تأملات في مفهوم البدعة للشيخ ايهاب صالح ج3

بقلم الشيخ : ايهاب صالح

3- تعريف البدعة وضوابطها:البدعة لغة: هي كل أمر مستحدث على غير مثال سابق. مثال: كأول كوب تم ابتكاره، وكذلك أول تليفزيون، وأول سيارة، والأزياء، والأكلات، ونحو ذلك.

والبدعة شرعًا: هي كل أمر مستحدث في الدين ليس له أصل شرعي يلحق به.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَن أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد”.

قال ابن رجب الحنبلي: “إن المنطوق في الحديث أن من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو مردود، والمفهوم أن من أحدث ما هو يوافق أمرنا فهو غير مردود”.

إذن التعريف اللغوي للبدعة عام، يشمل كل حركة الحياة، وهي البدعة في الدنيا، وضابطها عدم مخالفة الشرع الشريف.

والبدعة في الدين لكي تكون مذمومة فلها شروط: أن تكون في الدين، وألا يكون لها أصل، وأن تكون بقصد العبادة وليست وسيلة للعبادة.

ومثال وسيلة العبادة بناء المآذن، واستعمال إضاءة الكهرباء في المسجد، ومكبرات الصوت، والخطوط التي توضع في أرض المسجد لتسوية الصفوف، فكل ذلك وسيلة لتنظيم العبادة، وليس بقصد العبادة.

فائدة1: إذن ليس كل أمر مستحدث يكون بدعة مذمومة محرمة.

فائدة2: البدعة قسمان: بدعة في الدنيا، وبدعة في الدين، ولكل قسم ضوابطه.

تقسيمات العلماء للبدعة: قال الإمام الشافعي: “البدعة بدعتان، محمودة ومذمومة، فما وافق السنة فهو محمود، وما خالفها مذموم”، وقال: “المحدثات ضربان، ما أُحدِث يخالف كتابًا أو سنة أو أثرًا أو إجماعًا، فهذه بدعة ضلالة، وما أُحدِث من الخير لا يخالف واحدًا من ذلك، فهذه محدثة غير مذمومة”، ويبدو جليًا فهم الإمام الشافعي للشريعة، وأصولها، وكيفية إلحاق المستجدات على الأصول والقواعد.

وقال الإمام الغزالي: ليس كل ما أُبدِع منهي عنه، بل المنهي عنه بدعة تضاد سنة ثابتة وترفع أمرًا من الشرع. وقال ابن الأثير: البدعة بدعتان، بدعة هدي وبدعة ضلالة، فما كان خلاف ما أمر الله ورسوله فهو في حيز الذم والإنكار، وما كان واقعًا تحت عموم ما نُدِب إليه فهو في حيز المدح.

ثم استكمل العز بن عبد السلام مفهوم البدعة، بأنها تعتريها الأحكام التكليفية الخمسة: (الواجب والمندوب والمباح والمكروه والحرام)، فمثال البدعة الواجبة: جمع القرآن وجمع السنة، والمندوبة: جمع عمر المسلمين في صلاة التراويح جماعة، والمباحة: في الأكل والشرب والملبس، والمكروهة: ما يلهيك عن ذكر الله، والحرام: هي التي تخالف الشرع الشريف.

وعلى هذا النهج، وبهذا المفهوم، سار علماء أهل السُنة، كالنووي، القرافي، أبوشامة المقدسي، ابن دقيق العيد، السبكي، ابن رجب الحنبلي، التفتازاني، الشاطبي، ابن حجر العسقلاني، السيوطي، وغيرهم.

قال ابن تيمية: ما رآه المسلمون من مصلحة، إن كان لسبب أمر حدث بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فها هنا يجوز إحداث ما تدعو الحاجة إليه.

أصحاب الفكر الجامد: رفضوا تقسيم البدعة، وتمسكوا بظاهر النصوص فقط، وزعموا أن هذا التقسيم بدعة في حد ذاته، فالبدعة عندهم لها تعريف واحد، وهو: كل ما لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم. فلا يوجد عندهم بدعة حسنة وسيئة، فكلها بدعة سيئة، واستدلوا بالحديث الشريف: “فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة”، وفسروا “كل محدثة” بأنه لا يوجد في البدعة موافقة للدين وعدم موافقة، بدليل ورود لفظ “كل” الذي يفيد العموم مطلقًا، إذن فكل محدثة بدعة.

الرد عليهم: بحث العلماء في كلمة (كل) وبماذا تفيد، فوجدوا أنها لا تفيد العموم مطلقًا، بل قد يدخلها التخصيص، وهذا من أساليب اللغة العربية، والدليل نجده في القرآن والسنة.

فمثالها من القرآن قوله تعالى (تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ) [الأحقاف:25] وكما هو واضح فكلمة (مساكنهم) لم تدخل في معنى (كل شيء).

وكذلك قوله تعالى (أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءهُم مَّلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا) [الكهف:79]، فالعبد الصالح أراد أن يعيب السفينة لكيلا يأخذها الملك، فهنا نحتاج لدلالة الاقتضاء وتقدير محذوف ليكتمل المعنى، فيكون: يأخذ كل سفينة جيدة صالحة غصبًا.

وأيضًا مثلما جاء بالحديث الشريف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كل ابن آدم خطَّاء، وخيرُ الخطَّائين التوابون”، ومعلوم أن الأنبياء والرسل من بني آدم، ومعلوم أيضًا أنهم معصومون، فيكون لفظ (كل) في الحديث عام دخله الخصوص، فيكتمل معنى الحديث بدلالة الاقتضاء، وتقدير محذوف يفهمه أهل العلم، فيكون: كل ابن آدم – سوى الأنبياء والرسل – خطاء.

وبناء عليه فالحديث الشريف: “فإن كل محدثة بدعة” المقصود منه: كل محدثة خارجة عن الدين، أو تخالف الشرع الشريف بدعة.

كما أن هذا تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة مأخوذ من السنة المطهرة، نجد الحديث الشريف: “مَن سنّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها من بعده إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أجره شيء، ومَن سنّ سنة سيئة، كان عليه وزرها، ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء”. فالنبي صلى الله عليه وسلم هنا يشير إلى وجود سنة حسنة، وسنة سيئة، فقال البعض إن هذا الحديث يعني السنن المهجورة،

ولكن هذا الرأي لا يستوي، حيث ذكر رسول الله السنة السيئة، في قوله صلى الله عليه وسلم: “ومَن سنّ سُنة سيئة”، ولا يوجد في سُنة النبي صلى الله عليه وسلم سُنة سيئة، إذن فالسُنة في الحديث تعني السُنة في اللغة، وهي ابتكار طريقة لأمر من الأمور.

هكذا لا يستوي فهم البدعة إلا بضم ثلاثة أحاديث معًا:

1- “مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ”

2- “فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة”

3- “مَن سنّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها، وأجر من عمل بها من بعده إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أجره شيء، ومَن سنّ سنة سيئة، كان عليه وزرها، ووزر من عمل بها من بعده، من غير أن ينقص من أوزارهم شيء”.

وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

يليه الجزء الرابع إن شاء الله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *