جعفر الطائر.. الشهيد الحبيب في جنات الخلود

بقلم فضيلة الشيخ : حسين السمنودي
إمام وخطيب ومدرس على درجة مدير عام بمديرية أوقاف القاهرة

في سماء المجد الإسلامي، يرفرف اسم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه كما ترفرف أجنحة الطهر والشهادة، وكأن الله اصطفاه ليكون من أولئك الذين يُخلَّدون في ذاكرة الأمة لا بكثرة كلامهم، بل بعظمة أفعالهم، وصدق إيمانهم، ونور بطولاتهم. جعفر، ابن عم رسول الله ﷺ، وأحد السابقين إلى الإسلام، وصاحب الهجرتين، وقائد معركة مؤتة، وبطل من طراز لا يتكرر.

كان جعفر بن أبي طالب مثالاً للخلق العظيم والرحمة والعزة، فمنذ أن أسلم، نذر نفسه للدعوة وتحمل في سبيل الله ما لا يتحمله إلا الرجال الصادقون، وكان ممن هاجر إلى الحبشة، فكان لسان الإسلام الناطق هناك أمام النجاشي، حين مثَّل المسلمين في ذلك اللقاء التاريخي الخالد، الذي قرأ فيه من آيات سورة مريم، فاهتز لها قلب النجاشي حتى فاضت عيناه بالدمع، وقال: “إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة”.

ثم عاد إلى المدينة بعد سنوات طويلة من الغربة والحنين، لم يرجع خائر العزم، بل عاد أكثر إيمانًا وصلابة، فاستقبله رسول الله ﷺ بقوله: “ما أدري بأيهما أنا أشد فرحًا: بقدوم جعفر، أم بفتح خيبر!”. كانت تلك اللحظة تفيض بالمحبة والحنين والفرح النبوي، فقد كان جعفر أقرب الناس إلى قلب رسول الله، شبيهًا في الخَلق والخُلق، وكان النبي يحبه حبًا عظيمًا، وكان كثيرًا ما يقول عنه: “أشبهت خلقي وخُلقي”.

ولما حانت ساعة الابتلاء، اختاره رسول الله ﷺ ليكون القائد الثاني في معركة مؤتة، بعد زيد بن حارثة، وقال: “إن قتل زيد، فجعفر، وإن قُتل جعفر فعبد الله بن رواحة”. مضى جعفر إلى أرض مؤتة في الأردن اليوم، وهو يعلم أن الروم يفوقونهم عددًا وعدة، لكنه لم يرضَ أن يتراجع، فقد تربى على الإيمان الراسخ والعقيدة الثابتة.

وفي ميدان المعركة، كان جعفر على جواده، يحمل الراية ثابتًا لا يرتجف، حتى إذا اقتربت الرماح من جسده، ترجل عن فرسه، وضرب عنق الفرس بسيفه حتى لا يفرّ به، ثم حمل الراية بكلتا يديه، وظل يقاتل حتى قطعت يمينه، فأخذها بشماله، فقطعت هي الأخرى، فاحتضن الراية بعضديه، وبقي صامدًا شامخًا، لا يرضى أن تسقط راية الإسلام وهو حي، حتى قُتل.

وُجد في جسده أكثر من تسعين طعنة وضربة، كلها في مقدمة جسده، ما يدل على أنه لم يولِّ ظهره لعدو، بل واجههم كالصخرة التي لا تنكسر. وبهذا المشهد البطولي، كتب جعفر اسمه في سجلات الخلود، ورفعه الله إلى مقام الشهداء، بل أعطاه أعظم مكافأة، إذ قال النبي ﷺ: “رأيت جعفرًا في الجنة، له جناحان يطير بهما حيث شاء”، ومن يومها سُمي جعفر الطيار، الشهيد الطائر في الجنة.

بكت المدينة كلها يوم جاء نبأ استشهاد جعفر، وبكى رسول الله ﷺ، ومضى بنفسه إلى بيت جعفر، فواسى أسماء بنت عميس زوجته، وضم أبناءه إلى صدره، وربّت على رؤوسهم، وعيناه تفيض بالدموع. ثم قال قولته الشهيرة التي هزت قلوب الصحابة: “اصنعوا لآل جعفر طعامًا، فقد أتاهم ما يشغلهم”. وها هو الإسلام يعلمنا حتى في الحزن كيف نكون أهل مروءة ورحمة.

لقد كان جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه جسراً بين النبوة والبطولة، يجمع في شخصه طهارة القلب، وثبات المجاهد، ونور الدعوة. كان محبوبًا بين الصحابة، محبًا لله ولرسوله، وحين فارق الحياة شهيدًا، فاضت القلوب بالحزن، لكن الأرواح أزهرت بالأمل، لأن جعفر لم يمت، بل ارتقى، طائرًا، محلّقًا، في جنةٍ عرضها السماوات والأرض.

ويا جعفر… أيها الطاهر الشهيد، أيها الطيار في رياض الجنة، يا من صبرت ففزت، وثبت فخلدت، لا تزال دموع المحبين تنعيك، ولا تزال القلوب المؤمنة تذكرك بكل فخر وحزن. سلام عليك يوم وُلدت، ويوم قاتلت في سبيل الله، ويوم ارتفعت بجناحين في جنان الخلد.

سلامٌ على جعفر، في الأرض والسماء.