بقلم : محمد نجيب نبهان ( كاتب وناقد و باحث تاريخي )
حين نتأمل واقعة المعراج، حيث عرج النبي محمد صلى الله عليه وسلم إلى السماوات العلى، نجد أنه رأى الجنة والنار، رأى نعيم المؤمنين وعذاب الكافرين، وكأن الأمر قد وقع واكتمل، رغم أن الساعة لم تقم بعد، ولم يُبعث الناس من قبورهم، ولم تنتهِ أعمارهم ولم يُنفخ في الصور. كيف يمكن لهذا أن يكون؟ كيف يُرى المستقبل كأنه ماضٍ؟ هذا السؤال يفتح بابًا من التأمل الفلسفي والديني والعلمي في طبيعة الزمن، والحساب، والكون نفسه.
في القرآن الكريم، نجد أن الله يتحدث عن أهوال يوم القيامة بصيغة الماضي، لا المستقبل. يقول تعالى: “وأزلفت الجنة للمتقين * وبرّزت الجحيم للغاوين * وقيل لهم أين ما كنتم تعبدون * من دون الله هل ينصرونكم أو ينتصرون * فكبكبوا فيها هم والغاوون” [الشعراء: 90-94]. لاحظ أن الأفعال: أزلفت، برزت، قيل، كُبكبوا، كلها بصيغة الماضي، وكأنها وقعت وانتهت. في موضع آخر يقول: “ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه” [الكهف:49]، ويضيف: “ووجدوا ما عملوا حاضرًا”. هذه العبارة الأخيرة – “حاضرًا” – توحي بأن ما نظنه ماضيًا (أعمالنا) أصبح حاضرًا، وأن ما نظنه مستقبلًا (الحساب) قد وقع فعلاً في بعدٍ زمنيٍّ آخر.
الفكر البشري قسّم الزمن إلى ماضٍ وحاضر ومستقبل، لأن وعينا مرتبط بتسلسل لحظي يخضع لما يُعرف بـ”الزمن الخطي”. لكن القرآن الكريم يقدّم تصورًا مختلفًا، زمنًا لا تسري عليه قوانين البشر. ففي قوله تعالى: “وما أمر الساعة إلا كلمح البصر أو هو أقرب” [النحل:77]، وكذلك: “إن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون” [الحج:47]، نُدرك أن الزمن عند الله ليس كما نعرفه، بل إن إدراك الماضي والحاضر والمستقبل عند الله يتجاوز مفهوم التعاقب. هو زمن خارج الزمن، لحظة جامعة لكل اللحظات، لحظة أزلية أبدية، فيها ينكشف كل شيء، وكأن الكتاب قد كُتب كله ويُقرأ أمامنا الآن.
هنا يمكن استحضار نظريات الفيزياء الحديثة، خصوصًا النظرية النسبية لأينشتاين، التي تقول إن الزمن ليس ثابتًا، بل يمكن أن يتمدد أو ينكمش بحسب السرعة والجاذبية. في الأبعاد الكونية، حيث السرعة تقترب من سرعة الضوء، يكاد الزمن يتوقف، وهذا يُعيد تشكيل تصورنا للوقت، ليكون أقرب إلى بُعد رابع يمكن التنقل فيه لا مجرد تيار يجرفنا.
أما في فيزياء الكم، فنجد ما هو أكثر غرابة: مبدأ التراكب (superposition) يثبت أن الجسيمات يمكن أن تكون في أكثر من حالة في الوقت ذاته، ومبدأ “تشابك الجسيمات” (quantum entanglement) يدل على وجود تواصل لحظي بين جزيئات منفصلة مسافات شاسعة، دون أن يمر الزمن بينهما كما نعرفه. هذه الأفكار جعلت بعض العلماء يطرحون نظريات مثل “الكون المرآوي”، أو “الأكوان المتعددة”، أو حتى “كون المحاكاة”، وهي نظرية تقول إننا نعيش في محاكاة رقمية فائقة الذكاء صممها كيان أعلى، ما يقارب مفهوم اللوح المحفوظ في الدين.
هنا نجد أن الدين والعلم يتلاقيان. فالله يقول: “كل شيء أحصيناه في إمام مبين” [يس:12]، ويقول: “إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون” [الجاثية:29]، وكأن كل لحظة نعيشها محفوظة، مستنسخة، ومراقبة في منظومة خفية. نحن نظن أننا نعيش لحظة اختيار، لكن من منظور علويٍّ، قد نكون نعيش ما تم تسجيله مسبقًا، نعيد مشاهدة حياة قد خضناها أو سنخوضها، في عملية تُقارب عرض الأعمال يوم القيامة.
الحديث الشريف أيضًا يفتح آفاقًا. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “كأنك ميتٌ في أصحاب القبور”، ويقول: “عرضت عليّ الجنة والنار، فلم أر كاليوم في الخير والشر” [رواه مسلم]. كيف تعرض الجنة والنار، وهما مستقبل البشرية؟ هل نُعرض عليهما في رؤيا أم في بعد زماني آخر؟
بل تأمل قوله تعالى عن الحساب: “لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد” [ق:22]، كأن الغطاء زال، والرؤية أصبحت حادة. ماذا لو كانت حياتنا الحالية هي ذلك الغطاء، وأننا في لحظة كشف تدريجي؟ أليست هذه العبارة دالة على أن الحساب ليس بعيدًا؟ بل إنه يُعرض الآن في بعدٍ آخر نغفل عنه؟
ظاهرة الديجافو (شوهد من قبل) تُضيف للطرح بعدًا فلسفيًا عميقًا. ملايين البشر يشعرون فجأة أنهم مرّوا بلحظة ما من قبل، مع أنهم لم يسبق أن عاشوها. هل هو خلل في الدماغ؟ أم ومضة من ذاكرة محذوفة؟ أم تذكير بأننا نعيد عرض حياة خضناها سابقًا؟ النظرية الدينية قد تفسرها بأنها ومضة من اللوح المحفوظ أو من ذاكرة العرض الإلهي. النظرية الفلسفية ترى أنها تراكب زمني، كأن الماضي والحاضر والمستقبل تتقاطع لحظة ما في الشعور. والعلم العصبي لم يجد تفسيرًا مقنعًا للديجافو، ما يجعلها أحد ألغاز الإدراك البشري.
والأحاديث تؤيد فكرة السبق الزمني، فالله خلق القلم وقال له: “اكتب”، قال: “وما أكتب؟” قال: “اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة” [رواه الترمذي]. إذًا كل شيء مكتوب. نحن الآن نعيش المكتوب. قال الله: “ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها” [الحديد:22]، وهذا الكتاب ليس فقط للتوثيق، بل للحساب والعرض والمحاسبة.
لو تأملنا العبارات: “يعرضون على ربهم”، “وقفوهم إنهم مسؤولون”، “وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه”، و”يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون”، لأدركنا أن العرض سيكون بالصوت والصورة، وهو أشبه بفيلم تفصيلي من إنتاج رباني، نراه ويُعرض علينا.
ربما نحن الآن نعيش في طور العرض، في بيئة افتراضية من خلق الله، نعيد مشاهدة حياة قد عشناها، أو نحياها لنكمل العدالة الإلهية في أنفسنا. ولذلك قال تعالى: “ليَهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيّ عن بينة” [الأنفال:42]، لأن العرض يعيد كشف الحُجج.
لسنا نُجزم، لكننا نفتح باب التأمل في قول الله: “ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى”، وأن كل ما نراه حولنا ليس عبثًا بل حقٌّ محكم، يمر ضمن سيناريو لا يُخطئ، حتى أصغر الذرات داخله محسوبة، فالله يقول: “وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين” [الأنعام:59].
ربما حين نغادر هذا العالم، ندرك أننا كنّا نحاسب دون أن نعلم، وأن كل لحظة، وكل اختيار، وكل نية، كانت ضمن منظومة العدالة الإلهية، محفوظة، معروضة، ومقضية.