بقلم الدكتور : الفاتح محمد مدرس مساعد بقسم اللغة العربية – كلية الاداب بجامعة سوهاج.
هذا المقال -أولا- لم يكتب للكلام حول حكم الغناء ولا حكم الموسيقى، وليس الغرض منه تجويز الغناء ولا تحريمه، وإنما الغرض شيء آخر يتبين للقارئ الواعى.
مع ظهور “الصحوة الإسلامية” قبل خمسين سنة تقريبا… تبنى دعاة الصحوة التركيز على بعض الذنوب وتكثيف الحديث عنها، وإهمال غيرها من الذنوب.
بعض هذه الذنوب من الصغائر، وبعضها مختلف فيه، وبعضها جمهور العلماء على أنها ليست ذنوبا، وبعضها ليست ذنوبا باتفاق المذاهب.
أعطى دعاة الصحوة اهتماما خاصا بالغناء، وأخذوا يروجون الروايات الضعيفة فى التحذير منه مع أن المعتاد منهم التدقيق فى هذا الباب. ونسجوا القصص والأساطير حول من مات ولم يستطع النطق بالشهادتين وأخذ يقول: هل رأى الحب سكارى مثلنا.. ومن أصابها المسخ فتحولت إلى قردة بسبب الغناء…إلخ
حتى سمعت أحد أشهر دعاتهم م. ح. ى. يقولها صريحة: كل من أدمن الغناء سيصل به الحال إلى الاستهزاء بآيات الله! يعنى الكفر.
ومع الوقت أصبحت من الصفات الأساسية فى الشخص “الملتزم” ألا يسمع الغناء. وهذا الملتزم قد يكون متكبرا مغرورا حاقدا نماما يكفر المسلمين كشربه الماء، وكل هذا لا يتنافى مع كونه ملتزما، أما إذا ضُبِط متلبسًا بسماع أغنية فهذا كفيل بإخراجه من ديوان الملتزمين!
حاول الصحويون والملتزمون تقديم البديل؛ فملئوا الجو العام بالأناشيد التى نسبوها للإسلام، وأغلبها مكررة الألحان، ولم يكتفوا بهذا الأمر بل أتوا ببدعة غريبة وهى الأصوات الخيشومية التى تحاكى الموسيقى لتكون بديلا عن الموسيقى الملعونة.
وأصبحت الهواتف تضج بهذه النغمات التى يرفضها كل ذوق سليم.
مع الوقت أثمر الخطاب الصحوى نمطين من الناس؛ أقلية متشددة، ترى معاركها مع الشيطان مقتصرة على هجر الغناء وإعفاء اللحية وارتداء ثوب معين… وكثرة متهتكة، تستمع لأردأ ألوان الغناء ولا ترى حرجا فى سماع الإسفاف ليلا ونهارا.
مشكلة الخطاب الصحوى فى عدة أمور؛ أولها غياب ترتيب الأولويات؛ فهؤلاء كأنهم يعتقدون أن الأمة بمجرد أن تترك الغناء ستصلى فى الأقصى.. مع أن الأمة الإسلامية طوال عهدها والغناء موجود ومنتشر حتى فى عصور الفتوحات والقوة.
المشكلة الثانية فى عدم إدراك التفاوت وهو الذى قام عليه أحكام الدنيا والدين؛ فلا يستوى الغناء الموجه إلى الله بالغناء الموجه إلى المحبوبة، ولا يستوى الغناء الموجه إلى المحبوبة بذكر ألم الفراق وراحة الوصال وغيرها من المعانى الإنسانية الراقية، والحديث عن المحبوبة بإسفاف بالغ… فالكل عند الصحوة واحد؛ لذلك فالواقع أن أغلب الجمهور لن يترك الغناء كله كما تريد، ولكنه سيترك الغناء الراقى إلى الغناء الهابط؛ لأن المصير فى نظره واحد.
المشكلة الثالثة أنك تتعامى عن الكوارث المترتبة على الصورة التى تختارها للمسلم الملتزم؛ فخير للمسلم أن يكون غير ملتزم فيسمع أم كلثوم ويحلق لحيته ويلبس ثياب مجتمعه من أن يكون ملتزما (حسب ميزانك الفاسد للالتزام) يكفر الآخرين وينظر إليهم بازدراء.
ركز فى إنكارك على الغناء الهابط، والكلام الفاحش، وانصح من يستمع إلى الغناء ألا يكون الغناء دينه وهجيراه ليل نهار، وأن يجعل له نصيبا من الذكر والقرآن.