بقلم الشيخ/ أحمد عزت حسن
وأما عن سبب نزولها فكما ذكر أهل التفسير، ومنهم القرطبي ج٥ عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: “بعثت قريش النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط إلى أحبار يهود بالمدينة، فقالوا لهم: سلوهم عن محمد وصفوا لهم صفته وأخبروهم بقوله، فإنهم أهل الكتاب الأول، وعندهم علم ما ليس عندنا من علم الأنبياء، فخرجا حتى قدما المدينة فسألوا أحبار يهود عن رسول الله ﷺ ووصفوا لهم أمره وبعض قوله، وقالا: إنكم أهل التوراة، وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا، قال، فقالت لهم: سلوه عن ثلاث نأمركم بهن، فإن أخبركم بهن، فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل، فالرجل متقول، فروا فيه رأيكم. سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم، فإنهم قد كان لهم شأن عجيب. وسلوه عن رجل طواف بلغ مشارق الأرض ومغاربها، ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الروح ما هو؟ فإن أخبركم بذلك، فهو نبي فاتبعوه، وإن لم يخبركم فإنه رجل متقول، فاصنعوا في أمره ما بدا لكم،
فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش، فقالا: يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور، فأخبروهم بها، فجاءوا إلى رسول الله ﷺ فقالوا: يا محمد أخبرنا، فسألوه عما أمروهم به، فقال لهم رسول الله ﷺ: أخبركم غدا عما سألتم عنه ولم يستثن، فانصرفوا عنه، ومكث رسول الله ﷺ خمس عشرة ليلة لا يحدث الله له في ذلك وحيًا، ولا يأتيه جبريل عليه الصلاة والسلام، حتى أرجف أهل مكة وقالوا: وعدنا محمد غدا واليوم خمس عشرة ليلة، وقد أصبحنا فيها ولا يخبرنا بشيء عما سألناه، وحتى أحزن رسول الله ﷺ مكث -تأخر- الوحي عنه، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة، ثم جاءه جبريل عليه الصلاة والسلام من الله عز وجل بسورة أصحاب الكهف، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم وخبر ما سألوه عنه من أمر الفتية، والرجل الطواف، وقول الله عز وجل: “وَيَسْأَلونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ” [الكهف: ٨٣]. إلى آخر الآيات. والله أعلم.
وقال الواحدي -في أسباب النزول للواحدي ج١ ص: ١٥٣-: «إن اليهود اجتمعوا فقالوا لقريش حين سألوهم عن شأن محمد وحاله: سلوا محمدًا عن الروح، وعن فتية فقدوا في أول الزمان، وعن رجل بلغ شرق الأرض وغربها، فإن أجاب في ذلك كله فليس نبي، وإن لم يجب في ذلك كله فليس بنبي، وإن أجاب في بعض ذلك وأمسك عن بعضه فهو نبي. فسألوه عنها، فأنزل الله تعالى في شأن الفتية: (أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ …)،
وأنزل في الرجل الذي بلغ شرق الأرض وغربها: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ)
وأنزل في الروح قوله تعالى: (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا)».
وكان في مقدمة هذه الأسئلة المتحدية سؤال عن فتية بعثوا من رقادهم في الدهر الأول؛ وواضعو هذا السؤال أُلو مكر دقيق؛ فقد توهموا مخطئين أن رسول الله ﷺ قد ألم بأخبار التوراة والإنجيل، ثم ادعى الرسالة، فشاءوا أن يتقدموا بسؤال لم يرد في التوراة أو الإنجيل، وهو حديث أهل الكهف، وقد علم أهل الكتاب أن المشركين إنما لجأوا إليهم لأنهم اتهموا محمدًا ﷺ بأنه «إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ» (النحل: ١٠٤) وبأن ما جاء به «إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ» وأنه من «أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا» (الفرقان: ٥)، ولازم ذلك أنهم لا يعيّنون أسئلة يمكن للنبي ﷺ أن يجيب عنها مستعينًا بأحد ممن يُحتمَل أنه يستعين به أو يتخالط معه، بل لابد أن يكون جواب هذه الأسئلة مما لا يعرفه أحدٌ إلا الأنبياء حصرًا، فإذا كان محمد ﷺ نبيًا صادقًا فلسوف يجيب عنها عاجلاً أم آجلاً، أما إذا كان كاذبًا – وحاشاه ﷺ أن يكون كذلك- فلسوف ينكص عن الجواب أو يخطئ فيه، أو يشتبه بين ما يمكن الجواب عنه وما لا يمكن.
ونود أن نشير إلى نقطة هامة في هذا الموضوع، وهو تأخر نزول الوحي
– إن التحدي الذي وُجِّه إلى النبي ﷺ لم يتضمن المبادرة إلى الجواب أو المسارعة إليه، وإنما تضمّن الجواب نفسه عن المسائل الممكن الجواب عنها دون المسألة الخاصة التي لا يمكن الجواب عنها، وهذا ما حصل وبه تحققت الآية وتمّت الحجة. وليس تأخر الجواب بقادح في ذلك؛ لأن المبادرة إلى الجواب أو المسارعة إليه لم يتضمنها تحدي المتحدّين أصلا، فلم يشترطوا مثلاً أن يكون الجواب فوريًا كما لم يحدّدوا له أجلاً، ذلك لأن مصبّ التحدّي عندهم إنما كان على معرفة أمور لا يعرفها إلا الأنبياء، وعلى الإقرار بعدم معرفة أمر واحد استأثر الله بعلمه. أما المبادرة إلى الجواب أو المسارعة إليه من عدمها فليست منظورة من جانب المتحدّين أصلاً إذ هي خارجة عن نطاق التحدي، فلقد قالوا لأبي طالب عليه السلام: «يا أبا طالب؛ إن ابن اخيك يزعم أن خبر السماء يأتيه، ونحن نسأله عن مسائل فإن أجابنا عنها علمنا أنه صادق، وإن لم يجبنا علمنا أنه كاذب».
وبعبارة أخرى؛ إن أهل الكتاب عندما استعان بهم المشركون لتحدي النبي ﷺ عيّنوا لهم أسئلة يُمتحَن بها هذا النبي ﷺ فإن أجاب عنها وامتنع عن واحدة فهو صادق، إذ لا يمكن أن يجيب بهذا النحو إلا الأنبياء.
إذن كان تحدي المتحدّين في القدرة على (الجواب نفسه) لا في (سرعة الجواب)، ولا أدَلَّ على ذلك من أن التاريخ لم يذكر عن أولئك المتحدّين أنهم بعدما أجابهم النبي ﷺ رفضوا الجواب بذريعة بتأخره، كما لم يذكر التاريخ عنهم أنهم غلّطوه، بل في الروايات أنهم شهدوا بصدق الجواب وصحته. وكما سبق بيانه فإنه ليس للخصم رد هذه الحقيقة بعدما تضمنتها الروايات ذاتها التي احتج بها وبنى شبهته عليها.
وبهذا تعرف أن تأخر الجواب ليس معاقبةً للنبي ﷺ ولا تخلّيًا عنه في مقام التحدي كما توهّمه ضعاف العقول، إذ لو كان كذلك لكان ينبغي أن يكون مؤثّرًا على حجّته وبرهانه وآية صدقه، لكن الواقع أنه لم يؤثر رغم تعمّد قريش الاستهزاء وبث الشك قبل النطق بالجواب، إذ سرعان ما أخبر النبي ﷺ بما طولب به فشهد أهل الكتاب بصدقه وآمن بعضهم، وبذلك تمّت الحجة وعَلتْ آية النبوة وعادت قريش خائبة.
– إن الوحي الإلهي في مضامينه ومواقيته وأساليب خطابه يرجع إلى حِكَمٍ ويهدف إلى مصالح، وهو إذ ذاك قد ينفرد بما هو غير متوقع في هذه الثلاث (المضامين، المواقيت، الأساليب) تحقيقًا لتلك المصالح، وحينئذ يكون من الطفولية والسطحية تفسير هذا الوحي على ظاهره دون استنطاق بواطنه وضمّها إليه ثم التدبر في مقاصده ومعانيه. كما يكون من الطفولية والسطحية تكوين الانطباعات عن متلقي الوحي بحسب ظاهر أقواله وأفعاله دون الالتفات إلى مغزاها وما تنطوي عليه من مقاصد وما تنشئه من أحكام.
إذا عرفتَ هذا فلتعرف أن النبي ﷺ حين لم يستثنِ بقوله: «إن شاء الله» إنما كان محققًا للغرض الإلهي بالأصل، وأن تأخر الجواب إنما جاء لحِكَمٍ ومصالح، وأن صورة الخطاب الإلهي وإن كانت موجهة إلى النبي ﷺ ناشئة من فعل واقعي له. إلا أن غيره هو المعنيَّ به، أي في قوله تعالى: «وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَٰلِكَ غَدًا . إِلَّا أَن يَشَاءَ الله وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَـٰذَا رَشَدًا» (الكهف: ٢٤-٢٥) فإنه مسبوق بقوله: «وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُم بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا» (الكهف: ١٩)
٣- وهذه الحِكَمُ والمصالح فتُستَشَفُّ من مجموع الروايات المعطوف بعضها على بعض في خصوص هذه الواقعة ونظائرها، ومنها:
– ترسيخ ارتباط النبي ﷺ بالوحي إذ ليس له أن يقدّم ولا يؤخّر من تلقاء نفسه، وهذا مما يدفع إلى التصديق بنبوته عند من عاشوا ذلك الحدث.
ولقد كانت من النبي ﷺ الإشارة إلى ذلك منذ أول الأمر، ففي الخبر أنهم لمّا سألوه المسائل قال لهم: «إني لا أخبركم بشيء إلا من عند ربي، وإنما أنتظر الوحي يجيء ثم أخبركم بهذا غدًا»
-ومنها اختبار أصحابه ليميز الله الموقنين الثابتين من المتذبذبين.
– ومنها بيان أهمية الاستثناء في العزم على شيء أو الحلف عليه إذ كل شيء إنما هو بمشيئة الله سبحانه، وتشريع أن للناسي الاستدراك بالاستثناء تاليًا كما جاء في الخبر.
– إن الأجوبة التي جاء بها القرآن الحكيم كانت واضحة كل الوضوح على الدقة التي أبهرت الممتحنين، وإنما يتوهم بعض السطحيين أنها غير واضحة بسبب الضعف في اللغة والبيان أو القصور في التدبر أو عدم الالتفات إلى حقائق النزول وآثار التفسير.
أما عدم الإفصاح عن ماهية الروح والاكتفاء بإرجاع أمرها إلى الله سبحانه فلأنه كان دليلاً على صدق النبوة إذ عيّن الممتحنون هذا السؤال وميّزوه من بين الأسئلة على أنه سؤال ليس لأحدٍ الإجابة عنه لاستئثار الله تعالى بعلمه.
وأما الجواب عن عدد أصحاب الكهف فإن الترديد فيه إنما هو حكاية لما وقع، ففي الخبر عن الصادق عليه السلام: «فخرج ملك تلك المدينة مع أصحابه والرجل معهم حتى وقفوا على باب الكهف، وأقبلوا يتطلعون فيه، فقال بعضهم: هؤلاء ثلاثة ورابعهم كلبهم، وقال بعضهم: خمسة وسادسهم كلبهم، وقال بعضهم: هم سبعة وثامنهم كلبهم»
ولقد عيّن القرآن القول الصحيح وهو السبعة وثامنهم كلبهم، ذلك لأنه أبطل القولين الأولين بأن أتبعهما بقوله: «رَجْمًا بِالْغَيْبِ» فدلّ ذلك على أنهما من التخمين الخاطئ لأولئك الناس. أما القول الثالث والأخير فلقد أتبعه بقوله: «قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ» فدلّ ذلك على أنه مصادق لعلم الله تعالى بعدّتهم، وأن من يعلم بهذه المصادقة قليلٌ ممن حظيوا بالعلم الإلهي كالأنبياء عليهم السلام.
من لطائف السورة المباركة
قصة أصحاب الكهف من أعجب قصص القرآن الكريم وأكثرها تشويقًا، ومن عجائبها
١- أننا لو تدبرنا مطلعها لوجدناه يتسق تمامًا مع أواخر السورة السابقة لها -وهى سورة الإسراء، -وهذا من إعجاز المناسبة في القرآن الكريم- حيث يبدو وكأنه سلسلة من حلق متداخلة حيث نقرأ في آخر السورة:- (وَقُلِ الْحَمْدُ لله الّذِي لَمْ يَتّخِذْ وَلَدًا …). ثم نقرأ في أول لاحقتها سورة الكهف (الْحَمْدُ لله الذي أنزل ..) وكأنه استجابة للأمر الإلهي السابق. ثم يقول في الآية الرابعة: (وَيُنْذِرَ الّذِينَ قَالُواْ اتّخَذَ الله وَلَدًا) ليتسق مع قوله قبلها -الإسراء- بعد الحمد.. (الّذِي لَمْ يَتّخِذْ وَلَدًا).
٢- ومما تشتمل عليه هذه السورة معنى بديع جميل جداً وله علاقة في واقعنا اليوم عحيب! ففيها أصناف الملوك والرؤساء،
فيها الملك الكافر الذي عذب هؤلاء الفتية {إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ..} [الكهف: ٢٠]، طبعًا بمَلِكهم: {..يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ..}، ملك كافر كيف يتعامل مع شعبه، كيف يتعامل مع المؤمنين الصالحين.
الملك الثاني، فيها الملك الظالم في قصة موسى والخضر {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا} [الكهف:٧٩]، فهو ملك ظالم يأخذ أموال الناس، يستولي على الجيد منها، يفرض عليهم الضرائب يؤذيهم.
النوع الثالث من الملوك: هو الملك العادل ذو القرنين، وهو ملك عادل وسيرته عجيبة في عدله {..إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا . قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا . وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا} [الكهف:٨٦-٨٨]، يفرق بين الظالمين الكافرين الطاغين في التعامل معهم، وبين الصالحين والأخيار هذا الملك العادل، إذا وجدت رئيسك أو ملكك أو زعيمك يكرم الأخيار والصالحين، ويرفع من مقامهم ويحترمهم من العلماء والصالحين والعباد، ويضرب بيد من حديد على الظالمين فهذا ملك عادل.
إذًا هؤلاء الملوك الثلاثة كلهم في سورة الكهف، وما أشبه الليلة بالبارحة، تأتي سورة الكهف تبين لنا أحكام الملوك، إما ملك كافر والظالم قد يكون كافرًا وقد لا يكون، قد يكون ملك أو رئيس أو زعيم مسلم ولكنه ظالم، وقد يكون كافرًا وظالمًا، وقد يكون كما بينا في قصة ذي القرنين ملك عادل.
وتجد هذه السورة تعالج الأخلاق في التزكية والتربية، وكما قلنا في النجاة من الفتن ضبط اللسان {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا . إِلَّا أَنْ يَشَاءَ الله..}، التعفف عن المال، وهذا ظاهر تماماً في سورة الكهف {..فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا . قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} [الكهف:٩٤-٩٥]، تعفف عن المال، تبين كيف يتعفف الملوك والزعماء عن المال وأموال الناس والشعب المسكين الضعيف، فتأتي سورة الكهف تبين أن الدنيا حياة غرور، وتصحح منهج الفكر والنظر، وتحذر من الشيطان ووسائسه ودسائسه وأسالبيه، تصحح ميزان اليوم عند الناس، فهو ميزان مختل.
– ولعل قليلٌ من التأمل في هذه السورة المباركة يكشف لنا عن سر نجاح المجتمعات، وأسباب تخلفها وانهيارها إن نجاح المجتمع يحتاج إلى عقيدة متينة يدافع عنها أصحابها، ويضحون في سبيلها بالغالي والنفيس. وقد تجلى ذلك واضحًا في قصة أهل الكهف.
وهذه الدعوة تحتاج إلى من ينفق عليها ولا يبخل، ويعلم أن الدنيا كلها عطاء الله تعالى، وأن هذا المال فيه حقٌ -لله- يجب أن يُخرج، ولا يبخل به صاحبه، وإلا سوف تكون النتيجة وبالًا عليه، وهذا ما حكته الآيات عن صاحب الجنتين.
وهذا المجتمع يحتاج إلى علمٍ يضئ الطريق وينيره، ويجب أن نأخذ بأسباب ذلك العلم، وإذا ما اتقينا الله تعالى في عملنا فإن الله تعالى برحمته سيفيض علينا من لدنه علمًا. وهذا ما تحدثت عنه الآيات في قصة موسى والعبد الصالح.
وهذه المنظومة وهذه السيمفونية الرائعة لا بد لها من قائد ملهم عادل يتقي الله في أتباعه، ويكف يده عن ما في أيديهم، ويعمل على حمايتهم من كل عدوٍ وخطر داخلي أو خارجي. قائد يعمل على بث روح الجد والعمل في نفوس رعيته، ويستخرج أروع ما فيهم، وتجلى ذلك -وغيره- في قصة “ذي القرنين”
٤- إن سورة الكهف تحكي عن أولئك الفتية الذين فرُّوا بدينهم معتصمين بربهم إلى أن آواهم المبيت إلى كهف نُسبوا إليها فيما بعد، وذلك حين اتفقوا أن يلجؤوا إليه إلى طلوع النهار، ولم يكن في خاطرهم أن نومهم فيه سيستمر ليتجاوز ثلاثة قرون، فلبثوا فيه حتى ظهروا في زمن آخر، وعصر ملك جديد. وهم شباب فرّوا بالإيمان من الطغيان، شهدت بإيمانهم آيات القرآن، حيث قال الله في حق أهل الكهف: “نَحۡنُ نَقُصُّ عَلَيۡكَ نَبَأَهُم بِٱلۡحَقِّۚ إِنَّهُمۡ فِتۡيَةٌ ءَامَنُواْ بِرَبِّهِمۡ وَزِدۡنَٰهُمۡ هُدٗى”: ١٣
هذه الزيادة بالهداية لأهل الكهف كانت ثمرة الثبات والصبر والفرار بالإيمان للمحافظة عليه، وهي رسالة لكل شاب في زمان الفتن والشهوات والشبهات؛ أن يثبت على إيمانه ويفر بدينه إن لم يتمكن من المحافظة عليه في بلدته، قصة أهل الكهف نزلت على النبي ﷺ في زمن المحن والبلايا التي كانت قريش تعادي فيه النبي ﷺ وأصحابه الكرام، فكانت قصة أصحاب الكهف تسلية له ﷺ ولأصحابه رضي الله عنهم.
٥- وعلى غير المتوقع من أتباع الرسالات، وعلى غير المعهود في أصحاب المبادىء والتضحيات –والذين عهدناهم فقراء عالة- نجد هؤلاء الفتية -أهل الكهف- من طبقة النبلاء وأبناء الأمراء أصحاب الطبقة الحاكمة الأرستقراطية النبيلة، بل نجد أن أحدهم كان متزوجًا من ابنة الملك -الظالم-. جاء في التفسير المنير [١٥ /٢٣١]: “كان إيواء الفتية المؤمنين إلى الكهف من أبناء أشراف مدينة «دقيانوس» الملك الكافر فرارًا بدينهم من فتنة الكافرين عبدة الأصنام.
فالكهف في السورة ما هو إلا تعبير أن العصمة من الفتن أحيانًا تكون باللجوء إلى الله حتى لو أن ظاهر الأمر مخيف. وهو رمز الدعوة إلى الله فهو كهف الدعوة وكهف التسليم لله -ولا يمنع ذلك أن يكون الكهف لاحقيقة واقعة- ولذا سميت السورة (الكهف) وهي العصمة من الفتن، فقد كان فيه نجاتهم مع أن ظاهره يوحي بالخوف والظلمة والرعب لكنه لم يكن كذلك إنما كان العكس
وهذا دليل صريح في الفرار بالدين وهجرة الأهل والبنين والقرابات والأصدقاء والأوطان والأموال، خوف الفتنة وما يلقاه الإنسان من المحنة. وقد خرج النبي ﷺ فارّا بدينه، وكذلك أصحابه، كما نص الله تعالى في سورة براءة. إنهم هجروا أوطانهم، وتركوا أرضهم وديارهم وأهاليهم وأولادهم وقراباتهم وإخوانهم، رجاء السلامة بالدين والنجاة من فتنة الكافرين”.
فهي مثل عال، ورمز سام للتضحية بالوطن والأهل والأقارب والأصدقاء والأموال في سبيل العقيدة، فقد فرّ هؤلاء الشباب الفتية المؤمنون بدينهم من بطش الملك الوثني، واحتموا في غار في الجبل، وهذا هو الإيمان حينما تخالط بشاشته القلوب؛ فلم يكن هؤلاء الفتية أنبياء ولا رسلا، ولم يتوجب عليهم تحمل ما يتحمله الرسل في دعوة أقوامهم، إنما كانوا أصحاب إيمان راسخ، فأنكروا على قومهم شركهم بالله، وطلبوا منهم إقامة الحجة على وجود آلهة غير الله. ثم قرروا النجاة بدينهم وبأنفسهم بالهجرة من القرية لمكان آمن يعبدون الله فيه. فالقرية فاسدة، وأهلها ضالون
أهم الفوائد العقدية من القصة
ذكر القرآن الكريم لقصة أهل الكهف تهدف في جوهرها إلى:
١- توضيح عقيدة التوحيد بقوله تعالى على لسان الفتية المؤمنين: (وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا).
٢- إظهار وإثبات عقيدة البعث والنشور والإيمان باليوم الآخر في قوله عز وجل: (وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيهَا).
٣- قدرة الله تعالى على الإحياء والإماتة ودلالتها على التوحيد، فإن من دلائل الاعتراف بتوحيد الله قدرته الكاملة والمطلقة على جميع الموجودات، فلا شيء يخرج عن قدرته وعلمه وإدراكه.
فقد جاء ما يدل على هذه القدرة في قصة أصحاب الكهف، بصورة تدهش الناظر، حيث بعث الله هؤلاء الفتية بعد سنين من الإماتة ليدحض دعوى قدرة الله على الإحياء بعد الإماتة، وأطلق الله على هذه القصة آية عجيبة، قال الله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا﴾ [الكهف: ٩].
استعمل القرآن (أم) للإضراب الانتقالي من غرض إلى غرض، ولما كان هذا من المقاصد التي أنزلت السورة لبيانها لم يكن هذا الانتقال اقتضابا بل هو كالانتقال من الديباجة والمقدمة إلى المقصود، على أن مناسبة الانتقال إليه تتصل بقوله تعالى: ﴿فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا﴾ [الكهف: ٦] ، إذ كان مما صرف المشركين عن الإيمان إحالتهم الإحياء بعد الموت، فكان ذكر أهل الكهف وبعثهم بعد خمودهم سنين طويلة مثالا لإمكان البعث. [التحرير والتنوير لابن عاشور].
فالآية اعتبرت قصة إقامة أصحاب الكهف من الرقاد الطويل، رغم دلالتها على قدرة الله تعالى على إحياء الأموات وبعثها يوم القيامة للحساب، أقل عجبا بين الآيات العجاب من قدرات الله تعالى على الكون، ومنها آية خلق السماوات والأرض وهي أكثر روعة وعجبا، وكذا الحادثة الكبرى التي تنتظر الكفار الذين ينكرون يوم البعث للجزاء، وفي ذلك إيقاظ الغافلين عن قدرة الله العظيمة في هذا الكون. وقد عقد ابن عاشور وجه المقارنة بين معجزة أصحاب الكهف والقيامة الكبرى، يقول: “أحسبت أن أصحاب الكهف كانوا عجبًا من بين آياتنا، أي أعجب من بقية آياتنا، فإن إماتة الأحياء بعد حياتهم أعظم من عجب إنامة أهل الكهف. لأن في إنامتهم إبقاء للحياة في أجسامهم وليس في إماتة الأحياء إبقاء لشيء من الحياة فيهم على كثرتهم وانتشارهم”.
٤- حماية الدين والاعتقاد الصحيح، وعدم التعرض للفتن التي تهز الكيان، وتدب الخوف والشك في أصول الإيمان، فقد دلت الآيات البينات أن أصحاب الكهف فروا بدينهم وهاجروا أهلهم وديارهم من أجل الحفاظ على الدين والبقاء على التوحيد الخالص، يقول الله تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾ [الكهف: ١٣].
٥- إثبات التوجه إلى الله تعالى بالدعاء في جميع الأمور، لا سيما الأمور العظام، لأن الله هو القادر القيم على كل شيء، والتوجه الصادق بالدعاء إلى الله يعطي الدلالة الكبيرة على اليقين والتوكل الحقيقي من الإنسان الضعيف، والرغبة الشديدة منه لما عند الله، وفي ذلك إثبات توحيد الألوهية التي من أجلها خلق الإنسان، ويحقق المقاصد الغائية من الخلق، وهي عبادة الله ووتحقيق توحيد القصد والطلب. وإن أصحاب الكهف تضرعوا في ظرف صعب، وسألوا الله النجاة من الفتن الحالة بهم، وبادروا إلى الابتهال بعد الإيواء إلى الكهف، يقول الله تعالى: ﴿إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا﴾ [الكهف: ١٠].
جاء في التحرير: ودعوا الله أن يؤتيهم رحمة من لدنه، وذلك جامع لخير الدنيا والآخرة، أي أن يمن عليهم برحمة عظيمة تناسب عنايته باتباع الدين الذي أمر به .. ثم سألوا الله أن يقدر لهم أحوالا تكون عاقبتها حصول ما خولهم من الثبات على الدين الحق والنجاة من مناوأة المشركين.
فعبر عن ذلك التقدير بالتهيئة التي هي إعداد أسباب حصول الشيء.
وقد استجاب الله دعوتهم وحقق لهم مرادهم، وهيأ لهم من الأحوال الطيبة المحققة للخير والصلاح، ومن ذلك: صرف أعدائهم عن تتبعهم – وألهمهم موضع الكهف – ووضع الكهف على جهة صالحة ببقاء أجسامهم سليمة. – وأنام أصحاب الكهف نوما طويلا ليمضي عليهم الزمن الذي تتغير فيه أحوال المدينة – وحصل رشدهم (الخير والصلاح) إذ ثبتوا على الدين الحق وشاهدوه منصورا متبعا – وجعلهم الله آية للناس على صدق الدين وعلى قدرة الله وعلى البعث
أما الإشارات العلمية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها الواردة ضمن سياق هذه القصة المهمة فهي تابعة للحقيقتين أعلاه ودالة عليهما، وسوف نتحدث عن ذلك لاحقًا. وقد بدأت حقائق العلم ونواميس الكون المكتشفة تفسر لنا كثيرًا من إشارات القرآن الكونية وتكشف لنا عن كنوزه وتخدمنا في فهم معانيه وبيان صدقه وأنه كلام الله عز وجل الذي أحاط بكل شيء علمًا، قال تعالى (قُلْ أَنزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا) [الفرقان: ٦]
يقول الدكتور إبراهيم الخولي [الأستاذ بكلية اللغة العربية في جامعة الأزهر عن قصة أهل الكهف]: (إن القرآن الكريم حريص بصفة عامة في قصصه على عدم النص على الأشخاص أو الأماكن أو الأعداد وغيرها من التفاصيل التي لا ضرورة لها فيما يتصل بالمغزى والسباق لما يريده ومع هذا يشير إلى قرائن يستطيع المدقق أن يكتشف من خلالها حقائق كثيرة كأنما يقصد القرآن بذلك تحميل نصوصه كنوزاً خفية من آيات يجليها للناس حيناً بعد حين)، والقصة- بعدُ- بمناسبتها الزمنية، وأدوارها التاريخية، وشخصيتها الواقعية، قد صورت إيمانًا وإصرارًا، وهدت إلى موعظة حية، وصححت مفاهيم مُعتلة؛ لذلك كانت في حاجة إلى بسط شاف في كتاب كبير يُفقه في العقيدة ويُعلم التاريخ ويبسط مسارب النفوس واضحة صريحة وإذ ذاك تقع موقعها المفيد.
٣- إظهار آيات الله وعجائبه في مخلوقاته
فالله تعالى أمر بالتفكر بها حيث أنها لا تقل عجبًا عن آية أصحاب الكهف والرقيم بالرغم من كونها خارقة لقوله تعالى؛ فإن في صفحات هذا الكون من العجائب ما يفوق قصتهم.
٤- المطالبة بالدليل العلمي:
القرآن الكريم زاخر بالأدلة العلمية والبراهين العقلية على وجود الخالق والإيمان به وحده لا شريك له وببقية أركان الإيمان في حين أن المشركين والملحدين ليس لهم الأدلة العلمية الواضحة على صدق دعواهم، والسلطان البين هو الدليل والبرهان الواضحان.
٥- الاهتمام في المناقشات والأبحاث على الأمور الأساسية والمفيدة:
يوجهنا القرآن الكريم دائمًا إلى التركيز على الأمور العملية النافعة ويوصي بالابتعاد عن الأمور النظرية والتي لا تنفع ولا يترتب عليها عمل مفيد كعدد أصحاب الكهف أو أسمائهم في قوله تعالى (فَلا تُمَارِ فِيهِمْ إِلا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا).
الإشارات العلمية العامة في السورة
الأسلوب العلمي البليغ في بيان ملخص القصة أولاً ثم التفاصيل ثانيًا: فالآيات الأربع الأولى من السورة (٩-١٢) التي تبدأ بها القصة ذكرت مجمل وخلاصة الأحداث (الموجز) ثم ذكرت التفاصيل في الآيات الأربع عشر التالية (١٣-٢٦) بدليل ذكر مدة رقودهم في الموجز بقوله تعالى: (فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا)، ثم بين هذه المدة بعد ذلك في التفصيل في آخر آية من قصتهم.
