الظُلــم ظُلــُمات

‏‎بقلم المستشار الدكتور : محمد فهمي رشاد منصور
مدرس التفسير وأصول الفقه بجامعة القصر الدولية بدولة ليبيا

 

ظلم الناس للناس من موجبات غضب الله تعالى وسخطه ، فهو الذي حرَّمَ الظلم على نفسه وتوعد الظالمين شرَّ وعيد ، وهو جرمٌ أخلاقي يتعارض مع قيم العدالة والإنصاف ، كما أنه ابتعاد عن طريق العدل وميلٌ للباطل  ، والظلم بين الناس أشكالٌ ودرجات ، أذكر منها ما يلي : 

أولاً : ظلم الحاكم لرعيته فكم من الحكام طغوا في البلاد واستغلوا سلطتهم ، فعاثوا فيها فساداً واستبداداً ، وظُلماً فجعلوا معيشة شعوبهم ضنكاً

ثانياً : ظلم رب الأسرة لرعيته وتجبره في أبنائه وزوجته والتمييز بين الأبناء

ثالثاً : ظلم المدرس لطلبته وعدم إعطائهم حقهم ، ورجل التعليم من مهامه التعريف بالحق والدعوة له وشجب الظلم والفساد وتربية تلاميذه على ذلك

رابعاً : ظلم الأب أو الأخوة في توزيع الميراث وعدم الإنصاف والعدالة وحسب ما نصه الشرع ، وخاصة فيما يخص جانب النساء ، لأنه يوجد الكثير من الأخوة ممن يهضمون حقوق شقيقاتهم ويأكلون ميراثهن

خامساً : ظلم صاحب العمل لموظفيه : بأكل حقوقهم وعدم تحقيق العدالة والإنصاف بينهم

بناءاً على ما تقدم وما أرغب في طرحه في مقالي هذا هو موضوع ظلم  أرباب العمل لمأجوريهم وهي ظاهرة متفشية في مجتمعاتنا  وفي كثير من المجتمعات الأُخرى ، ويُعدُّ من أكبر الكبائر عند الله عزَّ وجل .

قال تعالى في سورة الزُخرف – الآية 32 : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ

 في هذه الأية الكريمة بين الله عزَّ وجلْ أن كل ما لديك وما تصل إليه من نِعم هي منحةٌ إلهية طِبقاً لإرادته سُبحانه ، وجعل التفاوت بين البشر ، وسخرهم بعضهم لبعض من أجل إعمار الأرض التي إستخلفهم فيها ، وكل إنسانٍ يقوم بوظيفةٍ مُسخرٌ فيها لخدمة غيره ، فالعامل يقوم بالبناء وعليه أن يخلص في عمله من أجل أن يأخذ أجره مُراعياً مخافة الله في أداء واجبه ، والطبيب والممرض مُسخرين لخدمة الناس وعلاجهم وعليهم أن يؤدوا رسالتهم الإنسانية بأمانة ، وكذلك حال عمال النظافة للمحافظة على مرافق مجتمعهم ، فكما للعاملين حقوقٌ عند صاحب العمل ، وهو له حقٌ عليهم في أداء عملهم بإتقان وأمانة وإخلاص حتى يأخذوا حقوقهم غير منقوصة ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم – عن عائشة أم المؤمنين ( إن الله تعالى يُحبُّ إذا عملَ أحدم عملاً أن يتقنه )

فهذا التنوع بجميع أشكاله من عُليا ودُنيا بين الناس من حيث اختلاف الأعمال ، هي سنُة كونية شرعها الله ، فكيف سيكون إعمار الأرض وإدارة شؤونها إذا كان كل الناس طبقةٍ واحدة ، ولكن الله عزَّ وجل لم يترك الأمور على عواهنها ، بل وضع ضوابط لتعامل الناس بين بعضهم أهمها العدل والمساواة بين بعضهم ، فعلى أصحاب العمل أن يُراعوا من هم تحت إمرتهم ، وأن يتذكروا أن ما هم فيه ، ما هو إلا نعمة من الله يجب المحافظة عليها ومراعاة من هم تحت إمرتهم ويخدمون مصلحتهم ، ويجب أن يعرف صاحب العمل أن الدين هو المعاملة ، وأن يعاملهم إنطلاقاً من المعاني الإنسانية والأخوة الإيمانية ، ووفق الضوابط الشرعية ، وأن يتجنب جرح مشاعرهم ، أو إدخال الحزن عليهم ، فالمسلم أخو السلم لا يظلمه ولا يخذله ، ولا يحقره ، ولا يحسده ، وأنه هو ، وهم أمام الله سواسية ، فلا يوجد صغيرٌ أو كبير ، ولا أميرٌ أو أجير ، فمهما وصلت من جاه  مركز وثراء فكله زائل وكلنا مرجعنا إلى الثرى ، فكلكم عند الله سواء ، وكما قال الشاعر إيليا أبو ماضي :

