الفاروق وتأسيس الدولة الإسلامية
4 أبريل، 2025
الإسلام وبناء الحضارة

بقلم : الكاتب الدكتور حاتم عبد المنعم
سلسلة عبقريات العقاد المقال الخامس
أساس الدولة الإسلامية يعتمد على العقيدة التي غرسها الرسول عليه الصلاة والسلام في أمته وأصحابه ثم جاء الصديق في موقف صعب بعد الرسول عليه الصلاة والسلام ولكنه نجح في مواجهة الخارجين أو محاولات الردة ويكفيه أنه في ولايته التي استمرت نحو عامين استطاع أن يحافظ على الدولة الإسلامية، ووطد العقيدة وشرع السنة الصالحة في تأمين الدولة من أعدائها بتسيير البعوث وفتح الفتوح.
ثم جاء الفاروق وشهدت الدولة الإسلامية في عصره انطلاقة كبرى في كافة مجالاتها فكان له دور كبير في تأسيس الدولة بمفهومها الشامل والمعاصر، بل إنه شارك الرسول عليه الصلاة والسلام والصديق في تأسيس الدولة منذ إسلامه، وهو من جهر بالدعوة للإسلام والأذان وسط العامة، ويوم بايع الصديق بالخلافة وحسم الفتنة، ويوم أشار على الصديق بجمع القرآن الكريم، وتابعه الفاروق بعد ذلك وأتمه على أحسن حال ومع الفتوحات الكبيرة والمدهشة في عصره بشكل يصعب تكراره في التاريخ..
ثم أخذ الفاروق في تنظيم إدارات الدولة على أحسن وجه، وإنشاء الدواوين وإدارات متخصصة برواتب محددة في مختلف مجالات الحياة مع رقابة صارمة لمنع الفساد ومحاسبة المقصرين، وأنشأ إدارة للقضاء وإدارة للبريد ونظام للشورى، وجعل موسم الحج موسمًا للنقاش والحوار والحساب والمراجعة واستطلاع الرأي والمشورة في جميع أركان وأجزاء الدولة الإسلامية من أقصاها إلى أقصاها، حيث يشارك فيه جميع الولاة ممثلون لجميع أفراد المجتمع من كل مكان، مع توجيه دعوة لكل صاحب مظلمة أو مقترح لعرض ما لدية أمام الجميع، ثم الفصل في هذه الأمور.
كما أسس الفاروق نظام أو دستور للحرب وقواعدها، وأنشأ مجلسًا للحرب ولجيشه، وأنشاء دواوين للإحصاء والمحاسبة والخراج وبيت المال ومصنعًا لسك النقود ودارًا للحبس (سجون)، ويقوم بكل هذه الأعمال مواطنو نفس المكان أو القطر بأجر مناسب، كما أبقى أرض وثروات كل قطر لأبنائه.
كل ما سبق كانت أمور غائبة عن هذا الزمان، ولكن عبقرية الفاروق وفطنته كانت سباقة ورؤية نافذة لا تصدر إلا عن الفاروق الذي أسس بحق نظامًا رائعًا للشورى وأتاح حرية التعبير والشكوى لكل مواطنيه، كل هذا برغم التوسعات والفتوحات والمكاسب الكبيرة التي حققتها الدولة الإسلامية في عصره، فلم يكتف بهذه الفتوحات وتوزيع المكاسب أو الغنائم، ولكنه أرسى قواعد العدالة البيئية بمفهومها الشامل، وقواعد التنمية المستدامة التي حتى الآن يعاني العالم من معوقات كثيرة؛ لتكون واقعًا، ولكنه الفاروق حققها في دولته منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام.
وكان الفاروق شديد المحاسبة لكل العاملين، خاصة الولاة، فكان يحصي أموالهم قبل تسلم العمل، وبعد الانتهاء منه ويمنعهم من التجارة أثناء فترة الولاية، وإذا وجد مالا كثيرًا يأخذه لبيت المال، بل كان يأخذ الوالي بذنب ولده، فعندما كان عمرو بن العاص رضى الله عنه، واليًّا على مصر فى خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه، اشترك ابنٌ لعمرو بن العاص مع غلام من الأقباط فى سباق للخيول، فضرب ابن الأمير الغلام القبطى اعتمادًا على سلطان أبيه، وأن الآخر لا يمكنه الانتقام منه؛ فقام والد الغلام القبطى المضروب بالسفر بصحبة ابنه إلى المدينة المنورة، فلما أتى أمير المؤمنين عمر رضى الله عنه، بَيَّن له ما وقع، فكتب أمير المؤمنين إلى عمرو بن العاص أن يحضر إلى المدينة المنورة صحبة ابنه، فلما حضر الجميع عند أمير المؤمنين عمر، ناول عمر الغلام القبطى سوطًا وأمره أن يقتص لنفسه من ابن عمرو بن العاص، فضربه حتى رأى أنه قد استوفى حقه وشفا ما فى نفسه. ثم قال له أمير المؤمنين: لو ضربت عمرو بن العاص ما منعتك؛ لأن الغلام إنما ضربك لسطان أبيه، ثم التفت إلى عمرو بن العاص قائلاً: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟
وفي عام المجاعة ضرب مثلا عظيمًا في الاجتهاد عندما أوقف تطبيق الحدود فلم يقطع يد السارق، ويقال إن الفاروق فكر في آخر أيامه أنه كان ينوي في حل مشكلة الفقر والثراء الفاحش وقال (لو استقبلت من أمري ما استدبرت لأخذت فضول أموال الأغنياء فقسمتها على الفقراء).
وهناك واقعة شهيرة للفاروق مع سيدنا عثمان في أحد الأيام قامت عاصفة ترابية شديدة في جو صحراوي حار، وكان سيدنا عثمان يجلس في بيته فشاهد أعرابيًا يجري خلف دابة في هذا الجو العاصف، فطلب من خادمه ملاحقة الأعرابي ليستريح ويشرب شيئًا من الماء، وذهب الخادم فوجده عمر بن الخطاب أمير المؤمنين، فدعاه لمقابلة سيده عثمان، وذهب معه عمر لمقابلة عثمان الذي فوجئ بأنه أمير المؤمنين فقال ماذا تفعل في هذا الجو يا عمر؟ رد الفاروق: دابة هربت من بيت المال فجريت وراءها لكي أستعيدها، فرد عثمان: ألا يوجد عامل أو خادم يقوم بذلك؟ فرد الفاروق: سوف يسألني الله عنها يوم القيامة يا عثمان، فرد عثمان: تعال استرح في الظل، فرد الفاروق: عد إلى ظلك يا عثمان، واستمر في طريقه يبحث عن الدابة، فرد سيدنا عثمان: أتعبت الخلفاء من بعدك يا عمر.
هذه ومضات من سيرة الفاروق التي لا تنضب، وتظل نبراسًا وهداية وقدوة للجميع والله ولي التوفيق.