خيرًا من هذه الجنة، فهو منعم في كافة الأحوال، وزميله بائس في كافة الأحوال، وهذا مقياس الضالين المخدوعين بزخرف الدنيا، وأنها ابتسمت لهم استدراجًا فغرتهم بهذا الاستدراج، وأنسَتْهم المنعِم المانح للخير، ﴿وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ﴾[سبأ: ٣٥]،
ألم يقُلِ العاص بن وائل السهمي: إنه إن رُدَّ إلى ربه فسيؤتيه المال والولد: ﴿أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا . أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا . كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا﴾ [مريم: ٧٧ – ٧٩].
ورُوي أن رجالًا من أصحاب رسول الله ﷺ كانوا يطلبونه بدَين -وهو الخباب بن الأرت-، فقال: ألستم تزعمون أن في الجنة ذهبًا وفضة وحريرًا ومن كل الثمرات؟ قالوا: بلى، قال: فإن موعدكم الآخرة، فوالله لأوتين مالًا وولدًا، ولأوتين مثل كتابكم الذي جئتم به، وهذا مثل لمنكري البعث – ﴿قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا﴾، فعندما أنكر البعث وبدأ يتكلم كلامًا يهوي به في النار، بدأ نصحه وتنبيهه عن المنزلق الذي يهوي به، وهو الكفر بالخالق العظيم، فقد حوَّله المال والغنى والاغترار بما أوتي من النعم إلى الجحود وإنكار يوم الحساب، وهذا نموذج لأرباب الثراء الذين جنَوا مالهم بالطرق الملتوية، فعندما يشكوهم المظلوم ويقول لهم: هناك يوم ستحاسبون فيه على ظلمكم لنا، فيكون الجواب منهم: إلى أن يأتي ذلك اليوم، باستخفاف وعدم مبالاة، كأنهم يشكُّون في مجيئه.
غير أن موقف هذا المغرور الكافر موقف خاسر، وتصور ساذج، فإن موقفه وحاله آيل في الواقع إلى الدمار والإفلاس، لكفرانه بنعم الله، وعصيانه ربه، وهذا شأن كل غني مغرور، مفتون بماله، لا يحترم أحدا إلا إذا كان غنيا مثله، وتراه يتقلب في المعاصي والملاهي والمنكرات والنوادي والخدينات، ويرائي الناس ويتظاهر متفاخرا بماله وقصوره، ومفروشات منزله، ويتطاول على الآخرين، ولكنه في النهاية من الأخسرين أعمالًا، ومن الهالكين.
– موقف المؤمن الواعي من صاحب الجنتين
الجدال والنقاش قائم في الدنيا دائمًا على قدم وساق بين الكافر والمؤمن، وبين العاصي الفاجر والمستقيم الصالح، الأول يغتر بماله ونفسه ودنياه، والثاني يستمسك بإيمانه وينظر لمستقبل عمره، ويدرك فناء الدنيا مهما عظمت، ويتأمل الخير فيما عند ربه، وهكذا كان حال المؤمن في مواجهة الكافر صاحب الجنتين (البستانين) وذي الثراء الواسع، حكى القرآن الكريم هذا اللون من الجدل الهادىء الصادر عن غاية الإيمان والحكمة والعقل. {قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً . لكِنَّا هُوَ الله رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا . وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بالله إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَدًا . فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا . أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا . وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا . وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِرًا . هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا } [الكهف: ٣٧- ٤٤]
لقد أجاب الرجل المؤمن صاحبه المفتون ببساتينه وثرواته حينما كان يحاوره، واعظًا له، وزاجرًا عما هو فيه من الكفر والاغترار، فقال: أكفرت بمن خلقك في أصل الخلقة من تراب؛ لأن خلق آدم أبي البشر من تراب خلق لذريته، وكذلك الغذاء من النبات، وغذاء النبات من الماء والتراب، ثم يتحول هذا الغذاء دمًا، يتحول بعضه إلى نطفة، تكون وسيلة للإنجاب، ثم خلق البشر السوي التام الأعضاء. لكني أنا لا أقول بمقالتك، بل أقر لله بالوحدانية والربوبية، ولا أشرك به أحدًا، بل هو الله المعبود وحده لا شريك له. وهلا إذا أعجبتك جنتك (بستانك) حين دخلتها، قلت: “ما شاء الله، لا قوة إلا بالله”، أي الأمر ما شاء الله، والكائن: ما قدره الله.
أتستصغرني إذ كنت أقل منك مالا وثروة، وأولادًا وعشيرة، في هذه الدنيا الفانية، فإني أتوقع انقلاب الحال في الآخرة، وأرجو أن يعطيني الله خيرًا من جنتك في الدار الآخرة، ويرسل على جنتك في الدنيا حُسبانًا من السماء، أي عذابًا كالبرد الشديد والصقيع أو الطوفان أو الصاعقة المحرقة، فتصبح جنتك خالية من أي شجر أو نبات، وخاوية على عروشها، أو تصير صعيدًا (أي وجه الأرض) زلقًا: لا يثبت فيها قدم، يعني أن تذهب الأشجار والنباتات، وتبقى أرضًا يابسة، قد ذهبت منافعها، حتى منفعة المشي، فهي وحل لا تنبت، ولا تثبت فيها قدم أو يغور ماؤها ويذهب، ولن تتمكن من طلبه وإعادته مرة أخرى.
إن هذا الصاحب الفقير القانع بعطاء الله له كان وفيًّا لصاحبه الغني فلم يتركه على ضلاله بدافع الحقد عليه، وإنما رأى أن مسؤولية المؤمن الدعوة والتوعية وبيان الحق؛ لذلك ذكره بأن الله خلقه ﴿مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا﴾، أهكذا يكون تصرفك تجاه الخالق بالجحود والنكران؟ ثم بين له موقفه من ربه، وقوة الإيمان التي تملأ قلبه؛ لأنه لا ينظر إلى الحياة من منظور المادة والغنى، وإنما من منظور الإيمان الذي يعلو كل شيء عند المؤمن؛ لأن الحياة عنده مرحلة عابرة ودار عمل صالح وجد يدخر للآخرة، فقال له ليعلِّمه الموقف الإيماني: ﴿لَكِنَّا هُوَ الله رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا﴾، أما أنا فأقول: إن الله ربي واحد لا شريك له؛ فقد نوَّر الله بصيرتي وهداني إلى توحيده، أما أنت فكان ينبغي أن يكون لك موقف فيه اعتراف بمن أولاك النعم،
– ﴿وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ﴾، فكان ينبغي عليك كلما دخلت جنتك أن توحِّدَ الله، وتهلل، وتسبح، وتقول: ﴿مَا شَاءَ الله لَا قُوَّةَ إِلَّا بالله﴾ اتقاء شر الحاسدين؛ فالله هو الحافظ لهذه النعم، لكن ﴿إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا﴾، فلا تشمخ علي، ولا تعيرني بقلة مالي وولدي، فكان عليك لما أنت فيه من النعم التي فُقْتَ بها غيرك أن تحمد الله وتؤدي شكر هذه النعم، لا أن تتفاخر بما عندك وتتعالى على عباد الله، ألا تعلم أن الذي أعطاك هذه النعم قادرٌ على سلبها منك، وإعطائها غيرك، وأنا أرجو من ربي أن يعطيني خيرًا مما أعطاك؛
﴿فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ﴾ من المال والولد والثواب، وأن يعاقبك على الجحود ﴿وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا﴾، وهناك قراءة بالتثنية: ﴿عَلَيْهِمَا﴾، فما هو الحسبان الذي توقعه الرجل المؤمن؟ فُسِّر بمعانٍ متعددة، والموافق للنص أنه الصواعق المتدافعة، أو البرد الذي يحطم الزروع، أو الحصى والحجارة، أو أية جائحة تنزل من السماء؛ كالجراد مثلًا، وأما الصعيد الزلق: فالأرض الجرداء التي لا نبات فيها، تزلق الأقدام فيها؛ لانعدام النبات، فكأنه يقول له: ألا تخشى أيها الجاحد للنعم أن يذهب الله عنك ما أنت فيه من خير؟ فأنت تفخر بهاتين الجنتين كأنهما من صنعك وتنسى الخالق الواهب؛ ألا تخشى أن يرسل عليهما جوائح مهلكة؟ ﴿أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا﴾، أو أن يغور ماء النهر الذي يسقي أرضك فلا يصل إليها؛ فتموت عطشًا؟! وما أسرع ما يموت الزرع والخضار من العطش، يصيبه الجفاف وحر الشمس فيصبح هشيمًا تَذْرُوه الرياح! إنك بجحودك ونكرانك لفضل ربك لا تستحق هذه النعمة، فهاتان الجنتان بالنسبة لك كانتا امتحانًا وابتلاء ﴿لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ﴾ [النمل: ٤٠]، لقد سقطت في الامتحان أيها المسكين، فانظر إلى عقاب الله الأليم، ﴿وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ﴾ تدمير الثمر أبلغ في النكاية، حتى إذا ما استعد لجني الثمر بعد انتظار لم يطعمه؛ فقد أحيط به ودُمِّر الثمر والشجر والزرع، وغار الماء، وغدت جنتاه خرابًا بلقعًا لا زرع فيها ولا حياة، ولما رآها قد انقلبت بهذه السرعة كاد يذهب عقله ويجن، وكما قال الشاعر:
ما بين غمضةِ عينٍ وانتباهتها
يُغيِّر اللهُ مِن حالٍ إلى حالِ
ثم أخبر الله تعالى بما حل من العذاب بحال هذا الجاحد الممثّل به، وصفة هذا العذاب: أنه أحاط العذاب والفساد والاستئصال بثمار البساتين ونزلت الجائحة بالأموال، فدمّرتها، فأصبح ذلك الرجل المفتون بها نادمًا متحسرًا على ضياع نفقته التي أنفقها عليها، وتمنى أن لم يكن قد أشرك بربه أحدًا، وصارت جنته خاوية على عروشها، أي سقطت عرائشها على الأرض، ولم يجد أحدًا يناصره ويؤازره من عشيرة أو ولد، كما كان يفتخر ويتباهى، ولم يعد منتصرًا، أي ممتنعا بقوته عن انتقام الله تعالى منه. وهذا يذكّرنا بحال قارون الذي اغتر بماله، حتى خسف الله به وبماله الأرض، “وما كان له من فئةٍ ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين”، فلقد تخلّى عنه الجميع؛ لأن المال تخلّى عنه، وهكذا حال أصحاب المصالح يدورون وجودًا وعدمًا معها.
وفي هذه الحال من الشدة والمحق والمحنة، تكون النصرة لله وحده، ويؤمن فيها البرّ والفاجر، ويعود كل إنسانٍ طوعًا أو كرهًا إلى الله وحده، وإلى موالاته والخضوع له، حينما وقع العذاب.
فقوله سبحانه: “هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ” أي حينئذ يكون السلطان والملك والنصرة والحكم لله الإله الحق المبين، فالله سبحانه هو “خيرٌ ثوابًا وخير عقبًا”، أي خير جزاء، وأفضل عاقبة لأوليائه المؤمنين، فينصرهم ويعوضهم عما فقدوه في دار الدنيا، وتكون الأعمال الخالصة لله ذات ثواب عظيم، وأثر طيب أو عاقبة حميدة رشيدة، كلها خير من سابقاتها في الدنيا. وهذا دليلٌ واضحٌ على أن الله يجزي بالحسنة خيرًا منها، ويضاعف الله كرمًا وفضلا ثواب الحسنة إلى ما شاء سبحانه، مما يحمل كل عاقل على الطمع في فضل الله وإحسانه، والإقبال على طاعته ومرضاته لأن ما عند الله خير وأبقى. ﴿فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا﴾، فما كان منه بعد هول ما حدث إلا أن أخذ يقلب كفيه؛ دليل الإفلاس والعجز والاستسلام، فأسقط في يده، وليس له من حول ولا قوة، ذهبت وذهب معها كل ماله الذي أنفقه عليها، يا لها من خسارة مضاعفة، أمهله الله حتى إذا ظن أن الربح سيأتيه مضاعفًا جاءها الدمار فأخذ كل شيء، فأصبحت خاويةً على عروشها، جذوع النخيل وجذوع الأعناب محطمة مكسرة كأن لهبًا قد مسها فتركها حطبًا لا حياة فيه، وهنا صحا من هول الصدمة، وأفاق مما كان فيه من ضلال، فندم بعد أن رأى آية ربه في جنته التي انقلبت خرابًا بين عشية وضحاها، وقال: ﴿يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا﴾، فندم أشد الندم، ولعله عاد إلى ربه وعمل بنصح صاحبه فاستنقذ نفسه من العذاب بعد هذه التجربة في حياته، ﴿وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا﴾، فمَن يجرؤ على نصرته إذا حاق به عذاب الله أو نزلت به قارعة، فأين ماله وولده ومكاثرته بهما؟ لن ينتصر أبدًا مَن حادَّ اللهَ، وستكون نهايته أليمة في الدنيا والآخرة،