على أن هذه المسألة يفترض أن لا يقع بشأنها خلاف؛ لأن منشأ الخلاف فيها راجع إلى طبيعة العصر الذي عاش فيه السابقون من الفقهاء، وللنص على العلة التى هي مناط الحكم، فكانت تلك العلة في عصرهم متحققة بالحبوب والأصناف الواردة في الحديث، بينما صارت اليوم نفس العلة متحققة بالنقود.
فلكي تكتمل السعادة والفرح والسرور للمحتاج ينبغي إعادة النظر في هذه المسألة من أجل مصلحة المحتاجين.
والدفع بالقيمة -إذا كانت في مصلحتهم- أجازها بعض العلماء، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في ذلك: “وأما إخراج القيمة في الزكاة والكفارة ونحو ذلك إلى قوله والأظهر في هذا أن إخراج القيمة لغير حاجة ولا مصلحة راجحة ممنوع منه، وأما إخراج القيمة للحاجة أو المصلحة أو العدل، فلا بأس به ومثل أن يكون المستحقون للزكاة طلبوا منه إعطاء القيمة لكونها أنفع فيعطيهم إياها أو يرى الساعي أن أخذها أنفع للفقراء كما نقل عن معاذ بن جبل رضي الله عنه أنه كان يقول لأهل اليمن ائتوني بخميص أو لبيس أسهل عليكم وخير لمن في المدينة من المهاجرين والأنصار.”
وأينما وجدت المصلحة فثمّ شرع الله تعالى كما يقول الإمام ابن القيم الجوزية رحمه الله تعالى فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة كلها ومصالح كلها وحكمة كلها فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده ورحمته بين خلقه وظله في أرضه وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله ﷺ أتم دلالة وأصدقها وهي نوره الذي به أبصر المبصرون وهداه الذي به اهتدى المهتدون وشفاؤه التام الذي به دواء كل عليل وطريقه المستقيم الذي من استقام عليه فقد استقام على سواء السبيل” إعلام الموقعين. روى البخاري في صحيحه أن النَّبِيُّ ﷺ قال للنساء يوم عيد الفطر: «تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ» قال البخاري: “فَلَمْ يَسْتَثْنِ صَدَقَةَ الفَرْضِ مِنْ غَيْرِهَا”
لقد تأسس التشريع الإسلامي على أصول وفروع، شكلَّت الأصول الثوابت الفكرية الجامعة للأمة، والفروع مساحات المرونة والاجتهاد ليُصبح الإسلام صالحًا لكل العصور والظروف والأمكنة، وقد اختلف الصحابة والتابعون في الفروع وقعَّدوا لذلك القواعد منها قاعدة: “لا إنكار في مسائل الاجتهاد”، فلم ينكر أحدٌ على أحد في الفروع، لكنّ الأمة اليوم فى إدارة خلافها في هذه المسألة الجزئية الفرعية الخلافية ينكر بعضُها على بعض، ويسعى كل فريق لإلغاء رأى الآخر بل صار الاختيار الفقهي فيها معقدًا للولاء والبراء، والحب والبغض، والاتباع والابتداع، ومعيارًا أصيلاً لقياس العلم والتدين، وإذا كان الحال هكذا في خلاف معتبر فكيف سيكون فيما هو أعظم؟
إن الاختلاف في الفروع سبيل مؤدٍ إلى الاجتماع والوحدة، فكيف نجعله سبيلاً للتفرق والتباغض؟
وأخيرًا: إن القاعدة الفقهية تقول: “لا يُنكر المختلف فيه، وإنما يُنكر المُجمع عليه” وعليه فلا يجوز أن نتراشق بالألقاب ويلوح البعض بكفر من يقول ويستحل جواز إخراجها قيمة، فمادام الأمر خلافيًا والقضية اجتهاديًا فالعذر مُلتَمَسٌ للجميع فكلنا ندندن حول التمسك بالسنة وهدي النبي ﷺ
وكلهم من رسول الله مُلتمسًا غرفًا من البحر أو رشفًا من الديم
وبعد: فهذه بضاعتي المزجاة أضعها بين أيديكم ليس لها إلا ذنوب وليها، فهذا ما وفقني الله تعالى إلى جمعه في هذا الموضوع وبيان وجه نظر قابلة للتنازل عنها إذا ثبت فسادها، فإن أحسنتُ فمن الله -وحده لا شريك له-، وإن أسأتُ فمن نفسي والشيطان، والله ورسوله منه براء، وأعوذ بالله أن أقول على الله ورسوله بغير علم، أو أقدم بين يدي الله ورسوله، رأيًا أو قولًا، وليس من طلب الحق وأخطأه، كمن طلب الباطل وأصابه. ولأن أكون ذيلًا في الحق خير من أكون رأسًا في الباطل. فقط أطلب من كل من استفاد من هذه الرسالة أو وجد فيها علمًا، أو رأيًا اطلب منه الدعاء بظهر الغيب -لجامعها وكاتبها وناشرها وصاحب رأي فيها نقلنا عنه ولم نذكر اسمه؛ لضيق الوقت- ولا يبخل علينا بدعوةٍ -بالتوفيق والقبول والإخلاص- عند فطره.