اختلاف الأمة بين الماضي والحاضر: رحمة أم نقمة؟

بقلم فضيلة الشيخ : مخلف العلي القادري الحذيفي
خادم الطريقة القادرية البريفكانية العلية

 

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد:

إن الاختلاف بين الناس سنة كونية وطبيعة بشرية فطر الله سبحانه وتعالى الخلق عليها، وهو مظهر من مظاهر التنوع في الفهم والإدراك. وقد أشار الله تعالى إلى ذلك في كتابه الكريم بقوله: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾ [هود: 118].

وقد جرى على ألسنة الناس القول المشهور: (اختلاف أمتي رحمة)، وفي بعض الروايات: (اختلاف أصحابي رحمة)، غير أن هذا القول لم يثبت كحديث نبوي، إذ لم يرد في كتب الحديث المعتبرة، وإنما هو مقولة لبعض السلف تعكس رؤية العلماء لظاهرة الاختلاف، حيث رأوا أن التنوع الفقهي والاختلاف في الفروع رحمة وتيسير على الأمة، وليس مصدر نزاع أو فرقة.

ويؤيد ذلك ما ورد عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، حيث قال: «ما سرَّني لو أنَّ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنَّه لو لم يختلفوا لم تكن رخصةٌ»، وفي رواية أخرى عنه: «ما يسرني باختلاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم حمر النعم، لأنَّا إنْ أخذنا بقول هؤلاء أصبنا، وإن أخذنا بقول هؤلاء أصبنا»، (أخرجه الخطيب البغدادي في “الفقيه والمتفقه).

كما يقول الإمام عبد الوهاب الشعراني في كتابه “الميزان: «الشريعة المطهرة جاءت شريعة سمحاء واسعة، تشمل كافة أقوال أئمة الهُدى من هذه الأمة، وأنَّ اختلافهم إنَّما هو رحمة بالأمة، نشأ عن تدبير العليم الحكيم».

الاختلاف المحمود: علم وأدب ورحمة:

لقد أدرك العلماء قديمًا أن الاختلاف أمر طبيعي، لكنه لم يكن سببًا للتباغض أو التفرق، بل كان قائماً على الاجتهاد العلمي، والبحث عن الحق، والتزام أدب الخلاف.

ومن أقوال العلماء التي تدل على ذلك:

•الإمام مالك بن أنس (رحمه الله): اختلاف العلماء رحمةٌ للناس، كلٌّ يتبع ما صحَّ عنده، وكلٌّ على هدىً وكلٌّ يريد الله) (ابن عبد البر، الانتقاء في فضائل الأئمة الفقهاء(

•الإمام الشافعي (رحمه الله): “رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب.” (البيهقي، مناقب الشافعي).

•الإمام أحمد بن حنبل (رحمه الله): “لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه، ولا يشدد عليهم فيما يسوغ فيه الاجتهاد.” (ابن مفلح، الآداب الشرعية).

الاختلاف المذموم: الجهل والتعصب والفرقة:

بينما كان الخلاف في الماضي منضبطًا بضوابط العلم والأدب، تحول في عصرنا الحالي إلى أداة للفرقة والنزاع، حيث بات كثير من الناس يختلفون بغير علم أو أدب، مدفوعين بالتعصب والهوى، ومحاولة إلغاء المخالف وتهميشه. فكم رأينا اليوم من صراعات فكرية وفقهية بين أبناء الأمة، لم تُبنَ على أسس علمية، بل كانت قائمة على الاتهام المتبادل، والتكفير، والتبديع، مما جعل الاختلاف وباءً يمزق الأمة بدل أن يكون رحمةً لها.

وقد حذر العلماء من هذا النوع من الاختلاف الذي يؤدي إلى الشقاق والفرقة، ومن ذلك قولهم:

•الإمام الأوزاعي (رحمه الله): “اصبر نفسك على السنة، وقف حيث وقف القوم، وقل بما قالوا، وكفَّ عمَّا كفُّوا عنه، واسلك سبيل سلفك الصالح؛ فإنه يسعك ما وسعهم.” (اللكائي، شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة).

•الإمام النووي (رحمه الله): “الإجماع حجةٌ قاطعة، والاختلاف ليس بحجة، إلا أن يكون اختلافًا في الفروع سائغًا، فلا ينكر فيه على المخالف.” (المجموع شرح المهذب).

•الإمام ابن القيم (رحمه الله): “إذا كان الاختلاف يوجب التهاجر والتقاطع والتدابر، فهو شر يجب دفعه، وإن كان الاختلاف في الأمور الاجتهادية، فلا ينبغي أن يكون سببًا للعداوة والبغضاء.” (إعلام الموقعين).

أثر الاختلاف المذموم على الأمة في هذا الزمان:

لقد كان الاختلاف بين العلماء في الماضي بمثابة ثراء فكري وتعددٍ في زوايا النظر، مما وسّع دائرة الفقه وفتح آفاقًا رحبة للناس في أمور دينهم.

