الإمام الشاذلي على قدم النبي ﷺ ﴿3﴾
19 نوفمبر، 2024
رجال الصوفية
بقلم الشيخ : محمد رجب أبو تليح اﻷزهري الشاذلي
سبق أن ذكرنا أنه رضي الله عنه وأرضاه كان على قدم الاتباع ظاهرا وباطنا للنبي ﷺ وكان رضي الله عنه يوصي تلامذته بذلك دائما ويقول : ما ثَمَّ كرامة أعظم من كرامة الإيمان ومتابعة السنة فمن أعطيهما وجعل يشتاق إلى غيرهما فهو عبد مفتر كذاب أو ذو خطأ في العلم بالصواب كمن أكرم بشهود الملك فاشتاق إلى سياسة الدواب ) فنال رضي الله عنه باتباعه للسنة محبة النبي ﷺ فتولاه بالتربية الباطنية تربية القلوب والأرواح ونال من حضرته الرقي في الدرجات السنية . قال الشيخ أبو عبد الله الشاطبي : ( كنت أترضى على الشيخ في كل ليلة كذا وكذا مرة وأسأل الله به في جميع حوائجي فأجد القبول في ذلك معجلا فرأيت رسول الله ﷺ فقلت : يا رسول الله إني أترضى على الشيخ أبي الحسن في كل ليلة بعد صلاتي عليك وأسأل الله به في حوائجي أفترى علي في ذلك شيئا إذ تعديتك ؟ فقال لي : أبو الحسن ولدي حسا ومعنى والولد جزء من الوالد ومن تمسك بالجزء فقد تمسك بالكل وإذا سألت الله بأبي الحسن فقد سألته بي ) . انتهى من شرح البناني ) .
وهذه مشاهد تثبت تشابه حاله رضي الله عنه بحال جده رسول الله ﷺ
١ – حال الخلوة والتفكر وعبادة الله عزّ وجل:
كان له هناك رضي الله عنه مغارة كان يسكنها ويتعبد فيها لله عزّ وجل حتى جاءه الأمر بالنزول إلى الناس ومخالطتهم قال رضي الله عنه : قيل لي : ( يا علي اهبط إلى الناس تنتفع بك ) . فقلت : يا رب أقلني من الناس فلا طاقة لي بمخالطتهم . فقيل لي : انزل فقد أصحبناك السلامة ورفعنا عنك الملامة ) .
فهذا حال له رضي الله عنه شبيه بحال رسول الله ﷺ في خلوته وتحنثه في غار حراء في جبل النور بمكة شرفها الله حتى جاءه الوحي وأُمر ﷺ بإبلاغ رسالة ربه عز وجل لعباده ووعد الله له بالأمان في قوله سبحانه : ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ (المائدة / ٦٧)
٢ – مشابهة حال ابتلائه رضي الله عنه لحال ابتلاء النبي ﷺ :
أقامه الله تعالى في حال تحمل الابتلاء والأذى في سبيل الدعوة إلى الله وهداية الخلق فنزل رضي الله عنه تونس وانتفع به الخلق وكثر أتباعه فحدثت وقتها الغيرة عند قاضيها وفقيهها أبو القاسم بن البراء فحسده ووشى به عند السلطان فقال مما قاله له افتراء وكذبا : ( إنه ها هنا رجلا من أهل شاذلة سواق الحمير يدعي الشرف وقد اجتمع عليه خلق كثير ويدعي أنه الفاطمي ويشوش عليك في بلدك ) .
فهمَّ السلطان بحبسه وأذيته لكن الله تعالى أيده بالنصر والحفظ فأظهر للسلطان كراماته في خاصة نفسه وفي أهل بيته فارتدع عما نوى عليه وكف أذاه عن الشيخ رضي الله عنه وعظمه وأكرمه مما كان سببا في زيادة حقد وحسد ابن البراء وكيده للشيخ رضي الله عنه . ووعد السلطان الشيخ بالأمان في مملكته وسلطانه غير أنه رضي الله عنه أراد الهجرة إلى الديار المصرية وذلك بسبب أمر رسول الله ﷺ له بالهجرة إلى مصر ووعده أن الله سيفتح عليه في مصر ويربي بها مريدين من كبار علمائها وصلحائها وأوليائها . وقد كان فخرج مولانا رضي الله عنه عزيزا مكرما فانتوى الخروج من تونس للحج عن طريق مصر وهنا تتجلى المشابهة في حاله بحال جده رسول الله ﷺ حينما صبر وتحمل الأذى في مكة حتى أمره الله عزّ وجل بالهجرة إلى المدينة المنورة شرفها الله بعدما وصل المشركون في أذيتهم له ﷺ إلى إرادتهم قتله فنجاه الله وحفظه من شرهم ورد كيدهم في نحورهم .
ولما نزل رضي الله عنه
في سنة 642 هـ -1244 م في عهد الملك الصالح الأيوبي إلى مصر سبقته وشاية إلى سلطانها من ابن البراء يحذره منه فأمر سلطان مصر باعتقاله وإحضاره فلما اشتد الكلام بينهما لأنه ذهب إليه ليشفع لبعض القبائل عنده فقال له : بل اشفع في نفسك هذا عقد بالشهادة فيك وجهه إلينا ابن البراء . فقال له الشيخ : ( أنا وأنت والقبائل في قبضة الله عزّ وجل ) . وقام الشيخ ومشى قدر العشرين خطوة فحركوا السلطان فلم يتحرك ولم ينطق فبادروا إلى الشيخ وجعلوا يقبلون يديه فرجع الشيخ إليه وحركه بيده فتحرك فنزل السلطان عن كرسيه وجعل يستحله مما فعله معه ويرغب منه الدعاء . ويستسمحه . والمشابهة هنا بين حاله رضي الله عنه وحال النبي ﷺ في مشهد الهجرة حينما اجتمع ليلة هجرته ﷺ حول باب داره من شباب قبائل قريش أربعون رجلا بسلاحهم ينتظرونه حتى يخرج إلى الصلاة فيقتلوه فخرج عليهم ﷺ وعيونهم مفتوحة لكنهم كالأموات في صورة الأحياء . أليس هذا الموقف كذاك ؟! ألم أقل لكم الشاذلي حاله كحال جده النبي ﷺ .
٣ – حال الهجرة إلى مصر وفيها مشابهة حاله قبل الهجرة إلى مصر وبعدها لحال النبي ﷺ قبل الهجرة من مكة وبعدها فكلاهما قبل كانت فترة شدة وتحمل أذى الخلق والصبر على الابتلاء وبعدهما كان النصر والفتح المبين .
قال رضي الله عنه: ( لما قدمت بلاد المشرق قيل لي: يا علي ذهبت أيام المحن وأقبلت أيام المنن عشرا بعشر اقتد بجدك ﷺ ) .
و( عشرا بعشر ) . في قوله رضي الله عنه هذا تأكيد لمشابهة حاله بحال النبي ﷺ لأنه رضي الله عنه أقام في مصر عشرة أعوام حتى انتقل إلى جوار ربه ورسول الله ﷺ أقام في المدينة عشرة أعوام وبضعة شهور .
رسول الله ﷺ أقام في مكة ثلاثة عشرة سنة ولم يتبعه إلا القليل ممن آمن به قيل: مائة وعشرون صحابيا وبعد الهجرة انتقل عن مائة وعشرين ألف وقيل : انتقل ﷺ عن مائة وثلاثين ألف صحابي رضي الله عنهم أجمعين وكذلك مولانا رضي الله عنه هاجر إلى مصر بأمر رسول الله ﷺ هو ومن تبعه من تلامذته وكانوا قليلا ففتح الله له قلوب العباد قبل أبواب البلاد فتبعه الآلاف ومنهم أربعون صديقا من كمل الأولياء كل واحد منهم بأمة من كبار علماء الأمة ومشايخ الإسلام مصداقا لأمر رسول الله ﷺ . قال رضى الله عنه: ( رأيت رسول اللهﷺ في المنام، فقال لي: يا علي، قلت: لبيك يا رسول الله، قال لي: انتقل إلى الديار المصرية تربي فيها أربعين صديقًا .
وكان ذلك في زمن الصيف وشدة الحر، فقلت: يا سيدي يا رسول الله، الحر شديد، فقال لي: الغمام يظلكم، فقلت: يا حبيبي، أخاف العطش، فقال لي: إن السماء تمطركم كل يوم أمامكم، قال: ووعدني في طريقي بسبعين كرامة ) ، فأمر أصحابه بالحركة وصار متوجهًا إلى المشرق، وكان ممن صحبه في سفره الشيخ الصالح الولي أبو عبد الله يونس بن السماط .
ألم أقل لكم إن الشاذلي على قدم النبي ﷺ
وإلى لقاء آخر وللحديث بقية .