                 نَسِيَ الطينُ ساعَةً أَنَّهُ طينٌ          حَقيرٌ فَصالَ تيها وَعَربَد

                وَكَسى الخَزُّ جِسمَهُ فَتَباهى           وَحَوى المالَ كيسُهُ فَتَمَرَّد

               يا أَخي لا تَمِل بِوَجهِكَ عَنّي          ما أَنا فَحمَة وَلا أَنتَ فَرقَد

 ولهذا يجبُ على صاحب العمل أن يعرف أن الظلم ظلمات وعليه مراعاة العدل والمساواة بين موظفيه ، وإذا تباينت الحقوق فيأخذ كل طرفٍ من الأطراف ما يستحقه كُلٍّ حسب عمله ، حتى لو كانت النتيجة غير متكافئة بين الأطراف فلكل مجتهدٍ نصيب ، وكما يقول أرسطو : ( أن العدل يعني معاملة الأفراد بالتناسب  في إعطاء الحقوق بمنطق القانون ، حيث أنه يمكن  حصول أحد الطرفين على ما لا يستحقه إن طُبقت قاعدة المساواة ذاتها في توزيع الحقوق لأصحابها ، وهنا يجب أن يُفهم أن العدل والمساواة مرتبطان لكنهما مختلفان ) وبتحقق المساواة عند تطبيق العدل بين الناس كل حسب جهده وحسب عمله ، فعلى صاحب العمل العدالة والإنصاف بين موظفيه ، فالكثير من أصحاب العمل يظلمون من هم أُجراء عندهم ، ويكون الظلم على عدة أوجه :

أولاً : عدم إعطاء الأجير أجره كله أو بعضه أو المماطلة بذلك ، مخالفاً لما تم التعاقد بينهم ، وقد حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم من هذا الظلم عن أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث القُدسي : [ قال الله تعالى : ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة : رجلٌ أعطى ثم غدر ، ورجلٌ باع حُرَّاً فأكل ثمنه ، ورجلٌ استأجر أجيراً فاستوفى منه ولم يعطه أجره ]

ثانياً : عدم التزام صاحب العمل بالعقد وتكليف العامل ما لا يُطاق ، قال تعالى في سورة المائدة – الآية 1 : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ }

ثالثاً : تكليف العامل بامورٍ ليست واردة في العقد أو زيادة ساعات العمل دون محاسبته على الزيادة

رابعاً : عدم المساواة بين العمال في الحقوق وعدم العدل أو الميل لطرفٍ دون الآخر وعدم العدل في إيقاع الجزاء فيما إذا حصلت مخالفة بين طرفٍ دون الآخر

خامساً : الإعتداء لفظياً باللسان او حتى باليد والتعالي عليه واحتقاره والسخرية منه وكأنه عبدٌ عنده ، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لإبن عمرو بن العاص : ( متى استعبدتهم الناس وقد ولدتهم أحراراً )  

سادساً : فصل العامل بدون وجه حق وبذرائع ليس لها أصل وعدم إعطائه حقوقه

سابعاً : تقضيل موظف على الآخر  دون وجه حق وإعطاءها لمن لا يستحقها وهو نوع من أنواع الظلم وهضم الحقوق وعدم العدل حين توزيع المهام

وختاماً فإن ظُلم العمال وأكل حقوقهم  وإهدار كرامتهم ، إنها أمورٌ تدلٌ على غياب الدين وضياع الإسلام وانحطاط الإنسانية في قلوب الكثير من الناس ، ولهذا يجب على كل صاحب عمل أن يُراعي مخافة الله فيمن هم تحت إمرته ، وعليه أن يعلم أن الظُلم ظُلمات ، وعليه أن يعلم أن  حال الدنيا لا تبقى على حالٍ واحد ، فعليه أن يتجنب دعوة المظلوم ، عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :  [ واتق دعوة المظلوم ، فأنه ليس بينها وبين الله حجاب ] فكل من يتصرف بحقِّ الغير بغير وجه حق ، فجزاؤه عند الله كبير ، وكيف سيلقى ربه عند الحساب ؟!! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي عن أبي ذرٍ الغفاري ، فيما يروي عن ربه عزَّ وجل أنه قال : [يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا ]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *