خطبة الجمعة بعنوان ( الرجال فى ميزان الشريعة الإسلامية) للشيخ ياسر عبدالبديع
8 سبتمبر، 2025
خطب منبرية

خطبة الجمعة بعنوان ( الرجال فى ميزان الشريعة الإسلامية)
للشيخ / ياسر عبدالبديع
بتاريخ / 20 من ربيع الأول 1447 هجري
12 من سبتمبر 2025 م
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ مِلْءَ السَّمَوَاتِ وَمِلْءَ الْأَرْضِ وَمَلْءَ مَابَيْنَهُمَا وَمُلْءَ مَاشِئْتَ يَارِبُ مِنْ شَئٍّ بَعْدَ أَهْلِ الثَّنَاءِ وَالْمَجْدِ أَحَقُّ مَاقَالَ الْعَبْدُ وَكُلُّنَا لَكَ عَبْدٌ اللَّهُمَّ لَامُعْطَى لِمَا مَنَعْتَ وَلَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَيْتَ وَلَا يَنْفَعُ ذَا الْجَدِّ مِنْكَ الْجَدُّ وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ
سَبْحَانُكَ اللَّهُمَّ خَيْرَ مُعَلِّمٍ عَلَّمْتَ بِالْقَلَمِ الْقُرُونَ الْأُولَى أَخْرَجْتَ هَذَا الْعَقْلَ مِنْ ظُلُمَاتِهِ وَهَدَيَتَهُ النُّورَ الْمُبِينَ سَبِيلًا وَأَرْسَلْتَ بِالتَّوْرَاةِ مُوسَى مُرْشِدًا وَابْنَ الْبَتُولِ فَعَلَّمَ الْإِنْجِيلَا وَفَجَرَتْ يَنْبُوعَ الْبَيَانِ مُحَمَّدًا فَسَقَى الْحَدِيثَ وَنَاوَلَ التَّنْزِيلَا
وَنَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا وَحَبِيبَنَا وَمُصْطَفَانَا سَيِّدَنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيًّا وَرَسُولًا أُوصِيكُمْ وَنَفْسَى بِتَقْوَى اللَّهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُو اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحُ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرُ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا أُحَدِّثُكُمْ الْيَوْمَ عَنْ مَوْضُوعٍ تَحْتَ عُنْوَانِ
الرجال فى ميزان الشريعة الإسلامية
العُنصُرُ الأَوَّلُ : صِفَاتُ الرِّجَالِ
إِنَّ مِنَ الأُمُورِ الَّتِي خُذِلَ فِيهَا الإِسْلَامُ أَيَّمَا خِذلَانٍ، هَذِهِ القَضِيَّةَ – أَيُّهَا الإِخْوَةُ – وَهِيَ انْعِدَامُ صِفَةِ الرُّجُولَةِ فِي كَثِيرٍ مِنَ المُسْلِمِينَ اليَوْمَ.
وَالرُّجُولَةُ صِفَةٌ يَمُنُّ بِهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، كَمَا قَالَ ذَلِكَ الرَّجُلُ المُؤْمِنُ الَّذِي يُعَلِّمُ صَاحِبَهُ الكَافِرَ، يَقُولُ لَهُ مُوَبِّخاً وَمُقَرِّعاً وَمُذَكِّراً لَهُ بِنِعَمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ:
﴿ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ﴾ [الكهف:٣٧].
هَذِهِ الرُّجُولَةُ الَّتِي يَمُنُّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَيُنْعِمُ بِهَا، لَهَا صِفَاتٌ وَلَهَا خَصَائِصُ، لَا تَكْتَمِلُ إِلَّا بِهَا، وَلَا تَقُومُ إِلَّا عَلَيْهَا، وَلَا تَشْتَدُّ إِلَّا بِهَذِهِ الأَرْكَانِ.
وَالرُّسُلُ الَّذِينَ بُعِثُوا إِلَى أَقْوَامِهِمْ مَا كَانُوا إِلَّا رِجَالًا، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ ﴾ [النحل:٤٣]. فَلَمْ يُرْسِلِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى النَّاسِ إِلَّا رِجَالًا.
هَذِهِ الرُّجُولَةُ – أَيُّهَا الإِخْوَةُ – الَّتِي ضَاعَتْ مَضَامِينُهَا اليَوْمَ، وَفُقِدَتْ أَرْكَانُهَا عِنْدَ الكَثِيرِينَ، فَصَارُوا أَشْبَاهَ الرِّجَالِ وَلَا رِجَالَ.
هَذِهِ الرُّجُولَةُ نَحْتَاجُ لِنَتَعَرَّفَ عَلَى صِفَاتِهَا مِنَ القُرْآنِ الكَرِيمِ، وَسَنَذْكُرُ فِي هَذِهِ الخُطْبَةِ – إِنْ شَاءَ اللَّهُ – شَيْئاً مِنْ صِفَاتِ الرُّجُولَةِ، حَتَّى يَعْلَمَ الرَّجُلُ اليَوْمَ هَلْ هُوَ رَجُلٌ بِالمَعْنَى الحَقِيقِيِّ أَمْ هُوَ هَيْكَلٌ خَارِجِيٌّ لَا يَدُلُّ عَلَى مَضْمُونِ الرُّجُولَةِ مُطْلَقاً؟!
التَّعَلُّقُ بِالمَسَاجِدِ وَحُبُّ الطَّهَارَةِ
يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى وَاصِفاً المَسْجِدَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَالُهُ الصَّحِيحُ، وَمَنْ هُوَ بِدَاخِلِهِ؛ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى:
﴿ لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ ﴾ [التَّوْبَة:١٠٨]، أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، أُسِّسَ عَلَى التَّوْحِيدِ، أُسِّسَ عَلَى العَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ… ﴿ لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى ﴾ [التَّوْبَة:١٠٨]، أُنْشِئَ عَلَى التَّقْوَى لِوَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ … ﴿ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ ﴾ [التَّوْبَة:١٠٨]، أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ يَا مُحَمَّدُ ﷺ مِنْ مَسْجِدِ الضِّرَارِ الَّذِي بَنَاهُ المُنَافِقُونَ.
مَا هِيَ صِفَاتُهُ الأُخْرَى؟ مَا هِيَ أَهَمُّ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ؟ ﴿ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ﴾ [التَّوْبَة:١٠٨].
أَيْنَ مَكَانُ أُولَئِكَ الرِّجَالِ؟! أَيْنَ مَكَانُهُمْ؟! هَلْ هُمْ فِي الأَنْدِيَةِ أَوْ فِي الحَفَلَاتِ؟! هَلْ هُمْ فِي الأَسْوَاقِ يَمْرَحُونَ وَيَسْرَحُونَ؟! هَلْ هُمْ فِي المُجْتَمَعَاتِ الفَارِغَةِ الَّتِي تُفْرِغُ الرُّجُولَةَ مِنْ مَعَانِيهَا؟! كَلَّا – أَيُّهَا الإِخْوَةُ – ﴿ فِيهِ رِجَالٌ ﴾ [التَّوْبَة:١٠٨] فِي هَذَا المَسْجِدِ رِجَالٌ.
﴿ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا ﴾ [التَّوْبَة:١٠٨] يَأْتُونَ إِلَى المَسْجِدِ عَلَى طَهَارَةٍ، وَاللَّهُ يُحِبُّ هَؤُلَاءِ الرِّجَالَ الَّذِينَ مِنْ صِفَتِهِمُ الطَّهَارَةُ ﴿ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ﴾ [التَّوْبَة:١٠٨].
هَذِهِ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ الرِّجَالِ.
