بقلم الدكتور : أحمد بدوي مازن مدرس الحديث الشريف وعلومه بجامعة الأزهر الشريف
مِن جميل ستر الله عز وجل على عباده أن ستر خطاياهم وذنوبهم، وسترهم بعضهم عن بعض، فيحترم بعضنا بعضًا بحسب ما يظهر لنا من جميل الصفات، وبمقدار ستر الله علينا نظهرأمام الناس بثوب بالإيمان والخُلق الحسن، ولذا قال الحسن البصري رضي الله عنه: لَوْ تَكَاشَفْتُمْ لَمَا تَدَافَنْتُمْ. أي لو علم بعضكم سريرة بعض لاستثقل تشييع جنازته ودفنه. فلا يغتر المسلم بثناء الناس عليه.
قال سيدنا عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ لِخَالِدِ بْنِ صَفْوَانَ: عِظْنِي وَأَوْجِزْ. فَقَالَ خَالِدٌ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ , إِنَّ أَقْوَامًا غَرَّهُمْ سِتْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَفَتَنَهُمْ حُسْنُ الثَّنَاءِ، فَلَا يَغْلِبَنَّ جَهْلُ غَيْرِكَ بِكَ عِلْمَكَ بِنَفْسِكَ.
لقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتهمون أنفسهم بالتقصير في حق الله عز وجل، ليس هذا وحسب بل يتهمون أنفسهم بالنفاق، بالرغم من أنهم خير هذه الأمة، وشهد الله تعالى لهم بالعدالة، ورضي عنهم، لكنهم كانوا يحذرون من النفاق.
روى الإمام مسلم عَنْ سيدنا حَنْظَلَةَ الْأُسَيِّدِيِّ رضي الله عنه – وَكَانَ مِنْ كُتَّابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: كَيْفَ أَنْتَ؟ يَا حَنْظَلَةُ قَالَ: قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ، قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ مَا تَقُولُ؟ قَالَ: قُلْتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ، حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ، فَنَسِينَا كَثِيرًا، قَالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَاللهِ إِنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هَذَا، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ، حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ، يَا رَسُولَ اللهِ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «وَمَا ذَاكَ؟» قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ نَكُونُ عِنْدَكَ، تُذَكِّرُنَا بِالنَّارِ وَالْجَنَّةِ، حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدِكَ، عَافَسْنَا الْأَزْوَاجَ وَالْأَوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ، نَسِينَا كَثِيرًا فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي، وَفِي الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ.
لله در أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا سيدنا أبو بكر الصديق وسيدنا حنظلة يتهمان أنفسهما بالنفاق لتغير حالة قلبهما بعد الخروج من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولانشغالهما ببعض حوائج الدنيا، ليس هما فقط بل الفاروق رضي الله عنه يخاف على نفسه النفاق فيأتي لسيدنا حذيفة رضي الله عنه صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله هل هو من المنافقين .
روى البزار في مسنده عَنْ حُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: دُعِيَ عُمَرُ، لِجِنَازَةٍ، فَخَرَجَ فِيهَا أَوْ يُرِيدُهَا فَتَعَلَّقْتُ بِهِ فَقُلْتُ: اجْلِسْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَإِنَّهُ مِنْ أُولَئِكَ، فَقَالَ: «نَشَدْتُكَ اللَّهَ أَنَا مِنْهُمْ» ، قَالَ: «لَا وَلَا أُبَرِّئُ أَحَدًا بَعْدَكَ».
وليس الفاروق رضي الله عنه فقط بل كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك، قَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: ” أَدْرَكْتُ ثَلاَثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ، مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ: إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ “
أما الآن نجد من الناس مَنْ يظن في نفسه أنه أَعلم أهل الأرض، ومَنْ يضعون لأنفسهم ألقابًا حتى يمتدحهم الناس، ومَنْ يظن في نفسه الولاية والصلاح، ومَنْ يَدعى المشيخة وعلم الباطن وأسرارالقلوب.
لقد كان سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه إذا مدحه الناس يقول:
” اللَّهُمَّ أَنْتَ أَعْلَمُ بِي مِنْ نَفْسِي، وَأَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْهُمْ، اللَّهُمَّ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا يَقُولُونَ، وَاغْفِرْ لِي مَا لَا يَعْلَمُونَ ”
فعلينا أن نجعل نُصب أعيينا قول الله تبارك وتعالى “فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى”
اللهم يا عالم السِّر منا لا تكشف الستر عنا، وكنا لنا حيث كنا واغفر لنا وارحمنا، اللهم آمين.