التصوف الذى نريد

بقلم الدكتور / الفاتح محمد

ذكر الإمام الغزالى فى إحياء علوم الدين حكاية لو تدبرناها جيدًا لانحلَّت كثير من المشكلات الخاصة بالتصوف، فيها أن الجُنَيد سمع السرى السقطى -وكلاهما من كبار الصوفية- يدعو له قائلا: “جعلك الله صاحبَ حديثٍ صوفيًّا، ولا جعلَكَ صوفيًّا صاحبَ حديث”.

هذا الدعاء الموجز العميق خرج عن قلب واعٍ؛ فالتصوف لابد أن يأتى عن إتقان لعلوم الشريعة والتزام بقيودها، أما سلوك طريق التصوف بدون التزام بأوامر الشريعة ولا دراية بالفقه فهو مزلَّةٌ للأقدام، وهو قد يكون بابًا للتحلُّل من الواجبات الشرعية بدعوى أن العبرة بالقلب وأفعاله، وهذه من غوايات چچچالشيطان؛ فصلاح الظاهر والباطن متلازمان.

إذا سألت صوفيًّا عن الغاية من التصوف، فغالبا ما يجيبك بأن غاية التصوف تزكية النفس وتصفيتها فلا يتبقى فى القلب إلا الله. وهذا لا يتعارض مع معاملة الناس والأخذ بأسباب الدنيا؛ فكل هذا قد يكون بالتصفية والإخلاص من سبل القربات.
ولكن إذا نظرنا إلى واقع الصوفية وأحوالهم فسنرى أن كثيرا منهم لا يعرف من التصوف إلا اسمه، وتجده يشغل وقته بالقيل والقال وتجده فى خصوماته مع المخالفين لا ينتهج ما يدعوه إليه تصوفه من التحلى بالأخلاق السنية، والرفق بالمخالفين؛ بل ينتهج نهج السوقة و”الألتراس”.

مشكلة أخرى أن التصوف تحول مع الوقت إلى ظاهرة اجتماعية فاختلط التصوف بغيره؛ فنجد التصوف الفلكلورى القائم على تتبع الموالد والليالى، وإن اختلط هذا بالمنكرات الشرعية. وكثير من الداخلين فى هذا المجال لا ترى فيهم أى رغبة فى التزكية والتحلى، لكن هو يجد متعته فى حضور هذه الاحتفالات التى قد تكون سببا فى ابتعاده عن الله عز وجل لا اقترابه منه. فما حظ هؤلاء من التصوف الذى تكلم فيه الأئمة؟

كذلك فإن التصوف مع أنه فى الأصل دعوة لتطهير القلب من الأغيار والسُّوَى، والإخلاص لله سبحانه، ومراقبته؛ فالواقع أن كثيرا من الصوفية ليس لهم نصيب من التصوف إلا الصورة بحملهم المسابح وارتداء ثياب خاصة والظهور بمظهر مميز، وهذا هو حظهم من التصوف.. أين الأوراد وأين المجاهدة؟ وأين حظ الواحد منهم من القرآن الكريم؟….

التصوف أمر مهم جدا، بل إن جزءا كبيرا من مشكلات الأمة الأخلاقية جاء من غياب التصوف الحق، والتصوف لا يتعارض مع الاعتقاد السديد ولا التفقه فى الدين بل هو مكمِّل لهما؛ فالإسراف فى البحث فى دقائق العقائد والرد على المتكلمين يورث جفاء وقسوة فى القلب. والاقتصار على الفقه وأحكامه وفروعه يبعد الإنسان عن روح العبادة وثمرتها؛ فتجد المنهمك فى دراسة العقيدة منشغلا بطبيعة القرآن الكريم؛ هل الحرف والصوت قديمان أن القديم هو الكلام النفسى مع خوض فى جدالات وردود لا تنتهى، وقد ينسى مع هذا الرسالة التى جاء بها القرآن من إحياء النفوس بعبادة الله وحسن الخلق… ثم ترى دارسَ الفقه يحفظ أركان الصلاة وواجباتها وهيئاتها وقد يؤديها بإتقان بالغ لكن دون تحقيق الخشوع فيها، وقد يحفظ الفقيه مقادير الزكاة ويؤديها لكن مع حظ فى النفس من شعوره بالاستعلاء والأفضلية على الفقير الذى يتصدق عليه، أو اعتقاد أنه أفضل من غيره من البخلاء… وهنا يأتى دور التصوف فى حفظ القلب من هذه النزغات.

فى ختام الخريدة البهية بعد تقريره العقيدة التى ارتضاها عن الله سبحانه وتعالى، يقول الشيخ الدردير:
وينطوى فى كِلْمة الإسلامِ … ما قد مضى من سائر الأحكامِ

فأكثرَنْ من ذكرها بالأدبِ … ترقى بهذا الذكر أعلى الرُّتَبِ

وغلِّب الخوفَ على الرجاءِ … وسر لمولاك بلا تناءِ

وكن على آلائه شكورا … وكن على بلائه صبورا

وكن له مسلما كى تسلما … واتبع سبيل الناسكين العُلَما

وخلص القلبَ من الأغيارِ … بالجِدِّ والقيام بالأسحارِ

بالفكر والذكر على الدوامِ … مجتنبًا لسائر الآثامِ
… إلى آخرها

فالخريدة مع كونها متنا مختصرا فى العقيدة، إلا أن الشيخ رحمه الله علم أن العقيدة الصحيحة لا فائدة منها بدون قلب سليم وأعمال صالحة؛ فأتى بهذه الأبيات بطريقة الشيخ المُربِّى الناصح. ولا ريب فالشيخ فقيه عالم فى العقيدة متصوف.
وهذا على وجه التحديد.. هو التصوف الذى نريد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *