الأكوان المتعددة وأرض السمسمة، عندما يتلاقى الكشف الصوفي مع النظريات الكونية

بقلم : محمد نجيب نبهان ( كاتب وناقد و باحث تاريخي )

في تاريخ الفكر الإسلامي، تشكّل التجليات الصوفية منبعًا لأسئلة كونية كبرى، تنبع من الحدس الروحي والرؤية الباطنية للعالم. واحدة من أبرز تلك التجليات ما رواه الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي عن أرض تُعرف بـ”أرض السمسمة”، أو “أرض الحقيقة”، وهي أرض متناهية الصغر في الكيان، عظيمة الاتساع في الوجود، تشكّل مسرحًا عجيبًا تتجلّى فيه قدرات الله على نحو يتجاوز العقول.

وفي العصر الحديث، جاءت الفيزياء النظرية، لا سيما في تفسيرها للكون عبر نظريات مثل الأكوان المتعددة، لتقترح نماذج رياضية ووجودية تنسجم بصورة عجيبة، ولو من طرفٍ مختلف، مع ما ذكره المتصوفة، وعلى رأسهم ابن عربي، من عوالم موازية وظواهر خارقة لقوانين المنطق العقلي المعتاد.

فهل يمكن الربط بين ما أشار إليه الشرع، والكشف الصوفي، وما توصل إليه العقل العلمي؟ وهل تُعد “أرض السمسمة” تمثيلاً صوفيًا مبكرًا لمفهوم الأكوان المتعددة؟ لنقترب من هذا السؤال المركب من خلال هذا العرض التحليلي.

أولًا: أرض السمسمة في تجربة ابن عربي

أفرد الشيخ الأكبر ابن عربي بابًا كاملاً في “الفتوحات المكية” (الباب الثامن) حول أرضٍ عجيبة تُدعى أرض السمسمة. وجاء وصفه لها على النحو الآتي:

أنها خُلقت من فضلة طينة آدم، بعد أن خُلق آدم والنخلة.

أنها صغيرة جدًّا: “بقدر السمسمة في الخفاء”، لكنها شاسعة الاتساع بحيث لو جُعل العرش والكرسي والسماوات والجنة والنار فيها، لكانت كلها “كحلقة في فلاة” نسبة إلى سعتها.

أهلها يُخلقون من الأرض مباشرة لا من نطفة ولا تناسل، ويتحدثون بكل الألسنة بالفطرة.

قوانين المكان والزمان فيها تختلف عن عالمنا، إذ لا يوجد فيها ماضٍ ومستقبل، بل “الزمان الحال الدائم”.

العقل فيها لا يُعد مرجعًا كافيًا، لأن كثيرًا من المحالات العقلية تقع واقعًا في هذه الأرض: “علمنا أن العقول قاصرة، وأن الله قادر على جمع الضدين ووجود الجسم في مكانين…”.

من يدخلها من العارفين إنما يدخلها بروحه، ويخلّف جسده في الأرض الدنيا، ويُلبس في عالم السمسمة جسدًا يناسب طبيعتها.

ووصف فيها بحارًا من تراب تجري كما يجري الماء، وسفنًا من حجارة تتجاذب مغناطيسيًّا، ومدائن لا تُحصى.

هذا النص يُشكّل عرضًا رمزيًا وميتافيزيقيًا لعالم تتغيّر فيه قوانين المنطق الفيزيائي والعقلي، وتُصبح إمكانيات الوجود مفتوحة على مصراعيها.

ثانيًا: أثر ابن عباس في فهم العوالم المتعددة

في تفسير قوله تعالى:

“اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ” [الطلاق: 12]،

روى البيهقي في كتاب “الأسماء والصفات” أثرًا عن ابن عباس رضي الله عنهما قال فيه:

“سبع أرضين، في كل أرض نبي كنبيكم، وآدم كآدم، ونوح كنوح، وإبراهيم كإبراهيم، وعيسى كعيسى”.

وهو أثر صحّحه بعض المحدثين، ويُعدّ من أقوى الإشارات في التراث التفسيري إلى وجود “عوالم أرضية” أخرى متزامنة، مستقلة، تتكرر فيها النبوات والتجارب البشرية. وهو تصوّر يشبه بشكل مذهل ما يُقال في العلم اليوم عن الأكوان الموازية التي قد توجد فيها نسخ أخرى من الأرض والإنسان، تتكرّر فيها الأحداث بتفاوت طفيف أو كامل.

ثالثًا: العوالم في الكتب المقدسة الأخرى

حتى في التوراة والإنجيل، هناك إشارات إلى تعددية العوالم:

ففي سفر التكوين (الإصحاح الأول)، ورد: “وقال الله: ليكن جلدٌ في وسط المياه، وليكن فاصلاً بين مياه ومياه… ودعا الله الجلد سماءً”، وهذا النص فيه بُعدٌ غامض يشير إلى فصل عوالم متجاورة.

كما ورد في رسالة بولس إلى أهل كورنثوس: “إنه يوجد أجسام سماوية وأجسام أرضية، لكن مجد السماويات شيء، ومجد الأرضيات شيء آخر”.

هذه النصوص تدل، في مجموعها، على إدراك لوجود طبقات متعدّدة من الواقع، متفاوتة في الكينونة والمجد، وهو ما ينسجم مع التصور الإسلامي لعوالم الأرواح، والمثال، والبرزخ، والملائكة، والجن، وغيرها.

رابعًا: نظريات الأكوان المتعددة في الفيزياء الحديثة

جاءت نظرية الأكوان المتعددة كنتاج طبيعي لتطور الفيزياء الكمية والنسبية، ومن أبرز صورها:

نظرية الأكوان المتفرعة (Many-Worlds): كل قرار أو حالة كمية ينتج عنه تفرّع الكون إلى نسختين أو أكثر.

نظرية التضخم الأبدي (Eternal Inflation): بعد الانفجار العظيم، لا يزال الكون يتوسع بشكل غير متجانس، منتجًا أكوانًا جيبية عديدة.

نظرية الأوتار (String Theory): تقترح وجود أبعاد أكثر من الأربعة المعروفة (الزمان والمكان الثلاثي)، وقد تحتوي هذه الأبعاد طاقات وأكوانًا مستقلة.

مبدأ الهولوغرافيا (Holographic Principle): الكون بأكمله قد يكون تمثيلًا ثنائي الأبعاد لواقع ثلاثي الأبعاد مشفّر على حدود الكون.

هذه النظريات، على اختلاف مدارسها، تتفق على مبدأ: أن الكون الذي نراه ليس إلا طبقة واحدة من وجودٍ أوسع، وأكثر تنوعًا، قد لا تخضع لنفس قوانيننا.

خامسًا: أرض السمسمة كرمز لكشف متعدد الطبقات

بالمقارنة بين أوصاف أرض السمسمة وما تقوله الفيزياء، نجد نقاطًا مدهشة من التقاطع:

اختلاف قوانين الزمن والمكان: في أرض السمسمة، لا ماضٍ ولا مستقبل، بل “الزمان الحال”. وفي الفيزياء الكمية، هناك حالات كمومية لا زمانية، ومعادلات تصف الكون قبل وجود الزمن نفسه.

تعدد الأجساد والأشكال: ابن عربي يقول إن الداخل إلى أرض السمسمة يُمنح جسدًا جديدًا. في الأكوان المتعددة، قد توجد نسخ متعددة من الشخص ذاته، بصفات فيزيائية مختلفة.

وجود المحالات: ابن عربي يؤكد أن ما هو محال عقلاً يقع في هذه الأرض، مثل “وجود الجسم في مكانين”، وهو ما تقبله ميكانيكا الكم عبر مبدأ التراكب (Superposition).

صغر الحجم وكبر المحتوى: هذه الأرض بحجم السمسمة، لكنها تحتوي السماوات، كما يقول ابن عربي، مما يشبه فكرة الأبعاد المطوية (Compacted Dimensions) في نظرية الأوتار.

الانتقال الروحي بين العوالم: السفر إلى هذه الأرض لا يتم بالجسد بل بالروح، في حالة تشبه ما يحدث في الأحلام أو في حالات الاقتراب من الموت، وهي تجارب تثير اهتمام علماء الوعي العصبي والكمي.

سادسًا: العقل، الكشف، والشرع بين ثلاثية الفهم

قد يُعترض على هذه المقارنات بأنها خلط بين الغيب والعلم، بين الروح والمادة. لكن ما ندعو إليه ليس التطابق، بل التقاطع. فالكشف الصوفي لا يناقض العلم، لكنه يسبقه في مجاله؛ والعقل لا يُنقض بالكشف، لكنه يُقر بحدوده؛ والشرع لا يمنع التأمل في العجائب، بل يحث عليه.

ابن عربي لم يدّع نسخ العقيدة، بل كان يقول: “ما يخالف الشريعة فهو نزغ من الشيطان”، ومع ذلك كان يقرر:

“وجدنا في هذه الأرض ما أحاله العقل بالدليل، قد وقع، فعلمنا أن العقول قاصرة، وأن الله على كل شيء قدير”.

والمؤمن الحق لا يرى في هذا ما يُضعف العقل، بل ما يعيد وضعه في موضعه: خادمٌ للوحي، ووسيلة للكشف، لا سيدٌ على كل ما هو غائب.

أرض الله واسعة… بقدر السمسمة

لقد جاءت الأرض السمسمة عند الشيخ الأكبر لتكون صورة رمزية، لا عن غرابة الوجود فقط، بل عن سرّ التجلي. وجاءت الأكوان المتعددة لتقول بلغة العلم الحديث: هناك عوالم أخرى، طبقات من الواقع، تتجاوز الحواس وتسبق العقل.

وعند مفترق الطريق، يلتقي الصوفي بالفيزيائي، ويلتقي المؤمن بالعالم، فيقول الجميع: ما أضيق العالَم إذا حُصر فيما تراه العين.

قال الله تعالى:

“فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لَا تُبْصِرُونَ” [الحاقة: 38-39].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

“لو كشف الله عنكم الحجاب، لرأيتم العجائب”.

وقال ابن عربي:

“أرض الحقيقة، أرضٌ ترى فيها المستحيل وقد صار ممكنًا، لأنها مظهر من مظاهر القدرة، لا من حدود العقل”.

وهكذا، من السمسمة إلى المجرة، ومن الحلم إلى المعادلة، نُعيد اكتشاف الطريق إلى المعرفة… طريق يبدأ من الذات، وينتهي عند الحقيقة المطلقة.

والله أعلم.