إلا أن الاختلاف في عصرنا هذا انحرف عن مساره الصحيح، فلم يعد وسيلةً للوصول إلى الحق، بل أصبح أداةً للفرقة والتنازع والتناحر، مما أضعف الأمة وجعلها هدفًا سهلاً لأعدائها.

بل إن التعصب للرأي والتمسك بالاختلاف المذموم، سواء في المسائل الدينية أو الفكرية أو حتى السياسية، أدى إلى تمزيق وحدة المسلمين، حتى صاروا فرقًا وأحزابًا متناحرة، كل طائفة ترى أنها على الحق المطلق، وتتهم غيرها بالضلال والانحراف.

وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من هذا التفرق والتنازع، فقال:
“لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض” (متفق عليه).

مظاهر الاختلاف المذموم في عصرنا:

1.تحويل الخلاف الفقهي إلى معارك طاحنة: أصبح بعض الناس يجعل من الاختلاف الفقهي وسيلة للخصومات والطعن في المخالفين، حتى في المسائل التي يسوغ فيها الاجتهاد.

2.التعصب المذهبي والفكري: نشهد اليوم تعصبًا شديدًا داخل المذاهب والتيارات الفكرية، حيث يُلغى المخالف وتُرفض كل الآراء التي لا تتوافق مع رؤية فريق معين.

3.الإقصاء والتكفير: أدى سوء فهم الاختلاف إلى انتشار ظاهرة التكفير والتبديع، فأصبح بعض الناس يُكفّرون أو يُبدّعون كل من يخالفهم، مع أن العلماء اختلفوا قديمًا في قضايا كبيرة دون أن يُخرج أحدهم الآخر من دائرة الإسلام.

4.تفكك الأمة سياسيًا واجتماعيًا: أدت الصراعات الفكرية والدينية والسياسية إلى تمزيق الأمة إلى دويلات وجماعات متناحرة، مما جعلها لقمة سائغة للأعداء الذين استغلوا ضعفها وتفرقها.

5.انتشار العداوة والبغضاء: حيث أصبح المسلمون يُعادون بعضهم البعض بسبب الاختلاف، وتحول الحوار الهادئ إلى سباب وشتائم، وأحيانًا إلى قتال وسفك للدماء، كما نشاهد في كثير من بقاع العالم الإسلامي.

تكالب الأمم علينا بسبب تفرقنا:
حينما دبَّ الخلاف بين المسلمين وتفرقوا، تسلطت عليهم الأمم الأخرى، وأصبحوا عرضةً للتآمر والاحتلال والاستعمار، كما قال النبي ﷺ:
“يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، قالوا: أوَ من قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعنَّ الله المهابة من قلوب عدوكم، وليقذفنَّ في قلوبكم الوهن. قيل: وما الوهن؟ قال: حب الدنيا وكراهية الموت” (رواه أبو داود).

وهذا ما نراه اليوم، حيث تمزقت الأمة الإسلامية إلى طوائف متناحرة، وأصبحت فاقدة لقوتها وهيبتها بين الأمم، مما سهل على الأعداء التدخل في شؤونها، ونهب خيراتها، ونشر الفتن بين أبنائها.

السبيل للخروج من هذه الفتنة:

إن الخروج من هذا الواقع المرير لا يكون إلا بالعودة إلى روح الإسلام الحقيقية، التي تدعو إلى التسامح، وقبول التنوع، وتقدير الاختلاف المحمود، والالتزام بأدب الحوار، والبعد عن التعصب والتطرف. فكما كان الاختلاف قديمًا رحمةً للأمة، يجب أن يكون كذلك اليوم، لا أن يتحول إلى سببٍ للعداوة والتشرذم.

الخاتمة: كيف نعود إلى الاختلاف المحمود؟

إن الفرق بين اختلاف السابقين واختلاف المعاصرين واضح وجلي، فقد اختلف العلماء قديماً بعلم وأدب، فلم يطعن أحدهم في دين الآخر، ولم يتهمه بالبدعة أو الضلال، بل كانوا يتقبلون اختلافهم بروح التسامح والمحبة. أما اليوم فقد تحول الاختلاف إلى معارك فكرية ومذهبية، يُستخدم فيها التخوين والتكفير والتشهير.

إن العودة إلى أدب الاختلاف الذي سار عليه العلماء في الماضي، وتعلم ضوابط الاجتهاد وأصول الحوار، هو السبيل الوحيد لإنقاذ الأمة من التفرق والتشرذم. فلا بد أن يدرك المسلمون أن الاختلاف في الفروع أمر طبيعي، لكنه لا يجوز أن يكون سببًا للعداوة والبغضاء، وأن يتعلموا قبول الرأي الآخر واحترام المخالف، دون تعصب أو تشدد.

كما يجب أن يكون العلم هو الأساس في كل خلاف، لا الهوى ولا الجهل، وأن تُرد المسائل إلى أهل العلم المتخصصين، بدل أن تكون ساحة مفتوحة لكل من هب ودب.

أسأل الله أن يجمع قلوب المسلمين على الحق، وأن يجعل اختلافهم اختلاف رحمةٍ لا فرقة، وتنوعٍ لا تنازع، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
والحمد لله رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *