بقلم فضيلة الشيخ : حسين السمنودي
إمام وخطيب ومدرس على درجة مدير عام بمديرية أوقاف القاهرة
حين اجتاحت الجيوش الصليبية بلاد الشام في نهاية القرن الحادي عشر الميلادي، دخلت فلسطين مرحلة مظلمة من الاحتلال والدماء والخراب، استمرت قرابة قرنين من الزمن. وكانت البداية المروعة في عام 1099م، حين تمكنت الحملة الصليبية الأولى من اقتحام مدينة القدس بعد حصار دام أكثر من أربعين يومًا، في مشهد دامي لم يسبق له مثيل. دخل الصليبيون المدينة المقدسة وأعملوا فيها السيف والذبح والتنكيل، وارتكبوا مجزرة يندى لها جبين الإنسانية، حتى إن مؤرخهم الكنسي “ريموند الإجيلي” كتب مفتخرًا أن “الخيول كانت تغوص في دماء المسلمين حتى صدورها”. لم يسلم من تلك المجازر لا مسلم ولا يهودي ولا حتى المسيحيون الشرقيون، فقتل الصليبيون الجميع دون رحمة. تم حرق كنيس اليهود بمن فيه، وذُبح رجال الدين المسيحيون الذين لم يتعاونوا معهم، وذُبح عشرات الآلاف من المسلمين داخل المساجد وفي الأزقة، حتى تعفنت الجثث وسالت الدماء أنهارًا، ومنع الطعام والشراب عن السكان الباقين حتى مات كثير منهم جوعًا.
أسس الصليبيون بعد ذلك ما سُمي بـ”مملكة بيت المقدس الصليبية”، وبسطوا سيطرتهم على مساحات واسعة من فلسطين، خاصة المدن الساحلية، مثل يافا، وقيسارية، وحيفا، وعكا، وصيدا، وبيروت، وكانت القدس هي المركز الديني والسياسي لهذا الكيان الصليبي الطارئ. ولكن هذه السيطرة لم تكن تامة ولا مستقرة، فقد ظلت مناطق كثيرة خارج النفوذ الصليبي، وشهدت الأرض مقاومة شعبية وإسلامية، إلى أن جاء القائد صلاح الدين الأيوبي، الذي بدأ في توحيد الجبهة الإسلامية وتهيئة الأمة لمعركة كبرى تحرر الأرض وتعيد القدس.
وفي عام 1187م، التقى الجيش الإسلامي بقيادة صلاح الدين مع الجيش الصليبي في واحدة من أشهر المعارك في التاريخ: معركة حطين. بلغ عدد الجيش الإسلامي نحو 30 ألف مقاتل من المشاة والفرسان والمجاهدين المتطوعين، مدعومين بإيمان عميق بضرورة تحرير الأرض. أما الجيش الصليبي فقد بلغ قرابة 20 ألف مقاتل، يقوده ملك القدس “غي دي لوزينيان”، وضمت قواته فرسان المعبد وفرسان الإسبتارية وطبقة النبلاء الصليبية.
اختار صلاح الدين ساحة المعركة بدقة شديدة، فقام باستدراج الجيش الصليبي إلى منطقة حطين شمال فلسطين، في جو حار، بعيدًا عن منابع المياه، ثم قام بقطع الطرق المؤدية إلى مصادر الماء، وبدأ بمهاجمة قوات العدو المحاصرة بالحر والعطش والإرهاق، حتى انهارت مقاومتهم ووقعت الهزيمة الساحقة. سقط الآلاف من الصليبيين قتلى، وأُسر من تبقى، ومن بينهم ملك القدس نفسه ومعظم قادة الحملات الصليبية في الشرق. وبعد النصر مباشرة، اتجه صلاح الدين نحو القدس، وحاصرها حتى استسلمت دون أن تُراق فيها دماء، إذ أعطى أهلها الأمان، وسمح لمن أراد الخروج بالخروج، وتعامل مع الجميع بالرحمة، في صورة حضارية تناقض تمامًا ما فعله الصليبيون عند دخولهم قبل 88 عامًا.
رغم هذا النصر الكبير، لم ينتهِ الاحتلال الصليبي تمامًا. فقد ظلت بعض المدن الساحلية، وأبرزها عكا، تحت السيطرة الصليبية، وتحولت إلى معاقل متقدمة ومحطات تموين للقوات القادمة من أوروبا في الحملات الصليبية اللاحقة. لكن الوجود الصليبي بدأ يتآكل مع مرور الوقت، وواجه مقاومة مستمرة، حتى جاء الحسم النهائي على يد السلطان الأشرف خليل بن قلاوون، الذي قاد حملة كبرى عام 1291م، حاصر فيها عكا وقاتل بشراسة حتى سقطت المدينة، لتنتهي بذلك آخر معاقل الصليبيين في الشام، ويطوى بذلك فصل مؤلم من تاريخ فلسطين.
لقد استمر الاحتلال الصليبي لفلسطين ما يقرب من 192 عامًا، وشهدت الأرض خلاله أبشع صور القتل والتشريد والتجويع والنهب، ولكنها شهدت أيضًا صورًا عظيمة من البطولة والصبر والوحدة. وما تزال قصة الاحتلال الصليبي درسًا خالدًا للأمة في أن النصر لا يولد من التمني، بل من الإعداد والجهاد، ووحدة الكلمة، وقيادة مخلصة تعرف قيمة الأرض وقدسية القدس.
وما إن انتهى الوجود الصليبي من أرض فلسطين حتى ظهرت أطماع جديدة تتربص بهذه البقعة المقدسة، فمع انطلاق الحملة الاستعمارية الأوروبية في العصر الحديث، عادت أنظار القوى الكبرى تتجه نحو فلسطين، باعتبارها قلب العالم الروحي والجغرافي. وكانت بداية ذلك مع الاستعمار البريطاني، الذي مهد الطريق لليهود للاستيلاء على الأرض تحت مظلة وعد بلفور عام 1917، وهو الوعد الذي مكّن الحركة الصهيونية من بناء موطئ قدم لها في فلسطين تمهيدًا لقيام كيان احتلالي استيطاني.
وفي عام 1948، أعاد اليهود الاستيلاء على فلسطين بقوة السلاح والمجازر، فارتكبوا أشنع الجرائم في حق أهلها، بدءًا من مجزرة دير ياسين التي ذُبح فيها الأطفال والنساء والشيوخ، إلى مجازر كفر قاسم، وصبرا وشاتيلا، وجنين، وغزة، والضفة، وما زال شلال الدم الفلسطيني يتدفق. لم يسلم من بطشهم أحد، لا الحجر ولا البشر، لا الشجر ولا الأطفال، فأصبح الاحتلال الصهيوني حلقة جديدة في سلسلة طويلة من الطمع الاستعماري الذي لم ينقطع عن فلسطين منذ الحروب الصليبية وحتى اليوم.
وها نحن اليوم نعيش فصولًا جديدة من المأساة، وسط صمت عالمي، وتواطؤ سياسي، ومجتمع دولي يغض الطرف عن الجرائم اليومية التي يرتكبها الاحتلال في حق شعب أعزل، فقط لأنه يريد أن يعيش بحرية على أرضه. لكن التاريخ علّمنا أن الظلم لا يدوم، وأن للقدس رجالًا لا ينسون، وأن إرادة التحرير أقوى من جيوش الغزاة.