اللقمةٌ المسبوغةٌ بالدماء وصرخات وأنين وٱهات

بقلم فضيلة الشيخ : حسين السمنودي
إمام وخطيب ومدرس على درجة مدير عام بمديرية أوقاف القاهرة

 

في غزة، كل شيء يتحول إلى رماد، حتى اللقمة، حتى القطرة، حتى الصرخة. لا وجود لشيء آمن، لا حلم يُحتضن، لا عيش يُؤكل، لا دواء يُعطى، ولا طفل يُولد دون أن يكون قاب قوسين أو أدنى من أن يكون رقماً جديداً في سجلات الموت.

غزة الآن ليست فقط محاصرة، بل مذبوحة على موائد العالم، وكل يد تمتد إليها محملة بكيس دقيق أو علبة حليب، تقابلها يد أخرى تحمل بندقية، أو صاروخًا، أو قرارًا دوليًّا مريبًا بالصمت والتواطؤ.

لقد تحولت مراكز توزيع المساعدات الغذائية إلى مصائد للموت، إلى فخاخ مغطاة بأغطية الإغاثة. لا أحد يخرج من هذه المراكز إلا وقد خسر شيئًا: حياته، أحد أطرافه، طفلًا كان يرافقه، أو حتى كرامته. أن تسير في طابور طويل يحمل الأمل، ثم ينتهي بك المطاف قتيلًا أو جريحًا أو مفجوعًا، فهذه مأساة لا يُعقل أن تحدث في القرن الحادي والعشرين تحت سمع وبصر العالم. لكنها تحدث في غزة… كل يوم، كل ساعة، وكل لقمة!

في غزة لا يُستخدم الجوع وسيلة ضغط فقط، بل سلاح إبادة جماعية بطيئة ومدروسة. الجوع ليس طبيعيًا، بل مُصمَّم ومقصود. يمنعون دخول الدقيق، ثم يدخلونه في لحظة مدروسة تحت عدسات الكاميرات، فيتزاحم الناس، ويُطلق الرصاص، وتُخلَّف المذبحة باسم “تنظيم الطوابير” أو “خطأ غير مقصود”!

منذ متى كان توزيع المساعدات يتطلب تنسيقا أمنيا مع من يحتل الأرض؟
منذ متى أصبحت الإنسانية مشروطة؟
منذ متى أصبح على المريض أن يقدم تصريحًا، وعلى الجائع أن يدفع دمه مقدمًا؟

شاحنات المساعدات التي تدخل القطاع لا تُدخل معها الأمل، بل تسحب خلفها قوافل من الجثث، وتحمل على ظهرها لعنة الصمت العربي والدولي. تُلقى عبوات الغذاء من السماء، في مشهد يُشبه إطعام الطير، لا احترام لإنسان، ولا تقدير لكرامة. وفي بعض الأيام، تُسقط طائرات الاحتلال منشورات تقول للناس: “اتجهوا إلى النقطة الفلانية.. بها مساعدات”، وما إن يحتشدوا حتى ينقضّ الصاروخ، أو تنطلق النيران، فيسقط العشرات بين شهيد وجريح. إنها حفلة موت جماعي باسم “المساعدة الإنسانية”.

أما المرضى في غزة، فهم يموتون مرتين: مرة بالجوع، ومرة بالدواء الممنوع. مرضى السرطان يصرخون في المستشفيات الخاوية من العلاج، ومرضى الكلى يفارقون الحياة على الأسرة الباردة دون جلسات غسيل. الأطفال الخُدّج يتنفسون بصعوبة لأن الكهرباء مقطوعة، والحواضن غير عاملة، والأنابيب متآكلة، والطواقم الطبية تعمل بأجسادها فقط، لأن كل شيء آخر قد فُقد.

يقولون إن هناك ممرًا آمنًا.. فيسير فيه المرضى، فيُقصفون.
يقولون هناك مستشفى غير مستهدف.. فيُدمَّر.
حتى سيارات الإسعاف باتت تُقصف، وحتى مراكز الهلال الأحمر أصبحت أهدافًا عسكرية، وكأن الإنسانية نفسها أصبحت تُعامل كجريمة.

ما يجري في غزة ليس حربًا، بل عقاب جماعي لشعب بأكمله، لأنهم فقط لم يستسلموا. يُعاقَب الفلسطينيون على صمودهم، على بقائهم، على أنهم لم يرحلوا. يموتون تحت الأنقاض، وتُدفن العائلات بأكملها في صمت القبور، والنجاة باتت استثناء نادرًا. أصبحت غزة اليوم تشبه سجنًا بلا سقف، تُغلق فيه أبواب الحياة، وتُفتح فيه فقط أبواب القصف، الجوع، القهر، والنحيب. لا ماء، لا كهرباء، لا أدوية، لا مدارس، لا جامعات، لا حتى مقابر كافية. وحتى الأكفان تنفد، فيُدفن الموتى في أكياس الخبز التي لم يحصلوا عليها في حياتهم.

في غزة، كل لقمة تسيل معها الدماء. لم تعد “اللقمة الهنيّة تكفّي مية”، بل أصبحت تكفي لمجزرة. وهكذا، يدخل الناس في اختبار يومي بين الجوع والموت. كل أب في غزة لا يسأل: هل أطعم أطفالي اليوم؟ بل يسأل: هل أخاطر بحياتهم لأجل لقمة؟
كل أم في غزة لا تُحضر الطعام، بل تُحضّر أطفالها نفسياً لاحتمال ألا يعودوا إذا خرجوا إلى مركز المساعدات.

العالم كله يشاهد ويصمت. منظمات الإغاثة تُصدر البيانات وتنتظر الموافقات، بينما الناس تموت. المجتمع الدولي يُدين بحياء، ووسائل الإعلام تساوي بين الجلاد والضحية. لقد أصبحت الإنسانية تخجل من نفسها أمام غزة، وأصبح الضمير العالمي في سبات، أو في صفقات.

غزة لا تموت فقط، بل تُقتل عمدًا. وكل لقمة تُلقى هناك، هي إما شهادة على الحياة، أو وثيقة إدانة للصمت العربي والدولي. إننا في مواجهة وصمة عار كبرى، ستظل تلاحق كل من وقف متفرجًا، وكل من ساوم على رغيف خبز مقابل دم، وكل من سلّم غزة لقدرها ثم ادّعى البكاء.

غزة لا تحتاج دموعنا، بل تحتاج موقفًا.
فما قيمة اللقمة إن كانت تُؤخذ بثمن العمر؟
وما قيمة الحياة إن كانت تُدار بمنطق المقايضة بين الكرامة والبقاء؟
اللهم إنهم جائعون، فارزقهم بلا منّة،
وإنهم مرضى، فاشفهم بلا قيد،
وإنهم مظلومون، فانتصر لهم عاجلاً غير آجل.

اترك تعليقاً