وَمِنَ الصِّفَاتِ: تَعَلُّقُ القَلْبِ بِالمَسْجِدِ؛ فَقَدْ ذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ السَّبْعَةِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ: «وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالمَسَاجِدِ».
اللَّهُ أَكْبَرُ! هَؤُلَاءِ هُمُ الرِّجَالُ! رَاحَتُهُمْ وَأُنْسُهُمْ فِي بُيُوتِ اللَّهِ.
الرُّجُولَةُ لَا تُبْنَى فِي الأَسْوَاقِ وَالمَقَاهِي، إِنَّمَا تُبْنَى فِي بُيُوتِ اللَّهِ الَّتِي فِيهَا رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا، وَاللَّهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ، فِيهَا رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ.
التَّعَلُّقُ بِالمَسَاجِدِ وَحُبُّ الطَّهَارَةِ
يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى وَاصِفاً المَسْجِدَ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَالُهُ الصَّحِيحُ، وَمَنْ هُوَ بِدَاخِلِهِ؛ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى:
﴿ لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ ﴾ [التَّوْبَة:١٠٨]، أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى، أُسِّسَ عَلَى التَّوْحِيدِ، أُسِّسَ عَلَى العَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ… ﴿ لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى ﴾ [التَّوْبَة:١٠٨]، أُنْشِئَ عَلَى التَّقْوَى لِوَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ … ﴿ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ ﴾ [التَّوْبَة:١٠٨]، أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ يَا مُحَمَّدُ ﷺ مِنْ مَسْجِدِ الضِّرَارِ الَّذِي بَنَاهُ المُنَافِقُونَ.
مَا هِيَ صِفَاتُهُ الأُخْرَى؟ مَا هِيَ أَهَمُّ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ؟ ﴿ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ﴾ [التَّوْبَة:١٠٨].
أَيْنَ مَكَانُ أُولَئِكَ الرِّجَالِ؟! أَيْنَ مَكَانُهُمْ؟! هَلْ هُمْ فِي الأَنْدِيَةِ أَوْ فِي الحَفَلَاتِ؟! هَلْ هُمْ فِي الأَسْوَاقِ يَمْرَحُونَ وَيَسْرَحُونَ؟! هَلْ هُمْ فِي المُجْتَمَعَاتِ الفَارِغَةِ الَّتِي تُفْرِغُ الرُّجُولَةَ مِنْ مَعَانِيهَا؟! كَلَّا – أَيُّهَا الإِخْوَةُ – ﴿ فِيهِ رِجَالٌ ﴾ [التَّوْبَة:١٠٨] فِي هَذَا المَسْجِدِ رِجَالٌ.
﴿ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا ﴾ [التَّوْبَة:١٠٨] يَأْتُونَ إِلَى المَسْجِدِ عَلَى طَهَارَةٍ، وَاللَّهُ يُحِبُّ هَؤُلَاءِ الرِّجَالَ الَّذِينَ مِنْ صِفَتِهِمُ الطَّهَارَةُ ﴿ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ﴾ [التَّوْبَة:١٠٨].
هَذِهِ صِفَةٌ مِنْ صِفَاتِ الرِّجَالِ.
وَمِنَ الصِّفَاتِ: تَعَلُّقُ القَلْبِ بِالمَسْجِدِ؛ فَقَدْ ذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ السَّبْعَةِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ: «وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالمَسَاجِدِ».
اللَّهُ أَكْبَرُ! هَؤُلَاءِ هُمُ الرِّجَالُ! رَاحَتُهُمْ وَأُنْسُهُمْ فِي بُيُوتِ اللَّهِ.
الرُّجُولَةُ لَا تُبْنَى فِي الأَسْوَاقِ وَالمَقَاهِي، إِنَّمَا تُبْنَى فِي بُيُوتِ اللَّهِ الَّتِي فِيهَا رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا، وَاللَّهُ يُحِبُّ المُطَّهِّرِينَ، فِيهَا رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ.
ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَتَرْكُ مَا يُلْهِي عَنْهَا
وَانْظُرْ مَعِي إِلَى مَشْهَدٍ مُقَابِلٍ فِي سُورَةِ النُّورِ، مُمَاثِلٍ لِتِلْكَ الآيَةِ فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ … يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:
﴿ فِي بُيُوتٍ ﴾ [النُّور:٣٦] أَي: مَسَاجِدُ.
﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ ﴾ [النُّور:٣٦] شَاءَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ.
﴿ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ﴾ [النُّور:٣٦] اسْمُهُ عَزَّ وَجَلَّ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.
﴿ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ﴾ [النُّور:٣٦] أَيْنَ الفَاعِلُ؟! مَنْ الَّذِي يُسَبِّحُ؟! ﴿ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ﴾ [النُّور:٣٦] غُدْوَةً وَأَصِيلاً، مَنْ الَّذِي يُسَبِّحُ؟! مَنْ فِي هَذِهِ المَسَاجِدِ يُسَبِّحُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ؟!
﴿ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ﴾ [النُّور:٣٦-٣٧].
مَنْ فِي هَذَا المَسْجِدِ؟! إِنَّهُمْ رِجَالٌ، ثُمَّ جَاءَتْ بَقِيَّةُ الصِّفَاتِ.
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: قَوْلُهُ: ﴿ رِجَالٌ ﴾ [النُّور:٣٧]: فِيهِ إِشْعَارٌ بِهِمَمِهِمِ السَّامِيَةِ، وَنِيَّاتِهِمْ وَعَزَائِمِهِمُ العَالِيَةِ، الَّتِي بِهَا صَارُوا عُمَّاراً لِلْمَسَاجِدِ الَّتِي هِيَ بُيُوتُ اللَّهِ فِي أَرْضِهِ.
﴿ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ ﴾ [النُّور:٣٦-٣٧] يُسَبِّحُونَ اللَّهَ فِي المَسَاجِدِ، وَمَا هِيَ صِفَاتُهُمُ الأُخْرَى؟ قَالَ اللَّهُ: ﴿ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ﴾ [النُّور:٣٧].
أَيُّهَا الإِخْوَةُ: هَؤُلَاءِ هُمُ الرِّجَالُ الَّذِينَ لَمْ تُلْهِهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ أَيِّ شَيْءٍ؟ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ.
قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ: يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ – هَؤُلَاءِ الرِّجَالُ – يَبِيعُونَ وَيَشْتَرُونَ؛ وَلَكِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ وَمِيزَانُهُ فِي يَدِهِ خَفَضَهُ، وَأَقْبَلَ إِلَى الصَّلَاةِ.
وَمَرَّ عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمَعَهُ سَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: [كُنْتُ مَعَ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ وَنَحْنُ نُرِيدُ المَسْجِدَ، فَمَرَرْنَا بِسُوقِ المَدِينَةِ، وَقَدْ قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ، وَخَمَّرُوا مَتَاعَهُمْ، فَنَظَرَ سَالِمٌ إِلَى أَمْتِعَتِهِمْ لَيْسَ مَعَهَا أَحَدٌ] لَمْ يَجْلِسُوا أَمَامَهَا لِيَحْرُسُوهَا، أَوْ لِيَنْظُرُوا فِيهَا، أَوْ أَغْلَقُوا الدَّكَاكِينِ وَقَعَدُوا عَلَى الرَّصِيفِ فِي الطَّرِيقِ يَنْتَظِرُونَ مَتَى تَنْتَهِي الصَّلَاةُ حَتَّى يَكُونَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَوَّلَ مَنْ يَفْتَحُ الدُّكَّانَ، تَرَكُوا أَمْتِعَتَهُمْ فِي الشَّارِعِ، وَغَطَّوْهَا فِي السُّوقِ، وَذَهَبُوا إِلَى المَسْجِدِ … [فَنَظَرَ سَالِمٌ إِلَى أَمْتِعَتِهِمْ لَيْسَ مَعَهَا أَحَدٌ، فَتَلَا هَذِهِ الآيَةَ: ﴿ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [النُّور:٣٧]، ثُمَّ قَالَ: هُم هَؤُلَاءِ].
هَؤُلَاءِ الَّذِينَ عَنَى اللَّهُ بِقَوْلِهِ فِي هَذِهِ الآيَةِ، هَؤُلَاءِ الَّذِينَ قَدَّمُوا مُرَادَ اللَّهِ عَلَى مُرَادِ أَنْفُسِهِمْ، وَآثَرُوا طَاعَةَ اللَّهِ عَلَى المَتَاعِ الدُّنْيَوِيِّ الزَّائِلِ، آثَرُوا الاسْتِجَابَةَ لِهَذَا النِّدَاءِ العُلَوِيِّ الرَّبَّانِيِّ: حَيَّ عَلَى الصَّلَاةِ، حَيَّ عَلَى الفَلَاحِ، عَلَى نِدَاءِ الجَشَعِ وَالطَّمَعِ الَّذِي يُثِيرُهُ الشَّيْطَانُ وَالنَّفْسُ الأَمَّارَةُ بِالسُّوءِ.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ: كَمْ مِنَ الرِّجَالِ اليَوْمَ يَقْعُدُونَ فِي مَحَلَّاتِهِمْ وَدَكَاكِينِهِمْ، أَوْ يَدْخُلُونَ دَاخِلَهَا فِي حُجَرٍ مُخْفِيَةٍ، فَيَقْعُدُ أَحَدُهُمْ فِي مَكْتَبِهِ وَرَاءَ الطَّاوِلَةِ يُجِيبُ عَلَى هَذَا الهَاتِفِ وَهَذَا الرَّجُلِ، وَيُكَلِّمُ وَيُفَاوِضُ وَيَخْفِضُ وَيَرْفَعُ، وَيُمَاكِسُ وَيُشَاكِسُ، وَيَتْرُكُ نِدَاءَ اللَّهِ، يَتْرُكُ المَسْجِدَ، لَا يُجِيبُ دَاعِيَ اللَّهِ إِلَيْهِ، لِمَاذَا أَيُّهَا الإِخْوَةُ؟! هَلْ يُسَمَّى هَؤُلَاءِ رِجَالاً؟! كَلَّا. إِنَّهُمْ أَشْبَاهُ الرِّجَالِ وَلَا رِجَالَ.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ فَقَدْ ذَكَرَ النَّبِيُّ ﷺ مِنَ السَّبْعَةِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: «وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِياً فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ».
اللَّهُ المُسْتَعَانُ! مَتَى كَانَتْ آخِرُ مَرَّةٍ بَكَيْنَا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ فِي سَاعَةِ خُلْوَةٍ بِاللَّهِ؟! نَشْكُو إِلَى اللَّهِ قَسْوَةً فِي قُلُوبِنَا، وَجَفَافاً فِي عُيُونِنَا! اللَّهُمَّ لَيِّنْ قُلُوبَنَا بِذِكْرِكَ وَطَاعَتِكَ.
الثَّبَاتُ عَلَى المَنْهَجِ الرَّبَّانِيِّ
وَمِنْ صِفَاتِ الرِّجَالِ: أَنَّهُمْ يَثْبُتُونَ عَلَى المَنْهَجِ الرَّبَّانِيِّ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ …
أَيُّهَا الإِخْوَةُ: إِنَّهُ المَنْهَجُ الَّذِي وَضَعَهُ رَبُّ العِزَّةِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، لِيَسْتَقِيمَ عَلَيْهِ النَّاسُ … هَذَا المَنْهَجُ الَّذِي لَا يَصِحُّ أَنْ يَنْحَرِفَ الإِنْسَانُ عَنْهُ يَمْنَةً وَلَا يَسْرَةً، لَابُدَّ أَنْ يُرَاقِبَهُ وَيُجَاهِدَ نَفْسَهُ لِلسَّيْرِ عَلَيْهِ … هَذَا المَنْهَجُ المُتَضَمِّنُ لِقَوَاعِدَ أُصُولِيَّةٍ، وَمَسَائِلَ تَصَوُّرِيَّةٍ، لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَخَلَّى عَنْهَا المُسْلِمُ بِأَيِّ حَالٍ مِنَ الأَحْوَالِ … هَذَا المَنْهَجُ الَّذِي عَلَيْهِ صُوَرٌ وَمَنَارَاتٌ تُضِيءُ لِلْمُسْلِمِ الطَّرِيقَ … هَذَا المَنْهَجُ الرَّبَّانِيُّ مَنْهَجُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالجَمَاعَةِ، لَابُدَّ مِنَ الثَّبَاتِ عَلَيْهِ.
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مَادِحاً صِنْفاً مِنْ أَصْنَافِ الرِّجَالِ: ﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ﴾ [الأَحْزَاب:٢٣]، عَاهَدُوا اللَّهَ ثُمَّ صَدَقُوا فِي الوَعْدِ، صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَى هَذَا المَنْهَجِ، اسْتَمَرُّوا عَلَيْهِ، تَشَبَّثُوا بِهِ، وَسَارُوا غَيْرَ مُضْطَرِبِينَ وَلَا مُتَحَيِّرِينَ، لَا تُعِيقُهُمُ العَوَائِقُ، وَلَا تَقِفُ أَمَامَهُمُ الصُّعُوبَاتُ، وَلَا الشَّهَوَاتُ، وَلَا الشُّبُهَاتُ الَّتِي يُثِيرُهَا أَعْدَاءُ الإِسْلَامِ.
﴿ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ ﴾ [الأَحْزَاب:٢٣] وَمَاتَ عَلَى هَذَا المَنْهَجِ شَهِيداً عَامِلاً لِمَنْهَجِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
﴿ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ﴾ [الأَحْزَاب:٢٣] يَنْتَظِرُ أَنْ يَتَوَفَّاهُ اللَّهُ عَلَى حُسْنِ الخِتَامِ؛ لِيَمُوتَ عَلَى هَذَا المِنْهَاجِ غَيْرَ مُغَيِّرٍ وَلَا مُبَدِّلٍ.
قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ﴾ [الأَحْزَاب:٢٣] مَا بَدَّلُوا وَلَا غَيَّرُوا وَلَا انْحَرَفُوا، بَلْ هُمْ مُسْتَقِيمُونَ عَلَى هَذَا المَنْهَجِ، يَنْتَظِرُونَ أَمْرَ اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يَتَوَفَّاهُمْ وَهُمْ سَائِرُونَ عَلَى هَذَا الدَّرْبِ مُسْتَقِيمُونَ عَلَيْهِ، لَا يَلْوُونَ عَلَى شَيْءٍ إِلَّا مَرْضَاةَ رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ.
إِنَّهُ الثَّبَاتُ عَلَى المَنْهَجِ الَّذِي افْتَقَدَهُ كَثِيرٌ مِنَ المُسْلِمِينَ اليَوْمَ، حَتَّى مِمَّنِ اشْتَغَلُوا بِالعَمَلِ لِلإِسْلَامِ، قَامَتْ عِنْدَهُمْ انْحِرَافَاتٌ فِي التَّصَوُّرِ وَالسُّلُوكِ، فَانْحَرَفُوا عَنْ مَنْهَجِ اللَّهِ.
أَيُّهَا الإِخْوَةُ: لَيْسَتِ القَضِيَّةُ أَنْ نُمْسِكَ الطَّرِيقَ فَقَطْ، وَلَا أَنْ نَعْرِفَهُ فَقَطْ، وَلَا أَنْ نَصِلَ إِلَيْهِ فَقَطْ، إِنَّ المَسْأَلَةَ أَنْ نَسْتَمِرَّ عَلَيْهِ بِغَيْرِ تَبْدِيلٍ وَلَا تَحْرِيفٍ ﴿ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا ﴾ [الأَحْزَاب:٢٣].
تَأْيِيدُ الرُّسُلِ وَمُنَاصَرَتُهُمْ
هَذِهِ الرُّجُولَةُ الَّتِي يَصِفُهَا اللَّهُ تَعَالَى فِي القُرْآنِ، أَنَّ مِنْ أَهْلِهَا مَنْ يُؤَيِّدُ الرُّسُلَ فِي دَعْوَتِهِمْ وَيُنَاصِرُهُمْ، وَيُبَيِّنُ لِلنَّاسِ أَنَّ مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ هُوَ الحَقُّ، وَيُعِينُ الرُّسُلَ وَيُسَاعِدُهُمْ.
قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ ﴾ [يـس:٢٠] مَنْ الَّذِي جَاءَ؟ هَلْ جَاءَ جَيْشٌ جَرَّارٌ، أَوْ فِئَاتٌ كَثِيرَةٌ مِنَ النَّاسِ؟ ﴿ وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ ﴾ [يـس:٢٠] جَاءَ مِنْ آخِرِ المَدِينَةِ … ﴿ رَجُلٌ يَسْعَى ﴾ [يـس:٢٠] يَشْتَدُّ، وَلِمَاذَا جَاءَ؟ أَلِأَنَّ هُنَاكَ سُوقاً لَا يُرِيدُ أَنْ يَفُوتَهُ مِنْهُ شَيْءٌ؟! أَلِأَنَّ هُنَاكَ أَسْهُماً تُبَاعُ لَا يُرِيدُ أَنْ يَفُوتَ مِنْهَا شَيْءٌ؟! كَلَّا – أَيُّهَا الإِخْوَةُ – ﴿ قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ ﴾ [يـس:٢٠-٢١] اتَّبِعُوهُمْ، اتَّبِعُوهُمْ هَؤُلَاءِ الرُّسُلَ، ﴿ وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [يـس:٢٢].
ثُمَّ يُبَيِّنُ عَرْضَ حَقَائِقِ العَقِيدَةِ، التَّصَوُّرَاتِ النَّقِيَّةَ الصَّافِيَةَ الخَالِيَةَ مِنْ شَوَائِبِ الشِّرْكِ، حَتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فَقَالَ: ﴿ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ ﴾ [يـس:٢٦-٢٧].
فَمِنْ صِفَاتِ الرُّجُولَةِ – أَيُّهَا الإِخْوَةُ – أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الَّذِينَ نُسَمِّي أَنْفُسَنَا رِجَالاً، أَنْ نَكُونَ أَعْوَاناً لِلرُّسُلِ، حَرْباً عَلَى أَعْدَاءِ الرُّسُلِ، وَلَيْسَ حَرْباً عَلَى الرُّسُلِ، أَنْ نَكُونَ مُؤَيِّدِينَ لِدَعْوَةِ الرُّسُلِ، لَا مُثَبِّطِينَ عَنْ دَعْوَةِ الرُّسُلِ، أَنْ نَكُونَ مُسْتَجِيبِينَ لِدَعْوَةِ الرُّسُلِ، مُتَّبِعِينَ لَا عَاصِينَ وَلَا مُبْتَدِعِينَ وَلَا مُعَانِدِينَ.
تَقْدِيمُ النَّصِيحَةِ فِي حَالِ الخَوْفِ
قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿ وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى ﴾ [القصص:٢٠] يَشْتَدُّ مِنْ أَقْصَى المَدِينَةِ، لَمْ يَقْعُدْ بِهِ طُولُ المَسَافَةِ، وَلَا بُعْدُ الطَّرِيقِ، جَاءَ يَسْعَى وَيَشْتَدُّ، لَقَدْ كَانَ هَذَا الرَّجُلُ مُؤْمِناً.
﴿ قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ المَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ ﴾ [القصص:٢٠] يَتَشَاوَرُونَ فِي أَمْرِكَ، ﴿ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ﴾ [القصص:٢٠] إِنِّي أَكْشِفُ لَكَ مَخْطَطَاتِهِمْ، وَأُعَرِّي لَكَ دَسَائِسَهُمْ وَنِيَّاتِهِمُ الخَبِيثَةَ، فَاخْرُجْ مِنْ هَذِهِ المَدِينَةِ، ﴿ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ﴾ [القصص:٢٠].
قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ: وُصِفَ بِالرُّجُولَةِ؛ لِأَنَّهُ خَالَفَ الطَّرِيقَ، يَعْنِي بِالطُّرُقِ الجَادَّةِ الَّتِي تُسْلَكُ فِي الشَّارِعِ، فَسَلَكَ طَرِيقاً أَقْرَبَ مِنْ طَرِيقِ الَّذِينَ بُعِثُوا وَرَاءَهُ، فَسَبَقَ إِلَى مُوسَى وَحَذَّرَهُ، قَالَ: إِنَّ النَّاسَ آتُونَ وَرَائِي لِيَقْبِضُوا عَلَيْكَ وَيَقْتُلُوكَ، أَعْوَانُ فِرْعَوْنَ الطَّاغِيَةِ: ﴿ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ ﴾ [القصص:٢٠].
وَمِنْ صِفَاتِ الرِّجَالِ أَيْضاً القِيَامُ بِالفَرَائِضِ: يَقُولُ – تَعَالَى – فِي الحَدِيثِ القُدُسِيِّ: «مَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ» رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
فَمَا تَقَرَّبَ أَحَدٌ إِلَى اللَّهِ بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا افْتَرَضَهُ عَلَيْهِ جَلَّ جَلَالُهُ؛ فَمَا فَائِدَةُ القِيَامِ طِوَالَ اللَّيْلِ وَهُوَ يُضَيِّعُ صَلَاةَ الفَجْرِ؟! وَمَا فَائِدَةُ إِنْفَاقِ المَالِ فِي وُجُوهِ الخَيْرِ وَهُوَ يَأْكُلُ الحَرَامَ؟! وَمَا فَائِدَةُ حُسْنِ الخُلُقِ مَعَ النَّاسِ كُلِّهِمْ مَعَ عُقُوقِ الوَالِدَيْنِ؟! أَيْنَ الفَرَائِضُ؟! أَيْنَ فِقْهُ الأَوْلَوِيَّاتِ؟!
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: إِنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَقَالَ: دُلَّنِي عَلَى عَمَلٍ إِذَا عَمِلْتُهُ دَخَلْتُ الجَنَّةَ، قَالَ: «تَعْبُدُ اللَّهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلَاةَ المَكْتُوبَةَ، وَتُؤَدِّي الزَّكَاةَ المَفْرُوضَةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ». قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! لَا أَزِيدُ عَلَى هَذَا، فَلَمَّا وَلَّى قَالَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –: «مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ فَلْيَنْظُرْ إِلَى هَذَا».
وَمِنْ صِفَاتِ الرِّجَالِ الحُبُّ فِي اللَّهِ: جَاءَ فِي الحَدِيثِ المُتَّفَقِ عَلَى صِحَّتِهِ، عَنِ السَّبْعَةِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: «رَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ». فَالرُّجُولَةُ أَنْ تُحِبَّ فِي اللَّهِ وَلِلَّهِ وَمِنْ أَجْلِ اللَّهِ؛ لَا مِنْ أَجْلِ الدُّنْيَا وَأَغْرَاضِ الدُّنْيَا. فَاللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مُتَحَابِّينَ فِيكَ يَا رَبَّ العَالَمِينَ، وَاجْمَعْنَا فِي الجَنَّةِ عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ.
وَمِنَ الصِّفَاتِ: العِفَّةُ وَالعَفَافُ عَنِ الحَرَامِ، فَقَدْ ذَكَرَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مِنَ السَّبْعَةِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ: «وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ»، إِذًا؛ الرُّجُولَةُ فِي العِفَّةِ وَالعَفَافِ، وَاجْتِنَابِ مَا حَرَّمَ اللَّهُ.
وَمِنَ الصِّفَاتِ – عِبَادَ اللَّهِ – الصَّدَقَةُ فِي وُجُوهِ الخَيْرِ مَعَ تَحَرِّي السِّرِّ، فَقَدْ ذَكَرَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مِنَ السَّبْعَةِ الَّذِينَ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ: «وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا أَنْفَقَتْ يَمِينُهُ».
عِبَادَ اللَّهِ: لَيْسَتِ الرُّجُولَةُ فِي جَمْعِ الأَمْوَالِ وَتَخْزِينِهَا؛ إِنَّمَا الرُّجُولَةُ فِي الإِنْفَاقِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، الرُّجُولَةُ أَنْ نُقَدِّمَ لِأَنْفُسِنَا صَدَقَاتٍ تُبَيِّضُ وُجُوهَنَا يَوْمَ نَقِفُ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ تَعَالَى، ابْنُ آدَمَ يَقُولُ: «مَالِي مَالِي! وَلَيْسَ لَهُ مِنْ مَالِهِ إِلَّا مَا أَكَلَ فَأَفْنَى، وَلَبِسَ فَأَبْلَى، وَتَصَدَّقَ فَأَبْقَى»، «فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ».
وَمِنْ صِفَاتِ الرِّجَالِ الصَّبْرُ عَلَى الشَّدَائِدِ: عَنْ خَبَّابِ بْنِ الأَرَتِّ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الكَعْبَةِ، فَقُلْنَا: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ أَلَا تَدْعُو لَنَا؟ فَقَالَ: «قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الأَرْضِ فَيُجْعَلُ فِيهَا فَيُجَاءُ بِالمِنْشَارِ فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيدِ مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، وَاللَّهِ! لَيَتِمَنَّ هَذَا الأَمْرُ حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ» رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
وَمِنْ صِفَاتِ الرِّجَالِ الأَمَانَةُ وَالقَنَاعَةُ وَالحِكْمَةُ؛ فَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – عَنِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: «كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ اشْتَرَى عَقَارًا فَوَجَدَ فِيهَا جَرَّةً مِنْ ذَهَبٍ فَقَالَ: اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الأَرْضَ وَلَمْ أَشْتَرِ مِنْكَ الذَّهَبَ. فَقَالَ الرَّجُلُ: إِنَّمَا بَعْتُكَ الأَرْضَ بِمَا فِيهَا، فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ فَقَالَ: أَلَكُمَا وَلَدٌ؟ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: لِي غُلَامٌ، وَقَالَ الآخَرُ: لِي جَارِيَةٌ، قَالَ: فَأَنْكِحَا الغُلَامَ الجَارِيَةَ وَأَنْفِقَا عَلَى أَنْفُسِكُمَا مِنْهُ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ.
فَسُبْحَانَ اللَّهِ! كَيْفَ كَانَتْ أَمَانَةُ المُشْتَرِي وَقَنَاعَةُ البَائِعِ وَحِكْمَةُ القَاضِي بَيْنَهُمَا!.
وَمِنْ صِفَاتِ الرِّجَالِ – عِبَادَ اللَّهِ – السَّمَاحَةُ؛ فَعَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –: «أَدْخَلَ اللَّهُ الجَنَّةَ رَجُلًا كَانَ سَهْلًا بَائِعًا وَمُشْتَرِيًا» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ
فَالسَّمَاحَةُ فِي البَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالاقْتِضَاءِ تَحْتَاجُ إِلَى رَجُلٍ، فَكَمْ رَأَيْنَا مَنْ يَبِيعُ وَيَعُودُ فِي بَيْعِهِ مِنْ أَجْلِ أَمْوَالٍ قَلِيلَةٍ، أَوْ يَبِيعُ عَلَى بَيْعِ أَخِيهِ!.
وَمِنْ صِفَاتِ الرِّجَالِ – عِبَادَ اللَّهِ – قِيَامُ اللَّيْلِ، يَقُولُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا –: رَأَيْتُ كَأَنَّ مَلَكَيْنِ أَخَذَانِي، فَذَهَبَا بِي إِلَى النَّارِ، فَإِذَا هِيَ مَطْوِيَّةٌ كَطَيِّ البِئْرِ، وَإِذَا لَهَا قَرْنَانِ – يَعْنِي كَقَرْنَيِ البِئْرِ – وَإِذَا فِيهَا أُنَاسٌ قَدْ عَرَفْتُهُمْ، فَجَعَلْتُ أَقُولُ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ النَّارِ! قَالَ: فَلَقِينَا مَلَكٌ آخَرُ. فَقَالَ: لَمْ تُرَعْ!.
فَقَصَصْتُهَا عَلَى حَفْصَةَ، فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا – عَلَى النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَقَالَ: «نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ» مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ؛ فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ لَا يَنَامُ مِنَ اللَّيْلِ إِلَّا قَلِيلًا.
الْعُنْصُرُ الثَّانِي : الْمِحَنُ صِنَاعَةُ الرِّجَالِ
وَعِنْدَ الْأَزَمَاتِ تَشْتَدُّ الْحَاجَةُ لِوُجُودِ الرِّجَالِ الْحَقِيقِيِّينَ، الَّذِينَ يُثَبِّتُونَ النَّاسَ عَلَى شَرْعِ اللَّهِ.
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ: قَدْ تَمُرُّ بِالْإِسْلَامِ أَزَمَاتٌ، قَدْ تَمُرُّ بِالْمُسْلِمِينَ شَدَائِدُ وَضَائِقَاتٌ، قَدْ يَمُرُّ بِالْمُسْلِمِينَ عُسْرٌ شَدِيدٌ، تَنْقَطِعُ بِهِمُ السُّبُلُ، فَيَتَحَيَّرُ النَّاسُ وَيَضْطَرِبُونَ، وَيَمِيدُونَ وَيَحِيدُونَ عَنْ شَرْعِ اللَّهِ، فَتَرَى النَّاسَ مُتَفَرِّقِينَ لَا يَرَى أَحَدُهُمُ الْحَقَّ وَلَا يَتَّبِعُهُ، حَيَّرَتْهُم فِتَنُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، فَاضْطَرَبُوا اضْطِرَابًا شَدِيدًا، وَتَبَعْثَرُوا وَتَفَرَّقُوا، فَمَنْ الَّذِي يُثَبِّتُ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ؟ وَمَنْ الَّذِي يَقُومُ بِوَاجِبِ التَّثْبِيتِ؟
فِي هَذِهِ الْحَالَةِ الَّتِي تَقَعُ فِيهَا الْفِتَنُ بِالْمُسْلِمِينَ نَحْتَاجُ إِلَى عَنَاصِرَ مُثَبِّتَةٍ تُثَبِّتُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْمَنْهَجِ الرَّبَّانِيِّ، مَنْ الَّذِي يُثَبِّتُ؟ فِي حَالَةِ الْأَزَمَاتِ تَكْتَشِفُ أَنْتَ مَعَادِنَ الرِّجَالِ، يُفْضِي كُلُّ رَجُلٍ إِلَى مَعْدِنِهِ الْخَالِصِ؛ لِيَسْتَبِينَ أَمَامَ النَّاسِ هَلْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْعَقِيدَةِ أَمْ لَا؟ هَلْ هُوَ رَجُلُ عَقِيدَةٍ أَمْ لَا؟ فِي حَالَةِ الْأَزَمَاتِ يَتَبَيَّنُ الرِّجَالُ الَّذِينَ يَقِفُونَ عَلَى مَنْهَجِ اللَّهِ بِأَقْدَامٍ رَاسِخَةٍ.
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ: يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى:
قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴿المائدة:٣١٣﴾.
مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ يَأْتِي بِبَنِي إِسْرَائِيلَ لِدُخُولِ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، وَيَعِدُهُمْ بِنَصْرِ اللَّهِ تَعَالَى، وَيُبَشِّرُهُمْ وَيَقُولُ: إِنَّ اللَّهَ مَعَكُمْ، فَقَاتِلُوا هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ الَّذِينَ احْتَلُّوا تِلْكَ الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ.
بَنُو إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ مَا عُرِفَ عَنْ طَبْعِهِمْ إِلَّا الْغَدْرُ وَالْخِيَانَةُ، وَإِلَّا النُّكُوصُ عَنْ شَرْعِ اللَّهِ وَطَرِيقِهِ، مَاذَا قَالُوا؟ قَالُوا كَلِمَةً قَبِيحَةً جِدًّا، قَالُوا:
فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴿المائدة:٢٤﴾، أَنْتَ وَرَبُّكَ يَا مُوسَى قَاتِلَا، نَحْنُ نَنْتَظِرُ النَّتِيجَةَ، فَإِنِ انْتَصَرْتُمْ جِئْنَا وَدَخَلْنَا الْمَدِينَةَ، إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ ﴿المائدة:٢٤﴾ بِكُلِّ وَقَاحَةٍ. مُوسَى نَبِيُّ اللَّهِ لَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ، كُلُّ الْقَوْمِ نَكَصُوا.
قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي ﴿المائدة:٢٥﴾. مَوْقِفٌ صَعْبٌ، مَوْقِفٌ شَدِيدٌ، تَخَلَّى الْقَوْمُ عَنْ نَبِيِّهِمْ، تَرَكُوهُ وَحِيدًا أَمَامَ الْأَعْدَاءِ، إِنَّ هَذِهِ أَزْمَةٌ! أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟
فَمَنْ الَّذِي يَقُومُ الْآنَ فِي هَذِهِ الْأَزْمَةِ، وَيُثَبِّتُ النَّاسَ وَيَقُولُ لَهُمْ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اثْبُتُوا عَلَى شَرْعِ اللَّهِ، اثْبُتُوا عَلَى الطَّرِيقِ، لَا تَنْهَزِمُوا أَمَامَ الْأَعْدَاءِ، النَّصْرُ قَادِمٌ بِإِذْنِ اللَّهِ، تَمَسَّكُوا بِشَرْعِ اللَّهِ، وَاللَّهُ يَنْصُرُكُمْ:
إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ ﴿محمد:٧﴾.
قَامَ هَذَانِ الرَّجُلَانِ:
قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ﴿المائدة:٢٣﴾ بِنِعْمَةِ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ وَالثَّبَاتِ.
قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ ﴿المائدة:٢٣﴾ اقْتَحِمُوا.. إِنَّهُمْ جُبَنَاءُ،
فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴿المائدة:٢٣﴾.
عِبَادَ اللَّهِ: هَلْ لِلرُّجُولَةِ سِنٌّ مُعَيَّنٌ؟ الرُّجُولَةُ لَيْسَتْ بِالسِّنِّ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَكَمْ مِنْ شَيْخٍ فِي سِنِّ السَّبْعِينَ وَقَلْبُهُ فِي سِنِّ السَّابِعَةِ، يَفْرَحُ بِالتَّافِهِ، وَيَبْكِي عَلَى الْحَقِيرِ، وَيَتَطَلَّعُ إِلَى مَا لَيْسَ لَهُ، وَيَقْبِضُ عَلَى مَا فِي يَدِهِ قَبْضَ الشَّحِيحِ حَتَّى لَا يُشْرِكَهُ غَيْرُهُ، فَهُوَ طِفْلٌ صَغِيرٌ؛ وَلَكِنَّهُ ذُو لِحْيَةٍ وَشَارِبٍ.
مَرَّ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عَلَى ثُلَّةٍ مِنَ الصِّبْيَانِ يَلْعَبُونَ، فَهَرْوَلُوا، وَبَقِيَ صَبِيٌّ مُفْرَدٌ فِي مَكَانِهِ، هُوَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، فَسَأَلَهُ عُمَرُ: لِمَ لَمْ تَعْدُ مَعَ أَصْحَابِكَ؟ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَمْ أَقْتَرِفْ ذَنْبًا فَأَخَافَكَ، وَلَمْ تَكُنِ الطَّرِيقُ ضَيِّقَةً فَأُوَسِّعَهَا لَكَ!.
وَدَخَلَ غُلَامٌ عَرَبِيٌّ عَلَى خَلِيفَةٍ أُمَوِيٍّ يَتَحَدَّثُ بِاسْمِ قَوْمِهِ، فَقَالَ لَهُ: لِيَتَقَدَّمْ مَنْ هُوَ أَسَنُّ مِنْكَ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ كَانَ التَّقَدُّمُ بِالسِّنِّ لَكَانَ فِي الْأُمَّةِ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْكَ بِالْخِلَافَةِ!.
أُولَئِكَ لَعَمْرِي هُمُ الصِّغَارُ الْكِبَارُ، وَفِي دُنْيَانَا؛ مَا أَكْثَرَ الْكِبَارَ الصِّغَارَ!.
وَلَيْسَتِ الرُّجُولَةُ بِبَسْطَةِ الْجِسْمِ، وَطُولِ الْقَامَةِ، وَقُوَّةِ الْبِنْيَةِ، فَقَدْ قَالَ اللَّهُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ: ﴿وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ﴾ [الْمُنَافِقُونَ:٤]، وَمَعَ هَذَا فَهُمْ: ﴿كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ﴾ [الْمُنَافِقُونَ:٤].
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ، يَقُولُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «يَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَلَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ، اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ قَوْلَهُ -تَعَالَى-: ﴿فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا﴾ [الْكَهْفِ:١٠٥]»، وَسَاقَا عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ جَبَلِ أُحُدٍ.
عِبَادَ اللَّهِ: هَلْ نَصِفُ الْمَرْأَةَ بِالرُّجُولَةِ؟ نَعَمْ، قَدْ نَصِفُهَا بِالرُّجُولَةِ عِنْدَمَا تُحْسِنُ التَّصَرُّفَ فِي مَوْقِفٍ مِنَ الْمَوَاقِفِ الَّتِي تَعَوَّدَ النَّاسُ أَنْ لَا تَصْدُرَ إِلَّا مِنَ الرِّجَالِ.
يَقُولُونَ: فُلَانَةُ وَقَفَتْ وِقْفَةَ رَجُلٍ. وَأَحْيَانًا تُوصَفُ بِأَنَّهَا بِمِائَةِ رَجُلٍ، مِنْ فَرْطِ الْإِعْجَابِ بِهَا، فِي حِينٍ تُسْلَبُ صِفَةُ الرُّجُولَةِ مِنْ بَعْضِ الرِّجَالِ عِنْدَمَا يَقِفُونَ وَقْفَةً لَا تَلِيقُ بِالرِّجَالِ!.
فَلَوْ كَانَ النِّسَاءُ كَمَنْ ذَكَرْنَا * لَفُضِّلَتِ النِّسَاءُ عَلَى الرِّجَالِ
فَمَا التَّأْنِيثُ لِاسْمِ الشَّمْسِ عَيْبٌ * وَلَا التَّذْكِيرُ فَخْرٌ لِلْهِلَالِ
عِنْدَمَا تَخَلَّى بَعْضُ الرِّجَالِ فِي مَعْرَكَةِ أُحُدٍ، وَقَفَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي ثَبَاتٍ وَحْدَهُ، فَجَاءَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ لِتَأْخُذَ دَوْرَ الرُّجُولَةِ فِي مَوْقِفٍ يَجِبُ أَنْ تَتَجَلَّى فِيهِ، فَأَخَذَتْ سَيْفًا وَوَقَفَتْ وِقْفَةَ رَجُلٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَالْجِرَاحُ تَتَفَجَّرُ دَمًا مِنْ جَسَدِهَا، وَلَا تُبَالِي لِمَا أَصَابَهَا، حَتَّى أَنْقَذَتْ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَهُوَ يَقُولُ: «مَنْ يُطِيقُ مَا تُطِيقِينَ يَا أُمَّ عِمَارَةَ؟!».
وَهَا هِيَ امْرَأَةٌ أُخْرَى يَمُوتُ أَبُوهَا فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ وَهِيَ تَقُولُ: مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ؟ وَيُقَالُ لَهَا: مَاتَ أَخُوكِ. وَتَقُولُ: مَا فَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ؟ وَلَمَّا رَأَتِ الْمُصْطَفَى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَتْ: كُلُّ مُصِيبَةٍ بَعْدَكَ جَلَلٌ يَا رَسُولَ اللَّهِ!.
إِذًا؛ الرُّجُولَةُ صِفَةٌ يُحِبُّهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ لِكُلِّ النَّاسِ، رِجَالًا كَانُوا أَمْ نِسَاءً.
الْإِسْلَامُ الْيَوْمَ يُنَادِي أَصْحَابَهُ وَأَتْبَاعَهُ، يَقُولُ لَهُمْ وَيَهْتِفُ بِهِمْ كَمَا هَتَفَ لُوطٌ بِقَوْمِهِ: ﴿أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ﴾ [هُود:٧٨]؟
اَلْعُنْصُرُ اَلثَّالِثُ: اَلرُّجُولَةُ وَأَثَرُهَا عَلَى اَلْمُجْتَمَعِ
إِنَّ اَلرُّجُولَةَ نَعْتٌ كَرِيمٌ لَا يَسْتَحِقُّهُ اَلْإِنْسَانُ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ مُقَوِّمَاتِهِ وَيَتَّصِفَ بِمُوَاصَفَاتِهِ، وَمِنْ هَذِهِ اَلْمُقَوِّمَاتِ:
اَلْإِرَادَةُ وَضَبْطُ اَلنَّفْسِ
وَهُوَ أَوَّلُ مَيْدَانٍ تَتَجَلَّى فِيهِ اَلرُّجُولَةُ أَنْ يَنْتَصِرَ اَلْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ اَلْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ، فَاَلرَّجُلُ اَلْحَقُّ هُوَ اَلَّذِي تَدْعُوهُ نَفْسُهُ لِلْمَعْصِيَةِ فَيَأْبَى، وَتَتَحَرَّكُ فِيهِ اَلشَّهْوَةُ فَيَكْبَحُ جِمَاحَهَا، وَتَبْدُو أَمَامَهُ اَلْفِتْنَةُ فَلَا يَسْتَجِيبُ لَهَا. فَيَقُودُ نَفْسَهُ وَلَا تَقُودُهُ، وَيَمْلِكُهَا وَلَا تَمْلِكُهُ، وَهَذَا أَوَّلُ مَيَادِينِ اَلِانْتِصَارِ..
وَأُولَى اَلنَّاسِ بِالثَّنَاءِ شَابٌّ نَشَأَ فِي طَاعَةِ اللَّهِ حَيْثُ تَدْعُو اَلصَّبْوَةُ أَتْرَابَهُ وَأَقْرَانَهُ إِلَى مُقَارَفَةِ اَلسُّوءِ وَالْبَحْثِ عَنِ اَلرَّذِيلَةِ، وَرَجُلٌ تَهَيَّأَتْ لَهُ أَبْوَابُ اَلْمَعْصِيَةِ اَلَّتِي يَتَسَابَقُ اَلنَّاسُ إِلَى فَتْحِهَا أَوْ كَسْرِهَا؛ فَتَدْعُوهُ اِمْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَيَقُولُ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ.
وَإِذَا كَانَ كُلُّ اَلنَّاسِ يُحْسِنُ اَلْغَضَبَ وَالِانْتِقَامَ لِلنَّفْسِ عِنْدَ اَلْقُدْرَةِ، إِلَّا أَنَّ اَلَّذِي لَا يُجِيدُهُ إِلَّا اَلرِّجَالُ هُوَ اَلْحِلْمُ حِينَ تَطِيشُ عُقُولُ اَلسُّفَهَاءِ، وَالْعَفْوُ حِينَ يَنْتَقِمُ اَلْأَشِدَّاءُ، وَالْإِحْسَانُ عِنْدَ اَلْقُدْرَةِ وَتَمَكُّنِ اَلاِسْتِيفَاءِ؛ فَاسْتَحَقُّوا اَلْمَدْحَ مِنَ اللَّهِ: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، وَالثَّنَاءَ مِنْ رَسُولِهِ كَمَا فِي اَلْحَدِيثِ اَلْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ: «لَيْسَ اَلشَّدِيدُ بِالصُّرَعَةِ، إِنَّمَا اَلشَّدِيدُ اَلَّذِي يَمْلِكُ نَفْسَهُ عِنْدَ اَلْغَضَبِ».
اَلنَّخْوَةُ وَالْعِزَّةُ وَالْإِبَاءُ
فَاَلرِّجَالُ هُمْ أَهْلُ اَلشَّجَاعَةِ وَالنَّخْوَةِ وَالْإِبَاءِ، وَهُمُ اَلَّذِينَ تَتَسَامَى نُفُوسُهُمْ عَنِ اَلذُّلِّ وَالْهَوَانِ. وَالرَّاضِي بِالدُّونِ دَنِيٌّ.
وَقَدْ كَانَ لِلْعَرَبِ اَلْأَوَائِلِ اِعْتِنَاءٌ بِالشَّجَاعَةِ وَالنَّخْوَةِ، وَكَانَتْ مِنْ مَفَاخِرِهِمْ وَأَمْجَادِهِمْ. جَاءَ فِي بُلُوغِ الْأَرَبِ: «وَالْعَرَبُ لَمْ تَزَلْ رِمَاحُهُمْ مُتَشَابِكَةً، وَأَعْمَارُهُمْ فِي الْحُرُوبِ مُتَهَالِكَةً، وَسُيُوفُهُمْ مُتَقَارِعَةً، قَدْ رَغِبُوا عَنِ الْحَيَاةِ، وَطِيبَ اللَّذَّاتِ… وَكَانُوا يَتَمَادَحُونَ بِالْمَوْتِ، وَيَتَهَاجَوْنَ بِهِ عَلَى الْفِرَاشِ وَيَقُولُونَ فِيهِ: مَاتَ فُلَانٌ حَتْفَ أَنْفِهِ»، حَتَّى قَدْ قَالَ قَائِلُهُمْ:
إِنِّي لِمِنْ مَعْشَرٍ أَفْنَى أَوَائِلَهُمْ … قَوْلُ الْكُمَاةِ: أَلَا أَيْنَ الْمُحَامُونَا
لَوْ كَانَ فِي الْأَلْفِ مِنَّا وَاحِدٌ فَدَعُوا … مَنْ فَارِسٌ؟ خَالُهُمْ إِيَّاهُ يَعْنُونَا
وَلَا تَرَاهُمْ وَإِنْ جَلَّتْ مُصِيبَتُهُمْ … مَعَ الْبُكَاةِ عَلَى مَنْ مَاتَ يَبْكُونَا
فَجَاءَ الْإِسْلَامُ فَرَبَّى أَبْنَاءَهُ عَلَى الشَّجَاعَةِ وَالْعِزَّةِ وَالْحَمِيَّةِ، وَهَذَّبَ مَعَانِيهَا فِي نُفُوسِ أَتْبَاعِهِ وَضَبَطَهَا، فَلَمْ تَعُدْ عِنْدَ أَتْبَاعِهِ مُجَرَّدَ مَيْدَانٍ لِلْفَخْرِ وَالْخُيَلَاءِ، بَلْ هِيَ مَيْدَانٌ لِنَصْرِ الدِّينِ وَالذَّبِّ عَنْ حِيَاضِهِ. وَجَعَلَ الْجُبْنَ وَالْهَوَانَ مِنْ شَرِّ مَا يَنْقُصُ الرِّجَالَ، كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «شَرُّ مَا فِي رَجُلٍ شُحٌّ هَالِعٌ وَجُبْنٌ خَالِعٌ» رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ. وَأَخْرَجَ الشَّيْخَانِ وَاللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ –رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ– قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ –صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ– أَحْسَنَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَشْجَعَ النَّاسِ…»
اَلْوَفَاءُ:
وَاَلْوَفَاءُ مِنْ شِيَمِ اَلرِّجَالِ اَلَّتِي يُمْدَحُونَ بِهَا، كَيْفَ لَا وَقَدْ كَانَ أَهْلُ اَلشِّرْكِ يَفْتَخِرُونَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْإِسْلَامِ،
وَخَيْرُ نَمُوذَجٍ لِلْوَفَاءِ لَدَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ مَا فَعَلَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جُدْعَانَ فِي حَرْبِ الْفِجَارِ اَلَّتِي دَارَتْ بَيْنَ كِنَانَةَ وَهَوَازِنَ، إِذْ جَاءَ حَرْبُ بْنُ أُمَيَّةَ إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ: اِحْتَبِسْ قِبَلَكَ سِلَاحَ هَوَازِنَ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ: أَبِالْغَدْرِ تَأْمُرُنِي يَا حَرْبُ؟! وَاللَّهِ لَوْ أَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُبْقِي مِنْهَا إِلَّا سَيْفًا إِلَّا ضُرِبْتُ بِهِ، وَلَا رُمْحًا إِلَّا طُعِنْتُ بِهِ مَا أَمْسَكْتُ مِنْهَا شَيْئًا.
وَحِينَ جَاءَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْسَى بِخُلُقِهِ وَوَفَائِهِ مَكَارِمَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ. وَمِنْ أَمْثِلَةِ وَفَائِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مَوْقِفُهُ يَوْمَ الْهِجْرَةِ وَإِبْقَاؤُهُ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِرَدِّ الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا. وَمَوْقِفُهُ يَوْمَ الْفَتْحِ حِينَ أَعْطَى عُثْمَانَ بْنَ طَلْحَةَ مِفْتَاحَ الْكَعْبَةِ وَقَالَ: «هَاكَ مِفْتَاحَكَ يَا عُثْمَانُ، الْيَوْمَ يَوْمُ بِرٍّ وَوَفَاءٍ».
وَحِينَ تَخَلَّتِ الْأُمَّةُ عَنْ أَخْلَاقِ الرِّجَالِ وَسَادَ فِيهَا التَّهَارُجُ هَوَتْ وَانْهَارَتْ قُوَاهَا حَتَّى رَثَاهَا أَعْدَاؤُهَا.
يَقُولُ كُونْدِي – أَحَدُ الْكُتَّابِ النَّصَارَى – حَيْثُ قَالَ: «اَلْعَرَبُ هَوَوْا حِينَ نَسُوا فَضَائِلَهُمُ الَّتِي جَاءُوا بِهَا، وَأَصْبَحُوا عَلَى قَلْبٍ مُتَقَلِّبٍ يَمِيلُ إِلَى الْخِفَّةِ وَالْمَرَحِ وَالِاسْتِرْسَالِ بِالشَّهَوَاتِ».
وَهُنَاكَ مُقَوِّمَاتٌ أُخْرَى كَثِيرَةٌ كَالْجُودِ وَسَخَاوَةِ النَّفْسِ، وَالْإِنْصَافِ وَالتَّوَاضُعِ فِي غَيْرِ مَذَلَّةٍ، وَغَيْرِهَا مِنْ كُلِّ خُلُقٍ كَرِيمٍ وَكُلِّ سَجِيَّةٍ حَسَنَةٍ، كُلَّمَا اكْتَمَلَتْ فِي إِنْسَانٍ اكْتَمَلَ بِاكْتِمَالِهَا رُجُولَتُهُ. فَأَيْنَ الْعَامِلُونَ؟
لَقَدْ كَانَتِ الرُّجُولَةُ إِرْثًا يَتَوَارَثُهُ النَّاسُ لَا تَعْدُو أَنْ تَكُونَ بِحَاجَةٍ إِلَّا إِلَى مُجَرَّدِ التَّهْذِيبِ وَالتَّوْجِيهِ، أَمَّا الْيَوْمَ فَقَدْ أَفْسَدَتِ الْمَدَنِيَّةُ
النَّاسَ، وَقَضَتْ عَلَى مَعَالِمِ الرُّجُولَةِ فِي حَيَاتِهِمْ، فَنَشْكُو إِلَى اللَّهِ زَمَانًا صِرْنَا فِيهِ بِحَاجَةٍ إِلَى التَّذْكِيرِ بِالشِّيَمِ وَالْمَكَارِمِ وَأَخْلَاقِ الرِّجَالِ.
الدُّعَاءِ
اللَّهُمَّ أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا وَحَبِّبْنَا فَى بَعْضِنَا وَانْزِعْ الشَّحْنَاءَ وَالْبَغْضَاءَ مِنْ قُلُوبِنَا وَانْشُرْ الْأَمْنَ وَالْأَمَانَ فَى بِلَادِنَا وَسَائِرِ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ وَارْفَعْ الْبَلَاءَ وَالْغَلَاءَ عَنَّا اللَّهُمَّ انْصُرْ إِخْوَانَنَا الْمُسْتَضْعَفِينَ فَى بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِوَالِدَيْنَا كَمَا رَبَّيَانَا صِغَارًا اللَّهُمَّ اغْفِرْ لَهُمَا وَارْحَمْهُمَا يَارِبَ الْعَالَمِينَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ وَارْحَمْ مَشَايِخَنَا وَعُلَمَائِنَا وَإِلَى كُلِّ مَنْ كَانَ لَهُ فَضْلٌ عَلَيْنَا يَارِبَ الْعَالَمِينَ
وَأَقُمْ الصَّلَاةُ