ولقد بدأت السورة بهذا الافتتاح المجلجل بإنذار من ينسبون الولد لله براعة استهلال جيدة تمهد للقصة في السورة الكريمة حين تعلن حقيقة التوحيد سافرة صريحة على لسان أصحاب الكهف، إذ يقول الله عز وجل عنهم: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ..) [الكهف: ١٣-١٦]. وتمضى السورة مُتحدثة عن القصة في إيجاز مُعبر وتصوير مُوح دال حتى إذا أوفت على نهايتها شاء الله أن يعود إلى حديث التوحيد الخالص، فيقول عز وجل: (وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَّلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا) [الكهف: ٢٥-٢٦]
وإذن فهذا الزمن المشرك الذي اختلط فيه معنى التوحيد اختلاطًا ملتبسًا لدى أتباع المسيح كان ظرفًا مهيأً لبعث هؤلاء الفتية ليعلنوا حقيقة الاعتقاد الصحيح ليعيدوا إلى عقيدة المسيحية روحها الأولى كما دعا إليها المسيح عيسى ابن مريم حين يجهرون وسط المحتفلين ببعثهم الخارق بأن الله واحد ما لهم من دونه من ولى ولا يُشرك في حكمه أحدًا، وحين يعلنون أنهم فروا من تعدد الآلهة حين اضطهدهم “دقيانوس” الوثني فآووا إلى الكهف هاتفين: (رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا) [الكهف: ١٤]، وتلك إحدى آيات الله في بعثهم الخارق ونشرهم المعجز بعد أكثر من ثلاثمائة عام.
وإذا كانت العامة حينئذ قد ضلت سبيل التوحيد فإن ذوي العقول من مُتعاطي الفلسفة ومجادلي القضايا الفكرية قد وقعوا في ضلال مُماثل حين أخذت الأفلاطونية الحديثة تغمر الفلسفة المسيحية إذ ذاك بضباب قاتم يطمس لآلئ الحقيقة، فأخذ مفكرو المسيحية بنظرية العقول المتعددة تأثراً بفلسفة
اليونان؛ إذ تجعل من العقول المتعددة ما يرمز إلى الأب والابن وروح القدس، لتوائم بين الوثنية القديمة في فلسفة الإغريق وما تظنه يتصل بما جاء به المسيح عن السماء!
ونحن نعرف أن الأفلاطونية الحديثة قد تأثرت بالإغريق غربًا والهند شرقًا، فأخذت نظرية العقول من الإغريق، وأخذت انبثاق الابن عن الأب الإله من الهند، ومزجت ذلك كله في فلسفة تفسر ما تظنه ديانة المسيح، وقد كان لها رجالها الأعلام ودعاتها المؤثرون فألبسوا العقيدة لباسًا تنكره دعوة التوحيد، وشاركوا العامة في تعدد الإله، وإذ اختلفت وجهات النظر في كيفية هذا التعدد فكان مبعث أهل الكهف هاتفين بالتوحيد الخالص تصحيحًا لما ارتطم فيه العامة والخاصة من ضلال لو وجدوا من يستجيب للحق لوجهه الصحيح.
وأكبر ما هز دعاة الأفلاطونية من بعث أهل الكهف هو تحطيم مبدئهم الفلسفي في الإيمان بالعلية التي ترتبط السبب بالمسبب وتتنكر للمعجزات والخوارق؛ لأن بعث هؤلاء بعد أكثر من ثلاثمائة عام أمر خارق يحطم هذه العلية المقدسة لدى المفكرين من دعاتها المتحمسين، ويجعل الخوارق ذات مكان معقول لا يذهب به التفكير مذهب الاستحالة المتعذرة، وإذًا فقد جاء أصحاب الكهف ليقولوا لدعاة الأفلاطونية الذين يصرون على ربط الأسباب بالمسببات دائماً دون معجزة تخرق المنطق المعقول: لقد قمنا من النوم بعد ثلاثمائة عام على غير ما تتوقعون فأين ذهب إيمانكم بمبدئكم الفلسفي في إنكار المعجزات؟
وإذا كان بعض دعاة الأفلاطونية قد أنكر البعث الأخروي مدعيًا استحالته، فإن مبعث أهل الكهف قد هدم هذا الإنكار، وجاء دليلاً ملموسًا على البعث النهائي؛ تصديقًا لقول الله عز وجل: (وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ ….) [الكهف: ٢١]
أهل الكهف وإمكانية البعث
لقد جرت أحداث هذه القصة في بداية الدعوة المسيحية حين كانت تعاني الضغط الوثني.
وفي تاريخ المسيحية تفصيل لقصة المسيحيين الذين فروا من بطش الرومان المتعصبين للوثنية وظلم الامبراطور الذي كان يحكم روما فآوى فتية مخلصون إلى الكهف الذي عثرت عليه الحفريات الحديثة وناموا في الكهف سنين عديدة، ثم بعثوا الى الحياة في عصر الامبراطور المسيحي الصالح ثيودوسيس الثاني الذي كان على عرش الامبراطورية الشرقية، وكان بعثهم استجابة من الله تعالى لدعاء هذا الامبراطور الصالح التقي، الذي طلب من ربه الحجة والبرهان على وجود البعث من القبور، فبعث الله أولئك الفتية من قبورهم بالكهف فازدادوا اطمئنانًا.
فقصة أهل الكهف حجة تاريخية على إمكانية البعث، وهي في نفس الوقت تحليل فلسفي عميق لفكرة الزمان، والانسان، ومحاولة الانسان لمعرفة الزمان وقياسه؛ ذلك لأن الزمان الذي يفزع قريشًا، وتتخذه سلاحًا لانكار البعث ليس إلا تحديدات مصطنعة لتوقيت الاحداث.
فهي شرح -ميتافيزيقي فلسفي- للدليل على امكان البعث، فما دام الانسان يصارع الزمان أي ما دام الصراع مستمرا بين الكائن البشري وبين الزمان؛ لان هذا الكائن يرفض انتصار الزمان الموت النهائي الذي لا حياة بعده، ولا بعث، فالإيمان الإنساني بالبعث انتصار على الزمان.
وقضية البعث معادلة بين عقل الانسان وقلبه لئلا يختل في إطار مشكلة النهاية، وكما يرى بعض المفكرين هي معادلة العقل والنفس والزمان بمعادلة الواحد الصحيح يساوي صفرًا، وان الحياة الايجابية لا تبدأ إلا من عدد اثنين، إذ كل حركة يجب أن تقابلها وتعادلها حركة أخرى، وكل قوة يجب أن تقابلها قوة حسب قانون التضاد فيجب اذن التعادل بين قوة الايمان، ونشاط العقل، ونشاط الإيمان، وأزمة الانسان تنشأ عن اختلال التوازن بين العقل والقلب.
واذا كان الانسان يصارع الزمان، وهو بدوره يصارع الانسان من جهته، ثم إذا كان الزمان ناتجًا عن إحساس العقل الانساني، فلا يمكن قهر الزمان إلا عن طريق الايمان بالبعث.
فإذا حاول الانسان أن يعي القضايا والأحداث بعقله دون تدخل الايمان، فانه سيسقط فريسة انتصار الزمان العقلي ليقتنع بالفناء وأن الزمان حقيقة صلبة والأحداث سلسلة مخيلاته وما التاريخ إلا استمرار لها. أما الإيمان فيقرر حركة الزمان التي إذا تعطلت توقف الزمان والبعث وحده وهو الذي يظهر مقياس الزمان. وهكذا استطاعت قصة (أهل الكهف) التي أظهرت انتصار الايمان على العقل أن تفسر حقيقة الزمان وتؤكد البعث بالمشاهدة، وبذلك استسلم الدهريون لهذه الحجة المقنعة.
فقصة أهل الكهف دليل على وجود البعث وهذا هو مفهومها العميق في الدراسات الاسلامية.
هذه حقيقة القصة، وهذه أبعادها الدينية، أما اليهود الذين أثاروا الاسئلة، وأما المسيحيون الذين اختلفوا في رواية القصة فليختلفوا ما شاءوا وليقولوا رابعهم كلبهم، أو خمسة سادسهم كلبهم، فكل ذلك افتراضات وحوار شكلي، فالله أعلم بعدتهم، وعلى الانسان أن يهتم بعمق القضية لا بشكلها، فلا اليهود استفادوا منها فتحولوا عن التعصب إلى الإيمان ولا المسيحيون استفادوا منها كذلك فاتعظوا، وانما آثروا الخلافات الشكلية فقط.
أما عمق القصة فهو الذي يوجه الإسلام إليه وهو أن البعث واجب، وأن الزمان نسبي مع تنمية الافكار الميتافيزيقية في حوار أهل الكهف مع أهل المدينة الجديدة، ثم المظهر العميق لتغير الاجيال، والبرهنة على البعث بالاستشهاد التاريخي على حقيقة وقوعه، فلا كفر بعد أن اظهر الاسلام حقيقة الدين، ولا مجال للعناد والتشبث بالأقوال الشكلية والفرار من الواقع والحجة الدامغة والتدرع بالأسباب الواهية ليستمر الإنسان على الكفر؛ قصد تحقيق أنانيته وشهوته ومصالحه على حساب غيره فيستحق عقاب ربه جزاء كفره بالخلود.
وقضية البعث التي يثيرها المكذبون بالدين يعتمدون فيها على اعتراضين:
أولهما: أن الجسم يتلاشى في مدة محدودة، ولهذا فلا يمكن الاحتفاظ به أو بمقوماته،
ثانيهما: أن الزمان في دورته يبيد الأجسام في مدة معلومة رياضية مضبوطة.
فجاءت قصة أهل الكهف لترد على المكذبين في الناحيتين معًا، من “طبيعة الجسم” الذي يتلاشى لأسباب فسيولوجية والله قادر على إعادة خلقه كما كان أول مرة، وفي تحليل حقيقة الزمان ومفهومه من الناحية الطبيعية والإحيائية، ومن الناحية الرياضية الفلسفية ومن الناحية الصوفية، مع ملاحظة تلازم تفسير الزمان بعلاقته مع الإنسان العلمية والفيزيائية، ولهذا تؤكد الآية عن العلاقة بين الإحياء والزمان، وعلماء الفيسولوجية يتكلمون عن الزمان (البيولوجي) أي الزمان المختص بعلم الأحياء فيلاحظون أن الزمان يسير ببطء بالنسبة للأطفال، ويسير بسرعة بالنسبة للكبار، وهذه الظاهرة تقوم على أساس دورة الحياة في الخلايا التي تتحرك زمان أوليتها فتشعر الطفل بطول الزمان، وقلة حوادثها في الكهولة فتشعر بالعكس، وانعدامها في الموت موقف لحركة الزمان، كما في قصة الكهف؛ لأن ركود الخلايا هو قياس الزمان بالحوادث وبحركة الأفلاك، لأن الخلايا تحيا بالأحداث وتتجدد فيها، وعلى هذا، فالزمان يقاس بالأحداث، وتدخل العقل الإنساني هو الذي يربطه بالفلك وحركته ليضبط التاريخ.
ففي عالم الحيوان حيث لا يوجد عقل نشاهد قياسها للزمان بالأحداث فقط، فمن ضيق التفكير والتعصب إنكار البعث بحجة طول الزمان،
وفي علم الأحياء عجائب دالة على رأي علماء البيولوجيا إذ أن زمان نضج حقول القمح محدد بتوقيت عجيب، زمان نضج الفواكه محدد كذلك، وبعض الطيور تتجه نحو الجنوب في وقت مضبوط معين من كل سنة، والجراد يغادر شعوبه تحت الأرض المظلمة في وقت محدد، والأسماك البحرية تبيض في وقت مضبوط، فهذه الكائنات الحية تعيش في نظام زمني ولكنها لا تعيه، فإذا كانت الفصول دافعة لذلك في بعضها، فإن حالات بعض الحيوانات الأخرى لا علاقة له مطلقًا بالفصول، وعليه محجة حساب الزمان باختلاف الليل والنهار إنما هو بالنسبة للبشر على سطح الكرة الأرضية، وليست له علاقة بالكون كله في مجموعه لأن توقيت الزمان هداية من الله والاعتماد فيه على اختلاف الليل والنهار هو هداية من الله كذلك، وكما قال تعالى: “فأووا الى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته”، وقد انطلق الانسان من ذلك فسجل حركة الزمان بالأهرام والخامات الشمسية، واهتدى للساعات التقنية،
أما من الناحية النظرية
فالانسان يعيش في نسبية الزمان، ويقترب من الإدراك الكامل للزمان، وكلما اقترب منه إدرك بعض قوانين الكون الأبدية والإيمان بمعرفة خالقه تعالى، واذًا فالزمان هو حجة على المكذبين بالدين، وعلى ذلك فالإيمان بالبعث حتمية علمية وشعور الإنسان بانتصاره على الموت التي تعتبر أول معضلة واجهها الإنسان، وفشل في كل تحدياته لها إلا عن طريق الإيمان بالبعث، وقد تحدى الانسان الموت بفراره من العدم وتحنيط المومياء حيث أزرت الكهانة والنباتية لنجعل من جسم الانسان مومياء تنتظر عودة الروح، وحاول العلماء الطبيعيون والأطباء تحقيق استمرار عضوي، واعتبار الموت مرضًا يمكن علاجه، وقد عكف علماء -كريوجنزاسيون- على تجميد الأعضاء، ثم محاولة إحيائها اعتمادًا على حيوية خلايا الدماغ (لانزيم) مما يؤكد علميًا حقيقة البعث، لأن خلايا الجسم عند الانجماد تحتفظ بحيويتها.
أما من الناحية الرياضية
فإن المعادلات تؤكد نسبية الزمان في حركة الكواكب والنجوم، والرحلات الفضائية التي تجري في عدة شهور ما يعادل السنوات، ولأن الزمان الرياضي يخضع لقانون النسبية ويؤيد العلم الحقائق الدينية، ففي علم الفلك كان التقدم العظيم للفكر في فهمه لنطاقه المحدود أمام السديميات السحيقة في البعد، وأمام ملايين السنين الضوئية حيث تمتد إلى اللا نهاية التي يستحيل إدراكها بله الوصول إليها، وحيث لا يجد الفكر وسيلة للمعرفة بالكم والعلاقة والحالة والمقولات، هنا يقف العلم أمام الحقائق الدينية معترفًا بها مقرًا لها.
وتؤكد نسبية الزمان النظرية حول الطواف بالكرة الأرضية ابتداءً من الشرق إلى الغرب لتكون النتيجة ظهور تغيير الوقت بين حركة الساعات التي رغم ضبطها بساعة ذرية، وتقدير الكثافة، فإن وجود الفرق ولو كان ضئيلًا دليل على نسبية الزمان، وقد قدر الفرق بمقدار واحد على مائة ألف مليون من الثانية، ويستنتج من ذلك أن الزمان يتغير حسب البعد المكاني مما يجعل أن تكون الرحلة التي تستغرق اثنين وثلاثين سنة أرضية بسرعة قريبة من سرعة الضوء تجعل القائمين بها يكبرون في العمر أربع سنوات وثلثي السنة بالنسبة لقرنائهم الذين يكونون في السنة الثانية والثلاثين.
فمن هم أهل الكهف وما هي قصتهم؟
قصة أهل الكهف
جاء ذِكْر أصحاب الكهف في القرآن الكريم في سورة: “الكهف” وقال الله ـتعالى ـ لنبيِّه ﷺ: (نَحْنُ نَقُصُّ عليكَ نَبَأَهُمْ بالحقِّ إنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وزِدْنَاهُمْ هُدًى).
وقد قيل أن الكهف اسمه الرقيم، وقال آخرون أن الرقيم هو اسم حجر على باب ذلك الكهف دونت عليه أسماء أولائك الفتية المؤمنين.
وقيل أن البلدة التي يوجد بها ذلك الكهف هي قرية الرقبم الرجبب في الأردن وتبعد عن عمان خمسة كم. وهي على ما وردت به الروايات: أنه كان بمدينة “أفْسُوس” أو طَرْسُوس ـ بآسيا الصغرى ـ ملِك اسمه دَقْيَانُوس، وكان يدعو أهل مملكته إلى عبادة غير الله، ويَظلمهم، ويُعذبهم إن هم خالفوا أمره، وكان في البلدة فِتْيَةٌ آمنوا بربهم وقَرَّروا فيما بينهم الفِرار من ظلم ذلك الملك وعسَفه، فخرَجوا، وآوَوْا إلى كهفٍ في الجبل، واتَّخذوه مأوًى لهم يَعبدون الله فيه، ولم يُذكَر في الروايات أنهم نبَّهوا أهلهم أو لم يُنبهوهم، وأغلب الظنِّ أنهم أسَرُّوا إلى المُقرَّبينَ إليهمْ مِن أقاربهم بسَفرهم حتى لا يكون في غِيابهم همٌّ أو غَمٌّ لأهلهم وخاصةً الآباء والأمهات، وأهلُ الله يُحبُّون دائمًا أن لا يَكونوا مصدر قلَقٍ وحُزن لغيرهم وخُصوصًا إذا كانوا أقرب المُقرَّبينَ إليهم وأغلب الظن ـأيضًا- أنهم وإنْ كانوا أَخْبَرُوهم بالسفر فإنهم لم يُخبروهم بالمكان.
ففي زمان ومكان ما، كانت توجد قرية مشركة ضل ملكها وأهلها عن الطريق المستقيم، وعبدوا مع الله مالا يضرهم ولا ينفعهم، ومع ذلك كانوا يدافعون عن هذه الآلهة المزعومة، ولا يرضون أن يمسها أحد بسوء، ويؤذون كل من يكفر بها، ولا يعبدها.
في هذا المجتمع الفاسد، ظهرت مجموعة من الشباب العقلاء.
فكما ذكر ابن كثير في البداية والنهاية: …. واتفق اجتماعهم في يوم عيد لقومهم فرأوا ما يتعاطاه قومهم من السجود للأصنام والتعظيم للأوثان فنظروا بعين البصيرة وكشف الله عن قلوبهم حجاب الغفلة وألهمهم رشدهم فعلموا أن قومهم ليسوا على شيء فخرجوا عن دينهم وانتموا إلى عبادة الله وحده لا شريك له.
ويقال: إن كل واحد منهم لما أوقع الله في نفسه ما هداه إليه من التوحيد انحاز عن الناس واتفق اجتماع هؤلاء الفتية في مكان واحد، كما صح في البخاري “الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف” فكل منهم سأل الآخر عن أمره وعن شأنه، فأخبره بما هو عليه، واتفقوا على الانحياز عن قومهم والتبري منهم والخروج من بين أظهرهم والفرار بدينهم منهم. -وهو المشروع حال الفتن وظهور الشرور- قال الله تعالى: “هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لولا يأتون عليهم بسلطان بين” أي: بدليل ظاهر على ما ذهبوا إليه ، وصاروا من الأمر عليه “فمن أظلم ممن افترى على الله كذبًا وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله” أي: وإذ قد فارقتموهم في دينهم وتبرأتم مما يعبدون من دون الله -وذلك لأنهم كانوا يشركون مع الله-، كما قال الخليل: “إنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين” [الزخرف: ٢٦-٢٧]. وهكذا هؤلاء الفتية قال بعضهم لبعض: إذ قد فارقتم قومكم في دينهم فاعتزلوهم بأبدانكم لتسلموا منهم أن يوصلوا إليكم شرًا “فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ويهيئ لكم من أمركم مرفقًا” أي: يسبل عليكم ستره، وتكونوا تحت حفظه وكنفه، ويجعل عاقبة أمركم إلى خير -كما جاء في الحديث: “اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا ومن عذاب الآخرة”
ثلة قليلة حكّمت عقلها، ورفضت السجود لغير خالقها، الله الذي بيده كل شيء. فتية، آمنوا بالله، فثبتهم وزاد في هداهم. وألهمهم طريق الرشاد.
عزم الفتية على الخروج من القرية، والتوجه لكهف مهجور ليكون ملاذا لهم.
خرجوا ومعهم كلبهم من المدينة الواسعة، للكهف الضيق.
تركوا وراءهم منازلهم المريحة، ليسكنوا كهفًا موحشًا.
إن هذا ليس بغريب على من ملأ الإيمان قلبه، فالمؤمن يرى الصحراء روضة إن أحس أن الله معه، ويرى الكهف قصرًا، إن اختار الله له أنيسا. وهؤلاء ما خرجوا من قريتهم لطلب دنيا أو مال، وإنما خرجوا طمعًا في رضى الله. وأي مكان يمكنهم فيه عبادة الله ونيل رضاه سيكون خيرًا من قريتهم التي خرجوا منها.
استلقى الفتية في الكهف، وجلس كلبهم على باب الكهف يحرسه، وهنا حدثت معجزة إلهية، لقد نام الفتية ثلاثمائة وتسع سنوات.
وخلال هذه المدة، كانت الشمس تشرق عن يمين كهفهم وتغرب عن شماله، فلا تصيبهم أشعتها لا في أول النهار ولا آخره.
وكانوا يتقلبون أثناء نومهم، فكان الناظر إليهم يحس بالرعب لأنهم نائمون ولكنهم كالمستيقظين من كثرة تقلّبهم.
بعد كل هذه المدة، بعثهم الله مرة أخرى.
استيقظوا من سباتهم الطويل، لكنهم لم يدركوا كم مضى عليهم من الوقت في نومهم. وكانت آثار النوم الطويل بادية عليهم. فتساءلوا: كم لبثنا؟! فأجاب بعضهم: لبثنا يومًا أو بعض يوم. لكنهم تجاوزوا بسرعة مرحلة الدهشة، فمدة النوم غير مهمة. المهم أنهم استيقظوا وعليهم أن يتدبروا أمورهم، فأخرجوا النقود التي كانت معهم، ثم طلبوا من أحدهم أن يذهب خلسة للمدينة، وأن يشتري طعامًا طيبًا بهذه النقود، ثم يعود إليهم برفق حتى لا يشعر به أحد. فربما يعاقبهم جنود الملك أو الظلمة من أهل القرية إن علموا بأمرهم. فقد يخيرونهم بين العودة للشرك، أو الرجم حتى الموت.
خرج الرجل المؤمن متوجها للقرية، إلا أنها لم تكن كعهده بها؛ لقد تغيرت الأماكن والوجوه. تغيّرت البضائع والنقود.
أخذ يتأمل الطريق الذي تغير عما كان أثناء خروجهم فأخذ يسأل المارة الذين أكدوا له أنه هو الطريق، وصل إلى المدينة فأصابه الذهول من هول ما رأى لقد تغيرت كثيرًا عما كانت عليه
المعابد التي كانت تضم تماثيل الآلهة الرومانية تغيرت إلى كنائس تضم تماثيل للمسيح عليه السلام وأمه، الناس الذين يقسمون بالآلهة أصبحوا يقسمون بالمسيح وأمه .. يقسمون بالصليب المقدس
تعجب كثيرًا مما رأى أخذ يسأل في خفاءٍ وعلى استحياءءٍ عن الصليب المقدس، وعن هذه التماثيل المنصوبة فكان الناس ينظرون إليه متعجبين سائلين: هل أنت وثني؟! ألست مسيحيًا؟!
استغرب كيف يحدث كل هذا في يوم وليلة.
وبالطبع، لم يكن عسيرًا على أهل القرية أن يميزوا دهشة هذا الرجل. ولم يكن صعبًا عليهم معرفة أنه غريب، من ثيابه التي يلبسها ونقوده التي يحملها.
لقد آمنت المدينة التي خرج منها الفتية، وهلك الملك الظالم، وجاء مكانه رجل صالح.
وبعد أن ثبتت المعجزة، معجزة إحياء الأموات. وبعد ما استيقنت قلوب أهل القرية قدرة الله سبحانه وتعالى على بعث من يموت، برؤية مثال واقعي ملموس أمامهم قبض الله أرواح الفتية. فلكل نفس أجل، ولا بد لها أن تموت.
أما عن الدروس المستفادة من تحليل قصتهم
فقصة أهل الكهف ذائعة مُشتهرة، وقد شرح المفسرون سورة الكهف شرحًا يجلوها أمام من تخفى عليه رائعات المعاني وغامضات الإشارات؛ ولكن تعدد الشرح لا يمنع أن نتحدث عن السورة الكريمة بما نعتبره كالجديد لدى بعض القارئين؛ إذ لا يكفى أن تفهم أحداث السورة بعيدًا عن مسرحها التاريخي حيث يُحدد الإطار الدقيق لملامحها الخافيات.
لقد بعث الله أصحاب الكهف في زمن مُعين تبرز أحداثه الحكمة الخالصة في بعث هؤلاء القوم من سُباتهم العميق، إذ إن دعوة عيسى عليه السلام كانت في عهده دعوة التوحيد الخالص وكذلك دعوات الأنبياء جميعًا من لدن آدم عليه السلام إلى خاتم النبيين محمد ﷺ تصديقًا لقول الله عز وجل: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّىٰ بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ وَعِيسَىٰ ۖ أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ۚ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ۚ الله يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ) [الشورى: ١٣]
هذه الدعوة الخالصة لله ذات التوحيد الخالص قد حُرفت بعد فترة وخرجت عن لبابها الإلهي إلى شرك يتجه وجهة التثليث ويتحدث عن الأب والابن وروح القدس، وقد تشعب الجدل بين رؤساء الكنائس دون أن يتجه وجهة الصواب حتى افتتن الناس وضلوا معنى الألوهية المنفردة بالكمالُ، فشاء الله عز وجل أن ينهض أصحاب الكهف من رقادهم الطويل ليعلنوا كلمة التوحيد الخالص لمن حادوا عن الطريق، وليذكروا هؤلاء بالإله الواحد فاطر السموات والأرض وبتنزيهه عن الأبوة والبنوة وما يمت إلى البشرية من صفات، وتجسد أدلة ذلك في مفتتح سورة الكهف، إذ يقول الله عز وجل: (الْحَمْدُ الله الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِن لَّدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ الله وَلَدًا مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا) [الكهف: ١-٥]
– وكما كان بعث أصحاب الكهف مفاجأة لمن حرفوا دعوة عيسى من اعتقادها الصحيح، فقد كان نزول سورة الكهف على رسول الله ﷺ مفاجأة مماثلة لمشركي مكة؛ حيث أرادوا أن يُعجزوا النبى ﷺ بما ظنوه ليس في مقدوره، فأرسلوا وفدًا من المشركين إلى يهود المدينة؛ ليعلموا من الأحبار ما يظنون أنه سلاح هدم لدعوة الإسلام؛ وقد سأل عنه الأحبار أسئلة من يتطلع إلى معرفة أمر يتضايق من وجوده، ثم أعملوا تفكيرهم في ابتداع أسئلة يظنونها ذات إجابة مُستعصية، فإذا لم يستطيع رسول الله ﷺ أن يجيب عنها كان ذلك مصدر تشهير به، واستهانة بدعوته.
أما المفاجأة الكبرى في هذا المقام فهي مُفاجأة المشركين بدعوة التوحيد في قصة أصحاب الكهف، إذ أعلنت إيمانهم بالوحدانية، وأكدت ما يدعو إليه النبي ﷺ حين حارب الأصنام وعادى المشركين، فماذا عساهم يقولون في حديث فتية آمنوا بربهم فزادهم هُدى وربط على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض لن ندعو من دونه إلهًا لقد قلنا إذن شططًا، لقد نزلت السورة الكريمة شافية صدور قوم مؤمنين، ومُلجمة لمشركي مكة ومُحيرة أحبار اليهود بالمدينة الذين أذهلهم تفصيل القصة على نحو دقيق لم يكونوا يتصورون أن يحيط به عربي أُمي نشأ في مكة مع الأُميين، ولكنه أتى بالوصف الدقيق، وتعرض لأدق حالات النوم وهم غائبون في الكهف مستترون عن العيون لا يعلمهم أحد غير الله.
وقد أبدعت السورة الكريمة في تصوير هذا البعث المفاجئ وما فيه من حيرة وتساؤل يشملان أهل الكهف أنفسهم ومن بعثوا في عهدهم من الناس، وقد تدرج الأمر حين استيقظ الفتية من النوم وهم يظنون أنهم رقدوا يومًا أو بعض يوم ثم أحسوا بالجوع فطلبوا من أحدهم أن يذهب إلى المدينة فيشترى الطعام وأوصوه أن يكون حذراً كيلا يُدركه الأعداء، وبالغوا في التحذير فهتفوا قائلين فيما حكاه عنهم كتاب الله: (إنهم إن يظهروا….) أما الدهشة الكبرى وهي انتفاضة البعث بعد النوم الطويل فقد أوجزها القرآن إيجازًا بليغًا؛ لأنها برمتها تمثل إطنابًا نفسيًا يمتد ويتسع ليشمل أفسح الفراغات في المشاعر والعقول، وقد عصفت بكل سفسطة وأتت على كل اعتراض.
البعد الاجتماعي في قصة أهل الكهف
ولقصة أهل الكهف بعد اجتماعي آخر ذلك؛ لأن الإنسان إنما يحقق وجوده متلاحمًا مع بيئته، وهذا التلاحم يستلزم وحدة الفكر والمعرفة وأداة ذلك من المصطلحات اللغوية وما يتبع ذلك من معارف فلسفية وعلمية وأخلاقية، كل ذلك على قدر خاص ونسبة معينة، حتى إذا طرأ أي خلل في تحقيق هذه النسب شعر الانسان بالغربة، لأنه لم يعد يفهم الناس أو يفهمه الناس، ولم يعد يعبر عن مصلحته أو يلائم بينها وبين مصالح الناس،
وهذه الغربة التي يعانيها الفلاسفة أو الشعراء الذين تتغير المفاهيم عندهم فتجعل الناس ينفضون من حولهم لتغير البيئة الفكرية،
وهذه الغربة يعبر عنها أصحاب أهل الكهف حين اكتشفوا حقيقتهم وبعدهم الزماني عن معاصريهم فآثروا الموت على الحياة، ولم يتحدوا مع المجتمع وقد اختلفت بينهم وبينه كل القيم، وكان تقدير المجتمع الجديد لهم عظيمًا؛ حيث أصبحوا قديسين فبنيت على قبورهم الهياكل
هذا مجمل لقصة أهل الكهف في الدين وفلسفة القصة كما يراها الاسلام وخصها كثير من رجال الدين بالدراسات، وكان أثرها عظيمًا في الآداب الاسلامية، واعتاد بعض المسلمين أن يتلوها في كل صلاة جمعة، كما اعتاد بعض المتصوفة ان يقرأها يوميًا.
وشرحها الامام الغزالي في كتاب الاحياء حيث أعطاها تفسيرًا صوفيًا، وشغلت الكتاب المسلمين المعاصرين، فاقتبس منها توفيق الحكيم مسرحيته (أهل الكهف) معتمدًا على الروايات الضعيفة في سرد أحداثها.
أما عن مكان الكهف الذي كان به الفتية، فاختلف المؤرخون كثيرًا -كما سنذكر فيما بعد-