زكاة الفطر تساؤلات وأحكام (6)

بقلم فضيلة الشيخ : أحمد عزت حسن
الباحث فى الشريعة الإسلامية

 

س٢٨: فما الفرق بين اختلاف السلف واختلافنا؟[إجابة مطولة]
ج: إن تعامل الصحابة والسلف والأئمة معه -الاختلاف- لم يكن كتعاملنا نحن اليوم؛ حيث غدا الاختلاف فى الفروع سبيلًا للتفسيق والتشنيع والتبديع والتحزيب والتفريق، بينما كان السابقون شعارهم قول الإمام الشافعي: “ألا يستقيم أن نكون إخوانًا وإن لم نتفق في مسألة”.، ألا يفقهوا ذلك الكلام.؟؟!!

– الفرق بيننا وبين السابقين أنهم تشبعوا بأدب الخلاف وأدركوا حكمة الشارع في صياغة تشريع زكاة الفطر بهذه الكيفية،
أما نحن فما زلنا نتراشق بالألفاظ ونترامى بالجهل ونتقاذف بالبدعة ومخالفة السنة!!
إن الله -تعالى- لو أراد حسم المسألة لحسمها قرآنًا أو سُنَّةً بما لا يدع لأحد مدخلًا للخلاف!! مثلها مثل مسائل العقائد والميراث والقطعيات الأخرى!
ولو لم تكن نصوص الزكاة محتملة للخلاف لما اختلف فيها الفقهاء ولما انقاد كل منهم إلى الرأي الذي رأى فيه مصلحة الفقير راجحة.
انظر إلى ما نقله ابن حجر عن البخاري وهو من هو في حفظ السنة واتباعها والوقوف على حدودها، وكيف انقاد البخاري إلى رأي الحنفية؛ لأن الدليل قاده إلى ذلك قال ابن حجر في فتح الباري (السابق): «قال ابن رشيد: وافق البخاري في هذه المسألة الحنفية مع كثرة مخالفته لهم، لكن قاده إلى ذلك الدليل».

– وهذا الخلاف -في الاجتهاد- هو سبيل لبناء أمة ذات عقول ناضجة، وصدور واسعة، فنختلف في الرأي، ولا يفسد بيننا الود،
ونختلف في الفروع ونجتمع على الأصول، أما أن تكون فروع الفقه قطعية؛ فلا مجال حينها لاتساع الصدور لأي خلاف، فهذه تربية جديرة بهلكة أصحابها في دروب حياة مبنية على الخلاف في جميع مسالكها.

س٢٩: ثم ماذا؟
قبل الخوض في سرد الأدلة ونقل الأجوبة المتبادلة ببن الفريقين أحبُ أن أقدم بين يدي الكلام مجموعة من المقدمات أو القواعد أو البدهيات التي لا أظن أن هناك من يجادل فيها، فنقول وبالله التوفيق:
إن الناظر في أحكام الشريعة الإسلامية الغراء يجد أنها مبنية على مراعاة المصالح، ودرء المفاسد، وأنها شريعة عالمية صالحة لكل زمان ومكان؛ لذلك جاءت نصوصها واسعة ومرنة تساير الاجتهاد. فهنا شرع، وفقه.

س٣٠: بمعني؟
بمعنى أن الشرع يجب التسليم به، وعدم الجدال فيه، ولا يجوز مخالفته،
أما الفقه، فهو مبني على الاختلاف، وللرأي فيه مجال.

وزكاة الفطر في حقيقتها مسألة فقهية مختلف فيها، فلا ذكر لها إلا بذلك، ومسائل الخلاف الفقهي بلا حصر، فلا يخلو باب من أبواب الفقه من مسائل الخلاف، فليس ذاك حصرًا لمسألة زكاة الفطر.فنحب أن نقول:

س٣١: هل هناك فرق بين الزكاة وبين تنظيم وكيفية إخراج الزكاة؟!!
الزكاة -مثلها مثل سائر العبادات- شرع لا يجوز إنكاره، ولا الاختلاف فيه، ومنكره كافر؛ لأنه ينكر المعلوم من الدين بالضرورة، وليس للرأي فيها مدخل. فهذا شرع

أما -تنظيم الزكاة- وكيفية إخراج هذه الزكاة، فهذا فقه، وللرأي فيه مدخل، ويجوز الاجتهاد والاختلاف فيه له مسوغ، ولا حرج على من يأخذ بأحد الآراء الواردة فيه، ما دام له مستند من الشرع.

وبلغة أهل القانون:
الزكاة تتعلق بالنظام العام، ويقع باطلًا بطلانًا مطلقًا أي اتفاق على ما يُخالفها.
أما تنظيم الزكاة وكيفية إخراجها، فهذه مسألة واقع تخضع لتقدير -محكمة الموضوع من غير رقابة عليها من محكمة النقض متى كان لها مسوغًا من الأوراق- أي تخضع لاجتهاد علماء العصر، ومراعاة الزمان والمكان.

ثانيًا: أيضًا من المعلوم من بالضرورة لدى دارسي الشريعة الإسلامية أنها تنقسم إلى عقائد وعبادات ومعاملات وأخلاق.

– نصوص العقيدة جاءت قطعية الدلالة؛ لأنها لا تتغير رغم اختلاف الزمان والمكان.
– ونصوص المعاملات جاءت مرنة غاية المرونة؛ لتتوافق مع كل المستجدات،
– أما نصوص العبادات، فبعضها جاء قطعي، لا مجال لإعمال العقل فيه -فهو توقيفي ليس للعقل فيه مدخل- فهي أحكام تعبدية (غير معقولة المعنى أى لا يُبحث فيها عن العلة) كعدد ركعات الصلاة ومواقيتها، وأنصبة الزكاة وبداية وانتهاء الصيام و…..

وبعضها جاء للعقل فيه مجال، وهنا يجد الفقه والفقهاء مجالهم؛ فهي أحكام معقولة المعنى (يُبحث فيها عن العلة) كمشروعية البيع وتحريم الربا.
وبناءً على هذا التقسيم فقد انقسم العلماء فى زكاة الفطر إلى فريقين: الفريق الأول وهم الجمهور (السادة المالكية والشافعية والحنابلة ومن وافقهم): والذين رأوا أن زكاة الفطر من الأحكام التعبدية (غير معقولة المعنى) وبالتالى لا يُبحث فيها عن العلة، وعليه فقد التزموا بما ورد فى الحديث من أصناف الطعام كحديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه فيما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه: (كُنَّا نُخْرِجُ إذْ كانَ فِينَا رَسولُ اللهِ -ﷺ- زَكَاةَ الفِطْرِ، عن كُلِّ صَغِيرٍ، وَكَبِيرٍ، حُرٍّ، أَوْ مَمْلُوكٍ، صَاعًا مِن طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِن أَقِطٍ، أَوْ صَاعًا مِن شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِن تَمْرٍ،
أَوْ صَاعًا مِن زَبِيبٍ) وقالوا بعدم جواز إخراج زكاة الفطر نقدًا.

– الفريق الثانى وهم الحنفيّة، وبعض أئمة السلف؛ كسفيان الثوريّ، وعمر بن عبد العزيز، والحسن البصريّ، وإسحاق بن راهويه، وأبي ثورٍ؛ واختاره البخاري صاحب الصحيح ومن وافقهم -وغيرهم كثيرون سنذكرهم في حينه-: والذين رأوا أن زكاة الفطر من الأحكام (معقولة المعنى) وبالتالى يُبحث فيها عن العلة، وقالوا: إن العلة هي إغناء الفقراء والمساكين، وسدّ حاجتهم، وقد يتحقّق ذلك بالمال بصورةٍ أبلغ وأعظم، وتحديد بعض الأصناف في الحديث الذي استدّل به أصحاب القَوْل الأول؛ إنّما هو على سبيل المثال لا الحصر؛ حيث إنّها أموال لها قيمةً شرعًا، وهي الأموال التي كان الناس يبيعون ويشترون بها، وقد اختلف ذلك الحال؛ إذ أصبح البيع والشّراء بالنقود. وبناء على ذلك قالوا بجواز إخراج زكاة الفطر نقدًا بل وتفضيله عند حاجة الفقير للمال.

ثالثًا: هناك من القواعد والمبادئ الفقهية المقررة، قاعدة: “جواز تعدد الصواب” أي يجوز أن يكون كلا الرأيين يتسمان بالصواب، ويجوز الأخذ بأحدهما بدون نكير.

رابعًا: بروز المسائل الفقهية على منحى الاختلاف هو منهج خير القرون من الصحابة، خير الأمة وأفقهها، فإليهم يرد أكثر مسائل الخلاف ثم من بعدهم من التابعين والأئمة اتبعوهم بإحسان في هذا المسلك، وقد صارت الأمة في جميع قرونها على هذا النهج؛ ولذا يقول عمر بن عبد العزيز رحمه الله: (ما أحب أن أصحاب رسول الله ﷺ لم يختلفوا؛ لأنه لو كان قولًا واحدًا كان الناس في ضيق وإنهم أئمة يقتدى بهم).

خامسًا: هذا الخلاف الفروعي مآله الرحمة الواسعة في تشعب مذاهب المسألة؛ ما دام كل مجتهد استفرغ وسعه في إصابة الأرجح دليلًا عنده، ولذا يقول الإمام ابن قدامة المقدسي -صاحب كتاب المغني في الفقه الحنبلي-: (اتفاقهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة). وحين عمد رجل إلى كتابة مصنف في الخلاف؛ قال له الإمام أحمد بن حنبل: لا تسمه (كتاب الاختلاف)، ولكن سمه (كتاب السعة).

سادسًا: بناء الفقه الإسلامي على الخلاف هو بيان ساطع لعظمة هذا الفقه؛ لأنه سبب الجهد في تحصيل أبوابه، وسبيل بناء مسالك الاجتهاد في مسائله، ولو كانت كل مسائل الفقه قطعية لا مجال للاجتهاد فيها لاستحال العلماء إلى آلة تكرر بلا وعي ولا اختيار، وإنما تعبدنا الشرع بمسلك الفقه بتعدد عطاءات نصوص التشريع، واختلاف أفهام العلماء فيها، بل جعل ذلك من أجلّ عبادات الشرع.

سابعًا: حين قرر الشرع الخلاف الفقهي المبني على الاجتهاد الصحيح؛ قرر معه أنه لا إنكار في مسائل الاجتهاد، فليتعبد كل منا ربه بما أداه اجتهاده؛ أنه أقرب لتحقيق الشرع، ولا يجوز أن يتهم أحدنا غيره أو أن ينكر عليه لاختلافه الفقهي، بل مدارسة علمية راقية، فذاك هو مسلك الشرع العظيم. ألا يسعنا قول أسلافنا: “لا يُنكر المختلف فيه، وإنما يُنكر المجمع عليه؟”

ثامنًا: إن قلة الفقه، والتعصب المذهب والتشدد في التمسك بظواهر النصوص، وعدم إعطاء الفرصة لمناقشة الرأي الآخر، ومدى احتياج العصر له.

كما أن عدم مراعاة قاعدة “اختلاف الفتوى باختلاف الزمان والمكان” له أثره في ذلك. فلو فَقِهْنا حق الفقه لما اسْتُدْعِيَ خلافٌ والله تعالى أعلم

تاسعًا: من المعلوم -في علم الأصول- أن العلة تدور مع المعلول -الحكم- وجودًا وعدمًا، فالفقيه حينما يبحث عن الحكم الشرعي في مسألة ما فهو يبحث أولًا عن العلة التي أوجدت هذا الحكم الشرعي، -وإن كان الواجب على المسلم الاستسلام والقبول بكل ما يطلبه الشارع الحكيم سواء عرف وفهم الحكمة الموجبة لذلك أم لا. إلا أن عادة العلماء جرت في البحث عن السبب أو العلة الكامنة وراء ذلك، فإن توصلوا إليها فبها ونعمت، وإلا فالأمر تعبدي بحت فلا طريق إلا التسليم والانقياد. فالحكمة الموجبة لهذا العمل الفضيل تتجلى في ثنايا حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما مرفوعًا “فرض رسول الله ﷺ زكاة الفطر؛ طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين ….” سبق تخريجه
فقوله ﷺ: “طعمة للمساكين” دليل واضح بأن المراد من إيجاب زكاة الفطر هو مساعدة الفقراء وإعالتهم وإغناؤهم عن ذل السؤال وحجزهم عن التطواف بين الناس من أجل الاستعفاف وطلب العون في هذا اليوم البهيج وفي الأثر “أغنوهم” …. وهي النقطة التالية

عاشرًا: من المعلوم أن الأحكام الفقهية لا تؤخذ من آيةٍ واحدةٍ أو حديثٍ واحدٍ، بل يعمد الفقيه أو المجتهد إلى كل الآيات والأحاديث الواردة في الموضوع؛ ليستخرج منه الحكم الواجب التطبيق على المسألة. فكما ورد حديث يفيد إخراجها طعامًا، فقد ورد حديثًا آخرًا يبين فيه النبي ﷺ الحكمة منها، فقال ﷺ: أغنوهم -يعني المساكين- في هذا اليوم (السنن الكبرى ٤ /١٧٥)، والإغناء كما يتحقق بالطعام، يتحقق بالقيمة، فالمقصود هو إغناء الفقراء والمال أنفع لبعضهم من الطعام فيعتبر في ذلك حال الفقير في كل بلد،

* وإذا كان الهدف من إيجاب زكاة الفطر هو مصلحة الفقير والمحتاج في يوم العيد، فهل يتحقق هذا الهدف فقط بدفع الطعام غير المطبوخ كالأرز والشعير والحنطة -القمح- أو غير ذلك من غالب قوت الصائمين إلى الفقراء. -وإن لم يسدّ حاجتهم الضرورية- أم يجب التحري والبحث عن كل طريق ووسيلة يستفيد منها المحتاج وتحقق له إلى ما يعود عليه بالنفع سواء كان طعامًا أو نقدًا.

فحاجة الناس في كل زمان ومكان مختلفة ولو كانوا فقراء ومحتاجين ولا يمكن حصرها في مسألةٍ واحدةٍ وإن كان الأمر يتعلق في يوم العيد وحده فمنهم من هو بحاجةٍ إلى طعام أو شراب أو ملبس أو علاج ودواء، ومنهم من يكون مسافرًا يحتاج إلى زاد وراحلة،

وعليه فيجب التنبيه لبعض النقاط الهامة في هذا الموضوع:
١- أن المسألة ليست خلافًا بين النص والرأى أو بين السنة والبدعة، أو كونها مقارنة بين الرسول ﷺ وبين أبي حنيفة رحمه الله تعالى ومن تابعه، فالنبي الكريم -صلوات الله وسلامه عليه- لا يُعارض قوله برأي أحدٍ من البشر. -مهما بلغ شأنه وعلا كعبه- بل هو خلاف بين الفقهاء في فهم النصوص وطريقة الجمع بينها وفق قواعد فقهية محكمة.

٢- من السذاجة تصور أن الخلاف ناشئٌ عن عدم وصول الدليل إلى الأئمة أمثال أبي حنيفة والبخاري (جامع الصحيح) وسفيان الثورى (إمام أهل الحديث فى زمانه) وابن تيمية وعشرات العلماء بعد ذلك أو أنهم تعمدوا مخالفة السنة، واعتبار هذا الظن من تبرئة ساحة الأئمة رحمهم الله.

٣- نريد أن نفرّق بين القاعدة الأصولية: (لا قياس مع وجود نص) وبين (القياس على النص).
أولًا: (لا قياس مع وجود نص) هذا كلام صحيح، أى ألا يكون فى الفرع نص، فإن كان فى الفرع نص فلا يجوز القياس، كمن يريد أن يعطى البنت نصيبًا مساويًا لنصيب الولد فى الميراث؛ لأن البنت تشترك مع الولد فى أنها ابنه للميت، فهذا قياس فاسد؛ لأن الفرع فيه نص، وهو قول الله تعالى: (للذكر مثل حظ الأنثيين) فهذا القياس يبطل النص ويتعارض معه كليًا، فوجب إبطاله، وهكذا كل قياس يعارض النص فهو باطل.

أما (القياس على النص) فهو القياس الصحيح؛ لأنه (لا قياس إلا على نص) فيذكر الفقيه النص وحكمه وعلته، ثم ينظر فيجد العلة الموجوة فى النص موجودة فى شئ آخر، -ومن المعلوم أن الحكم يدور مع العلة وجودًا وعدمًا-، فيعدى الفقيه حكم الأصل إلى الفرع، سواء كان هذا الحكم هو الوجوب أو التحريم أوغير ذلك، ومثال ذلك نص القرآن الكريم على تحريم الخمر بقوله تعالى: “إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه ….” فنظر الفقهاء إلى علة التحريم فوجدوها الإسكار، ووجدوا هذه العلة موجودة فى النبيذ، فقاسوا النبيذ على الخمر، وأعطوه حكم التحريم، وهذا كلام يعرفه كل من درس “أصول الفقه”

وطبقًا لما هو مقرر في الأصول: “أن كل حكم تكليفي أمكن تعليله فالقياس جارٍ فيه، وهذا حكمٌ معلل أي فيه علة ظاهرة، وبالتالي فيجوز القياس عليه.”

وفي مسألتنا هذه أمر رسول الله ﷺ أن نخرج فى زكاة الفطر صاعًا من تمر أوصاعا من شعير أو …. فنظر الأحناف ومن وافقهم إلى العلة فوجدوها إغناء الفقراء فى هذا اليوم، كما ورد عن رسول الله ﷺ: “اغنوهم عن السؤال فى هذا اليوم”، إذن العلة منصوص عليها، وهى أقوى أنواع العلة، فنظروا إلى القيمة، هل فيها نفس العلة؟ -وهي إغناء الفقراء- فوجدوها مشتملة على نفس العلة بل وتزيد؛ لأنك لو أعطيت الفقير القيمة نقدًا لاستطاع أن يشتري القمح إن كان محتاجًا إليه، أو يشترى شيئًا آخر هو أكثر احتياجًا إليه، وليس فى الحديث نهى عن إخراج القيمة، فإن كان لك يا أخى اعتراض فقل: إن (النقد) أى الأموال لا تقوم مقام الطعام، ويحق لك ذلك لو كان النص هكذا: (لا يجوز إخراج القيمة فى زكاة الفطر) فهنا لو قال فقية يجوز إخراج القيمة لكان القياس مصادمًا للنص ومبطلًا له فيكون قياسًا باطلًا،

أما أن يجيز رسول الله ﷺ إخراج أنواع من الطعام فى زكاة الفطر ثم يأتى فقية فيقيس عليها شيئًا آخر فهذا قياس على النص. والقياس هنا من نوع القياس الجلى، الذى تكون العلة فيه فى الفرع أعلى من الأصل، كما قال الله تعالى: (فلا تقل لهما أفٍ ولا تنهرهما) فقد نهى الله تعالى الأبناء أن يقولوا أف للوالدين، والعلة هى الأذى الواقع على الوالدين، فالشتم والضرب أكثر أذى للوالدين من التأفف، فيكونان أشد تحريمًا ويسمى هذا بالقياس الجلى أو القياس الأولوى أي من باب أولى.

٤- أيضًا الوقوف مع النص والتمسك بالظاهر فيما هو بين العلة واضح الحكمة قلبٌ للحقائق، وعكسٌ لمقاصد الشارع؛ لأن التعويل على مقصد المتكلم ومراده لا على الألفاظ. (فالألفاظ بمعانيها، لا مبانيها، ولو أن كل كلمة في اللغة أُخذت على معناها الحقيقي لأصبحت اللغة أضيق من سمّ الخياط -ثقب الإبرة-)

٥- لا يجوز قياس الزكاة على الأضحية والاستهزاء والسخرية وقولهم: “نخرج الأضحية مالًا فهي أفضل للفقير من اللحم”؛ وذلك لأن الأضحية فيها نص قطعي الثبوت قطعي الدلالة، وبالتالي فلا يجوز “القياس في وجود نص” ولم يقل أحد بذلك على مدار التاريخ، بل أجمعوا على أنها لا بد أن تكون من الأنعام الثمانية المنصوص عليها، فلا يجوز العدول إلى غيرها حتى ولو كانت أوفر وأطيب منها لحمًا!!. مثل الغزال أو الرومي أو …

٦- أن الاجتهاد الذى لا يجوز مع وجود النص هو الاجتهاد مع وجود نص قطعى الثبوت قطعى الدلالة (فلا اجتهاد فى القطعيات) أما الدليل إذا تطرق إليه الاحتمال أو التأويل صار ظنيًا (وإن كان قطعى الثبوت فهو ظنى الدلالة) فيكون مجالًا للاجتهاد في فهم النصّ أو تطبيقه.

٧- لا ينبغى استخدام بعض العبارات فى هذا الخلاف الفقهى المعتبر؛ كإسقاط البعض لقول الله تعالى:(فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أويصيبهم عذاب أليم) على هذه المسألة، أو استخدام عبارات مثل (إخراج زكاة الفطر طعامًا “وحي”، وإخراجها قيمة “رأي” فاتبعوا الوحي ولا تتبعوا الرأي) وهى جملة أراد أصحابها أن تكون قولًا مأثورًا يسير به الركبان وهي خاطئة في مقدمتها ونتيجتها، وتعد من الابتداع في الدين؛ لمخالفتها هدي سلف الأمة في فهم نصوص الشرع حيث أقروا تعدد الأفهام المبنية على النظر الصحيح من غير جزم بتخطئة المخالف بحيث يصير مدعي التسنن (من يدعي اتباع السنة) هو المبتدع وليس العكس.

وعليه فالمسألة ليست خلافًا بين النص والرأى أو بين السنة والبدعة، أو كونها مقارنة بين الرسول ﷺ وبين أبي حنيفة رحمه الله تعالى ومن تابعه، فالنبي الكريم -ﷺ- لا يُعارض قوله برأي أحد من البشر. بل هو خلاف بين الفقهاء في فهم النصوص وطريقة الجمع بينها وفق قواعد فقهية محكمة.

اترك تعليقاً